الإثنين ١٠ نوفمبر ٢٠١٤
مع أن أي مقارنة لا تخلو من مجازفة وتعسف، فإن تشبيه أوضاع منطقتنا راهناً بما شهدته بلدان أوروبا في العصور الوسيطة له ما يبرره من عدة أوجه: حروب دينية وطائفية وصراعات أهلية مدمرة، وصراع أفكار محتدم بين حركية تشد للماضي والتقليد وديناميكية تنزع للتحديث. الفرق الجوهري بين الحالتين هو الأطر القانونية والمؤسسية التي أبدعها الغرب الحديث للخروج من أزماته هي نفسها التي تم تصديرها إلى المجال العربي الإسلامي، دون أن تؤدي الدور نفسه وتفضي للنتائج نفسها حسب ظاهر الأمور. وللتذكير فإن هذه الحلول التي ابتكرها العقل السياسي الأوروبي تمحورت حول آليتين كبيرتين: الدولة الوطنية المدنية والديمقراطية التمثيلية التعددية، وليس من الصحيح أنهما آليتان مترابطتان عضوياً لا في التصور والتزامن. ودون الإسهاب في معطيات التاريخ السياسي الأوروبي ومساراته الفكرية، نكتفي بالقول إن الدولة الوطنية السيادية هي التي ورثت السمة الإطلاقية للدين من خلال امتصاص واستيعاب مفهوم «الحق الإلهي» بفك ارتباطه مع الملل والطوائف المتصارعة وربطه بالكيان الجماعي المشترك، مما مهد الطريق للنظم العلمانية التي هي الترجمة الموضوعية لهذه النقلة داخل نموذج «الحق الإلهي». ومن هنا يمكن القول إن هذا النموذج الإطلاقي في تصوره الأحادي للجسم السياسي لا يستقيم مع مفهوم التعددية والتمثيل الذي يفترض غياب التجانس في المجتمع، وينطلق من غياب قطب ناظم وضابط للهوية الجماعية المشتركة. ولذا فإن الإشكال الكبير…
الإثنين ١٥ سبتمبر ٢٠١٤
علّق الفيلسوف الفرنسي «ميشال أونفراي» على الأحداث الأخيرة في العراق بالقول إن الحركة «الداعشية» الإرهابية المتطرفة تترجم التصور الإسلامي الذي حسب زعمه غير مؤهل عقدياً وقيمياً لإنتاج منظور قيمي يحترم ذاتية الإنسان وقيمه. لا يهمنا كثيراً كلام الرجل الذي لايخفي عداءه للدين إجمالاً، ويمثل اليوم أحد أخطر وجوه الإسلاموفوبيا الغربية التي تزايد صوتها في الآونة الأخيرة إثر استفحال موجة التطرف الديني المسلح، بيد أن الموقف الذي عبر عنه يلتقي مع كتابات فلسفية واجتماعية أكثر رصانة، ذهبت إلى القول إن التقليد الإسلامي لا يتضمن منظوراً أخلاقياً، بل يقوم على محض الأمرية التشريعية القائمة على نفعية الجزاء والعقوبة، ذكر لي الصديق رضوان السيد أن كبير المستشرقين الألمان المعاصرين جوزف فان آس صارحه بهذا الحكم. من الواضح أن خلفية هذا التصور هو المفهوم الكانطي للأخلاق الذي سيطر على الفكر الحديث، بما فيه الفكر اللاهوتي، البروتستانتي على الأخص الذي كان كانط نفسه قريباً منه (رغم أن هيغل اعتبر من منظور مسيحي مغاير أن أخلاقية كانط ذات مرجعية يهودية، باعتبار أنها تخلت عن محورية لاهوت الحب، واكتفت باستبطان سلطة القانون الإكراهية عبر نقلها من هيمنة الإله الخارجي إلى الذات الفردية). يقوم المفهوم الكانطي للأخلاق كما هو معروف على معيار الواجب، أي الحكم القطعي الكوني القابل للتعميم بدلاً من معيار الفضيلة، الذي يتمايز فيه الناس حسب…
الإثنين ٠٨ سبتمبر ٢٠١٤
