غسان شربل
غسان شربل
رئيس تحرير جريدة الشرق الأوسط

توقيت ترمب ومهمة وقفِ القتل

الإثنين ١١ نوفمبر ٢٠٢٤

منذ إعلانِ نتائجِ الانتخاباتِ الرئاسيةِ الأميركية، يعيشُ العالمُ على توقيتِ رجلٍ اسمُه دونالد ترمب. لم نعاينْ مثلَ هذا المشهدِ من قبل. لم يحبسِ العالمُ أنفاسَه حينَ سلَّمتْ روسيا في بدايةِ القرنِ مفاتيحَ الكرملين إلى رجلٍ غامضٍ جاءَ من أروقةِ الـ«كي جي بي» واسمُه فلاديمير بوتين، ولا حينَ تُوِّج شي جينبينغ إمبراطوراً على عرشِ بلادِ ماو تسي تونغ. نادراً ما يلتفتُ العالمُ إلى ساعتِه بسببِ إطلالةِ رجل. هل هِيَ هالتُه، أم هالةُ بلادِه، أم التقاءُ الهالتين؟ ثم إنَّ العالمَ عرفَه في ولايةٍ سابقةٍ وجرَّبَه، ورآه بعدها مطارَداً أمامَ المحاكمِ وفي وسائلِ إعلامٍ كبرى، ثم رآهُ يخوضُ السّباقَ مجدَّداً، يريدُ استعادةَ عظمةِ أميركا، يطلقُ الجُمَلَ القصيرةَ المسنونة، ويرقصُ، وينجو من محاولاتِ اغتيال، ويرفعُ قبضتَه، ويلمعُ الدَّمُ مع ربطةِ العنقِ الحمراء. نادراً ما يلتفتُ العالمُ إلى ساعتِه من أجلِ رجلٍ واحد، لكنَّه فعل. سادَ اعتقادٌ بأنَّ الأميركيين ألقوا حجراً هائلاً في بحيرةِ القريةِ الكونية، وتخوَّفَ كثيرون من تسونامي يُعيدُ ترتيبَ المقاعدِ في مناطقَ قريبةٍ وبعيدة، يعرفُ الأوروبيون أنَّه لا يفردُ للقارَّةِ القديمةِ موقعاً مميزاً في قراءةِ العالمِ بأخطارِه وحلوله. سبقَ أن وبَّخَهم؛ لأنَّهم يُلقون على أميركا مسؤوليةَ الدّفاعِ عنهم، ويَبخلونَ في دفعِ الأثمان، يعرفونَ أنَّه عازفٌ منفرد، وأنَّه لن يستأذنَ قبلَ إطلاقِ مفاجآتِه لا الرئيسَ الفرنسي، ولا رئيسَ الوزراء البريطاني، ولا المستشارَ الألماني.…

الخيط الأميركي

الإثنين ٠٤ نوفمبر ٢٠٢٤

هذه «أم المعارك». أكثرُ أهمية من نهائي مونديال كرة القدم، ومِن التَّربُّعِ على عرش الملاكمة، ومن جولاتِ تايلور سويفت. بضعُ ولايات متأرجحة ستمسُّ مصيرَ هذا العالم المتأرجح في السنوات الأربع المقبلة. تمسُّ الأمنَ والاقتصاد ومصيرَ الخرائط المرتبكة وملايين النازحين والمهاجرين. ستقول صناديقُ الاقتراعِ كلمتَها وتحدّد هُويةَ الممسكِ بهذا الخيط الأميركي العابرِ للخرائط والقارات. ولا حاجةَ للتذكير. سيّد البيتِ الأبيض هو سيد الاقتصادِ الأول في العالم. والآلة العسكرية الأكثر تطوراً في التاريخ. سيّد الأساطيلِ التي تتحرَّك في البحارِ والمحيطات كدولٍ صارمة مسلحةٍ حتى الأسنان. تُطمئنُ، وتردعُ. تلوّحُ، وتهاجمُ. تدافعُ عن المصالح والصورةِ وتحبط مغامرات وتدعم مغامرات. الانتخابات الأميركية ليست مجردَ شأنٍ أميركي. نتائجها تعني الحلفاءَ والأعداءَ معاً وسائرَ الموزعين في أحياء القرية الكونية. لا يستطيع أحدٌ تجاهلها أو التظاهرَ باللامبالاة. إنَّها صحنٌ إلزامي على مائدة العالم. أقوياءُ العالم ينتظرون كضعفائِه. النتائجُ تعني مصائرَهم ومشاريعَهم وهالاتهم. سيّد الكرملين رجلٌ قوي. يعرف نتائجَ الانتخابات قبل خوضِها. يتسلَّى بإخافة الأوروبيين والعالم من الوليمةِ النووية المحتملة إذا فكَّروا في هزيمةِ روسيا أو محاصرتها وإذلالِها. لكن فلاديمير بوتين يعرف أنَّ نهايةَ الحرب في أوكرانيا تحتاج إلى «توقيع» الرئيسِ الأميركي لا فولوديمير زيلينسكي. يعرف بوتين وطأةَ الخيط الأميركي. لولا هذا الخيطُ لأطلقَ قواتِه لاستعادة كلّ الأملاك السليبةِ التي استولى عليها الغربُ غداةَ انتحار الاتحادِ السوفياتي. لا يشعر…