حكومة وبرلمان في طبرق، وحكومة أخرى ومؤتمر وطني في طرابلس، تبدو الصورة في ليبيا واضحة: صراع شرعية بين مجلسين منتخبين وحكومتين صادرتين عنهما، بيد أن هذه الصورة لا تصمد أمام التمحيص بالنسبة لمن يعرف تعقيدات الوضع الليبي الذي نادراً ما يحظى بقراءة تحليلية موضوعية في الكتابات العربية السيارة. لا يمكن النظر إلى الوضع الليبي بمعطيات الشرعية الإجرائية باختزاله في صراع بين محطتين انتخابيتين وقوتين سياسيتين متناوئتين، فالصراع المحتدم في الساحة الليبية له وجهان: يتعلق أولهما بهندسة البناء السياسي في بلد يفتقد إلى الحد الأدنى من تركة الدولة الإدماجية المستقرة، ويتعلق ثانيهما بالصراع الإقليمي الأوسع المتعلق بالجغرافيا السياسية العربية الجديدة. بخصوص الجانب الأول، يتعين التنبيه إلى حالة الفراغ الهائل الذي خلفه انهيار حكم العقيد القذافي الذي لم يستند في عهده الطويل إلى أي قوة سياسية أو مجتمعية تكون دعامة للدولة التي فكك كل هياكلها الإدارية والمؤسسية، فحكم بمعادلة أمنية - قبلية ضمنت له الاستمرار في الحكم، في الوقت الذي قوض كل الأشكال الجنينية للمجتمع الأهلي وقضى على كل الأشكال السياسية المنظمة. لم تتوفر لليبيا مؤسسة عسكرية قوية ومنظمة على غرار مصر، ولا بنية إدارية وبيروقراطية فاعلة ومجتمع مدني حي كما هو الشأن في تونس، ولذا كان من الطبيعي أن تسد الفراغ المليشيات القبلية التي تزيد على ثلاثين مليشيا قوية، أبرزها مليشيا…
الإثنين ٣٠ يونيو ٢٠١٤
هل أصبحت القبيلة هي البديل عن الكيانات السياسية المنهارة في العراق وليبيا وسوريا واليمن، بعد أن برز للعيان أن ما تشهده هذه البلدان من أزمات داخلية حادة قوض جذرياً البناء المركزي للدولة؟ في العراق أدى تحالف العشائر السُنية مع قوات «داعش» وبقايا التنظيمات «البعثية» إلى السيطرة على مناطق الوسط، بما فيها المحاور والمنافذ القريبة من العاصمة بغداد، في الوقت الذي شكلت المجموعات القبلية المشتركة على الحدود العراقية السورية، مجالاً سيادياً ممتداً من دير الزور إلى الموصل وعلى خطوط الحدود مع الأردن وتركيا (قبائل جبور وشمر والبقارة). في ليبيا تدور راهناً حرب دامية بين الزعامات القبلية المسيطرة على أغلب مناطق البلاد والتنظيمات الإسلامية المتطرفة التي هيمنت على العديد من مدن الشرق الليبي (درنة وأجدابيا وبنغازي) بعد سقوط نظام القذافي كما لها وجود قوي في العاصمة طرابلس. والمعروف أن قبائل «التبو» الأفريقية قد استقلت عملياً بالجنوب الليبي في حين تسيطر قبائل الطوارق والأمازيغ على المجالين الجنوبي الغربي والغربي الشمالي وللقبائل الكبرى (كورفلة ورشفانة وترهونة)، ولها مليشياتها وفضاؤها الإقليمي، في وقت يحاول القائد العسكري اللواء خليفة حفتر استعادة بعض مقومات الدولة مدعوماً من قبائل «طبرق» والمجموعات القبلية الحليفة لها. في اليمن حالة مماثلة، حيث تتقدم القبائل المسلحة في الشمال المتحالفة مع الحركة "الحوثية" إلى حدود العاصمة صنعاء بعد أن أصبحت تهيمن عملياً على…
الإثنين ٢٣ يونيو ٢٠١٤
لم يجد الرئيس الأميركي باراك أوباما ردة فعل مناسبة على الزلزال العراقي الأخير سوى إسداء النصيحة للأطراف السياسية العراقية بالتحاور والتشارك في الحكم، وإرسال عدد محدود من المستشارين العسكريين لمساعدة حكومة بغداد على وقف تقدم متمردي «داعش» وحلفائهم الذين أصبحوا على أبواب العاصمة بغداد. الموقف الأميركي البارد يعبر عن مأزق دبلوماسي حاد إزاء أحد أهم الملفات الدولية الذي استأثر باهتمام واشنطن منذ حرب، 2003 التي شنت لهدفين هما: الحرب الاستباقية ضد الإرهاب، وتصدير الديمقراطية الليبرالية. وكانت النتيجة مزيداً من الإرهاب والعنف والاستبداد والإقصاء والتمييز الطائفي. المفارقة الكبرى أن الإدارة الأميركية وجدت نفسها في وضع يفرض عليها التنسيق مع إيران التي سلمتها مفاتيح البيت العراقي، بحيث تحولت الورقة العراقية إلى ورقة رابحة في المسار التفاوضي المستمر حول الملف النووي الإيراني. في هذا السياق، نحيل إلى التحليل المركز الذي قدمه الباحث السياسي الأميركي المرموق والنافذ «والي نصر»، وهو من أصل إيراني، في كتابه الأخير «الأمة التي يمكن الاستغناء عنها» the dispensable nation حيث بين أن السياسة الأميركية في المنطقة قامت على هدف عزل إيران بالتركيز على كبح تهديدها العسكري النووي من خلال آليتين متعارضتين للضغط والتأثير: فتح قنوات التواصل والعقوبات الاقتصادية، وقد استطاعت طهران تجيير الآليتين في اتجاه مصالحها الحيوية باستغلال الحاجة إليها في الملفات التي تخدمها (كإسقاط نظامي طالبان وصدام حسين)،…
الإثنين ٠٥ مايو ٢٠١٤
كثيراً ما يذهب الباحثون الاجتماعيون العرب في نقدهم الثقافي لواقع البنيات الاجتماعية العربية إلى أن مركزية ومحورية الجماعة في هذه البنيات يحول دون تشكل الذاتية الفردية الحرية التي هي الإطار القيمي للممارسة الديمقراطية التعددية. وإذا كان البعض يحيل إلى الأطروحة الخلدونية المعروفة حول المقومات العصبية لنظام السلطة والدولة في السياق العربي الوسيط بامتداداته الراهنة، فإن البعض الآخر يذهب إلى الحفر في الرؤية العقدية الإسلامية نفسها التي يرى أنها تقوم على نفي الفرد وذاتيته من منطلق أولوية الجماعة، التي هي الحقيقة الإنسانية الوحيدة المعترف بها في نظام الاجتماع الإسلامي. ينطلق هذا النقد من ثنائية الفرد- الدولة القومية التي تعبر عن ارتباط عضوي وتلازمي بين مقولة الذات في ذريتها ولا تعينها، أي انفصامها عن كل سياقات الهوية الجماعية بمختلف دلالاتها والدولة من حيث هي إطار تعايش وانصهار الخصوصيات الذاتية المتمايزة. وقد كنا توقفنا عند الجذور اللاهوتية البعيدة لهذا التصور للذاتية الفردية في المجال المسيحي الوسيط وتحولاته الراهنة في الخلفيات القانونية والسياسية وما تطرحه من إشكالات فكرية وعملية عويصة، فإن ما نريد أن نبينه هو أن مفهوم الجماعة في نظام الاجتماع الإسلامي الوسيط بلور تصوراً مغايراً لهذه الثنائية، مما يفسر الخلل النظري الكبير في تصور الإسلام السياسي المعاصر للدولة (الإسلامية ) بديلاً لمفهوم الجماعة كتعبير عن الهوية الكلية المشتركة. تتعين الإشارة هنا أن…
الإثنين ٠٣ مارس ٢٠١٤