هوكستين يسابق الأيامَ والألغام

الثلاثاء ٢٩ أكتوبر ٢٠٢٤

يسابق آموس هوكستين، المبعوثُ الأميركيُّ إلى لبنان، الوقتَ. حفنةُ أيَّامٍ تفصلُ العالمَ عن موعدِ الانتخاباتِ الرئاسية الأميركية. وحين تنتظرُ أميركا ظهورَ اسمِ سيّدِ البيتِ الأبيض ينتظرُ العالمُ معهَا. يقرأ العالمُ عن تدهورِ الغرب والانحسار الأميركي. يقرأ عن صُعودِ الصّين وعن مجموعة «بريكس» وثقلِها الاقتصادي والسُّكاني. يقرأ عن الصُّعود الصيني و«غروب شمس الغرب». ولكنْ حين تقتربُ الانتخاباتُ يكتشفُ العالمُ أنَّ أميركا لا تزال أميركا. وأنَّها المِفتاحُ حتى للّذين يقولونَ إنَّها المشكلة. يعرفُ أهلُ الشَّرق الأوسط هذه الحقيقة. هجاءُ أميركا لا يغيّر الصورةَ الواقعية. لا يخرجُ الشَّرقُ الأوسطُ من حروبِه إلَّا بعد المرورِ في المعبر الأميركي. فلاديمير بوتين منغمسٌ في الحربِ الأوكرانية. تدخُّلُه العسكريُّ في سوريا لم يضاعفْ حضورَه في حلّ أزماتِ المنطقة. تبقَى الحاجةُ إلى الرَّجلِ الجالسِ في البيت الأبيض حتى ولو كانَ غيرَ مرشَّحٍ وتتساقطُ من شجرةِ ولايتِه آخرُ الأوراق. يبذلُ هوكستين حالياً محاولةً أخيرة. سيعبّر لبنيامين نتنياهو عن ارتياح واشنطن لأنَّ الرَّدَّ الإسرائيلي على إيران «عبَّر عن الرَّغبة في عدم توسيع الحرب». سيجددُ وقوفَ أميركا إلى جانبِ الدَّولةِ العبرية مستشهداً بارتياح الرَّئيس جو بايدن إلى تعاون نتنياهو معه في ضبطِ لائحة الأهداف في إيرانَ بعد شهورٍ من سوء التَّفاهمِ وغيابِ الوِد وحضورِ الشتائم. وقد يكون هوكستين يراهنُ على وقفٍ مؤقتٍ للنَّار كَلَفتةٍ من نتنياهو حيالَ كامالا هاريس واحتمال نجاحِها…

أي حزب وأي لبنان وأي إيران؟

الإثنين ٣٠ سبتمبر ٢٠٢٤

مؤلمةٌ المشاهدُ الوافدة من لبنان. مخيفةٌ ومروعة. جثثٌ تقيم تحت الأنقاض وبيوتٌ محروقة أو مهجورة. مليون نازح. رقم قياسي في تاريخ البلاد. بعضهم يفترشون الأرضَ في قلب العاصمة وينام آخرون في سياراتهم لتعذر العثور على سقف. كائنات معدنية قاتلة تجتاح الخريطة بكاملها. تنقل رائحة الموت إلى كلّ الجهات ومعها رائحة القلق والذعر. يشعر اللبناني العادي بالظلم والبؤسِ والعزلة. ليس لديه رقمٌ للاتصال به. لا رئيس في القصر للرهان على صوته أو دوره. ورئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي يفعل ما في استطاعته. ورئيسُ مجلس النواب نبيه بري لا يملك تفويضاً لبلورة صيغة كافية لإقناع الوسيط الأميركي بلجم آلة القتل الإسرائيلية. ولا يستطيع المواطن الاتصال بـ«حزب الله» الذي يملك ترسانة صاروخية كان يعتقد أنَّها كافية للردع. ثمة من يتحدَّث عن «عشرة أيام هزَّت لبنانَ وركائزه». بدأت بانفجار أجهزةِ الاتصال في السابع عشر من الشهر الحالي وانتهت في السابع والعشرين منه مع اغتيال الأمين العام للحزب حسن نصر الله. تعرَّض الحزب لما يشبه الكسر في عموده الفقري. تعرض لضربة غير مسبوقةٍ أصابت قياداته وآلته العسكرية وأظهرته مكشوفاً في بلد مكشوف. ليس بسيطاً أن يتَّخذ بنيامين نتنياهو قراراً بحجم اغتيال نصر الله وهو يعرف أنَّه اللاعب الأولُ في لبنان ولاعبٌ إقليمي بارز في «محور الممانعة» الذي تقوده إيران. ويعرف أنَّ هذا الاغتيال لا…

ما أصعب الخروج من الحرب!