في الرياض حيث كنت مؤخراً شاركت في ندوة «الإسلام السياسي والدولة» التي نظمت في إطار النشاط الثقافي لمهرجان الجنادرية الذي ينظمه سنوياً الحرس الوطني السعودي، وقد تمحور الجدل المحتدم حول هذا الموضوع الأساسي والراهن حول منزلة الدين في الشأن العمومي وخصوصية الإسلام في المسألة. وقد بدا لي من البيّن أن النقاش في المسألة الدينية- السياسية يعاني من اختلالين نادراً ما يتم الكشف عنهما: إغفال واقع التعددية المتزايدة في التصورات الفكرية والعقدية الناظمة للمجال العمومي، والتباين الواسع في المدونة التأويلية والاصطلاحية بين الاتجاهين الإسلامي السياسي والليبرالي الحداثي بخصوص مرجعيات الشأن العمومي ونمط تدبيرها. فبالنسبة للموضوع الأول، يلزم الاعتراف بأن المجتمعات العربية الإسلامية الراهنة لم تعد يجمعها تصور واحد ومنسجم للخير الجوهري المشترك، أي لم تعد تتفق في النسق القيمي الجماعي الذي كانت تؤطره تقاليد دينية أو ثقافية قبلية. ففضلاً عن التباين الواسع في فهم الدين نفسه بظهور أنماط تدين وتأويل شديدة التباين والتضارب، فإن اتجاهات واسعة في الحقل الاجتماعي لم تعد تصدر في منظورها للميدان العمومي عن مرجعية دينية. ومن هنا يمكن القول إنه بصرف النظر عن الخيارات الرسمية المعتمدة، فإن عموم المجتمعات العربية الإسلامية انخرطت في مسار التعددية الذي هو أرضية الليبرالية التعددية التي هي التعبير السياسي عن المقاربة الدنيوية (السيكولارية) للشأن الجماعي المشترك. وبخصوص الموضوع الثاني، نلمس بجلاء احتدام…
الإثنين ٢٧ يناير ٢٠١٤
أردوغان رئيس الحكومة التركي خاطب شركاءه الأوروبيين في بروكسل بالقول إنه لن يتراجع عن «تطهير» مؤسسة القضاء وإعادة بنائها، بعد أن تحولت إلى بؤرة للفساد والتآمر بعد تصفية المؤسسة العسكرية التي كانت طيلة تاريخ تركيا الحديثة العائق الأكبر أمام التحول الديمقراطي. أردوغان أضاف إلى الشرطة والقضاء والجيش جماعة «الخدمة»، التي أسسها الداعية الصوفي المقيم في أميركا «فتح الله جولن» التي اتهمها بالوقوف وراء التحقيقات الأمنية والقضائية التي استهدفت عناصر من محيطه العائلي الخاص وبعض أعضاء حكومته في سياق الكشف عن فضائح فساد تركت أثراً سلبياً متفاقماً على صورة تركيا ونموذجها الذي كان يقدم مثالاً للاحتذاء في العالم الإسلامي. إذا كانت الأجهزة العسكرية والأمنية والقضائية شكلت تاريخياً دعامة العلمانية الأتاتوركية وطالما اصطدمت بتيارات الإسلام السياسي في نسخها السابقة (الأربكانية)، فإن جماعة "جولن" كانت تعتبر الذراع التربوية والدعوية لحزب "العدالة والتنمية"، الذي تميز عن الأحزاب الإسلامية السابقة بانفتاحه على نخب الأناضول المحافظة، التي هي القاعدة الصلبة للجماعة. ومع أن الجماعة لم تكن منذ نشأتها قريبة من مشروع الإسلام السياسي، بل كانت أقرب للأحزاب الليبرالية المحافظة التقليدية (وعلى الأخص من رئيس الوزراء الأسبق تورجوت أوزال)، إلا أنها تحالفت موضوعياً مع أردوغان وصوتت قاعدتها العريضة لحزبه، وتمتعت بهامش واسع للحركة في عهده، بيد أنها لم تخف امتعاضها في السنوات الأخيرة من تنامي هيمنة أردوغان…