الإثنين ٢٦ أغسطس ٢٠٢٤

الرجوعُ من الحرب أصعبُ من الذهاب إليها. على العائد أن يقدّمَ روايةً مقنعة. أن يفسّرَ ويبرّر. وأن يقارنَ بين الخسائرِ والأرباح. وبين الأهدافِ التي أعلنت وما تحقَّق منها. وأن يقولَ إن كان يشعر أنَّه أكثرُ أماناً بعد وقف النار. وإن كانت نهايةُ الحرب مجردَ هدنة استعداداً لحروب أخرى. كانت نهاياتُ الحروبِ أسهلَ لأنَّها كانت تجري بين جيوش تأتمر بأوامرِ حكومات. بعضُ حروب اليوم مختلف، خصوصاً حين يتواجه جيشٌ مع فصائلَ ذاتِ امتداد إقليمي. والأخطرُ من كلّ ذلك أن تعتقدَ أطرافُ الحرب أنَّها حربُ وجود لا يمكن التراجعُ فيها. ما أصعبَ الخروجَ من الحرب حين يصعب الاحتكامُ إلى وسيط محايدٍ ونزيه يرمّم معادلة المصالح ويوزع الضمادات! أخطرُ ما في الحرب الجوالة التي يعيشُها الشرقُ الأوسط منذ السابعِ من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي هو أنَّها تدورُ في وضعٍ دولي شديدِ الخطورة. يعيشُ العالمُ اليومَ بلا صماماتِ أمان. مجلس الأمن يشبه عيادةً طبيةً فقد العالم ثقتَه بقدرة أطبائِها ونجاعةِ عقاقيرها. والعلاقاتُ داخل نادي الكبار هي الأسوأ منذ عقود. تكفي الإشارةُ إلى أنَّ جندياً روسياً يقتل بقذيفةٍ أميركية أو ألمانية أو بريطانية. وأنَّ أسلحةً غربيةً مكَّنت أوكرانيا، وفي السنةِ الثالثةِ من الحرب، من التوغّلِ داخل الأراضي الروسية نفسِها في مشهدٍ غيرِ مسبوق منذ الحربِ العالمية الثانية. أسكرَ المشهدُ فولوديمير زيلينسكي فوصفَ سيد الكرملين بأنَّه…

حافة الحرب الواسعة وفخ نتنياهو

الإثنين ٠٥ أغسطس ٢٠٢٤

يخشى بنيامين نتنياهو نهاية الحرب. ستكون هناك لجان تحقيق وأسئلة كثيرة عن المسؤوليات والإخفاقات. المسألة بالنسبة إليه تكاد تكون قصة حياة أو موت. لكن لا يمكن اختصار المسألة في تمسك نتنياهو بمكتبه للاحتماء من المحاسبة. صحيح أن توقيع رئيس الوزراء لا بد منه في أي عملية اغتيال لعدو من الصف الأول يمكن أن ترتب انعكاسات أمنية وسياسية، لكن الصحيح أيضاً أن المؤسسة العسكرية والأمنية هي التي تضع لائحة الخيارات على طاولة رئيس الوزراء ليفاضل بينها. أغلب الظن أن الاغتيالين الأخيرين في بيروت وطهران عبَّرا عن رغبة المؤسسة الأمنية الإسرائيلية في استعادة القدرة على الردع التي تعرضت لاهتزاز عميق بعد انطلاق عملية «طوفان الأقصى». معركة الصورة كانت دائماً مهمة بالنسبة إلى إسرائيل. تعتقد أن شعور الأعداء بالثمن الباهظ الذي يمكن أن يترتب على هجماتهم قد يدفعهم إلى صرف النظر عن تنفيذها. للتوقيت في الحروب أهمية استثنائية. جاء الاغتيالان بعد وقوف نتنياهو وللمرة الرابعة أمام الكونغرس الذي صفَّق له طويلاً رغم الغيابات التي لا يمكن إلا ملاحظتها من دون المبالغة في تقدير مفاعيلها. وفي ذلك الخطاب ورد ذِكر إيران 27 مرة وغاب حديث وقف النار. ثمة من يعتقد أن نتنياهو استنتج من رحلته أن الولايات المتحدة لا تستطيع الاستقالة من الدفاع عن إسرائيل على رغم عتاب جو بايدن وملاحظات كامالا هاريس. ويرى…

الحوثيون والدور المفخخ

الإثنين ٢٤ يناير ٢٠٢٢

كان من الطبيعي أن تدينَ جامعة الدول العربية الاعتداءات الحوثية الأخيرة على الإمارات والسعودية. تحويل الانتهاكات العلنية لأجواء الآخرين بالصواريخ والمسيرات إلى ممارسة شائعة هو ترسيخ لسلوك إرهابي بالغ الخطورة على المنطقة واستقرارها. وإذا كانت الميليشيات نجحت في استباحة الخرائط مستفيدة من تصدع بعض الدول، فإنَّ الصواريخ والمسيرات تحاول أن تؤدي في أجواء المنطقة دوراً شبيهاً بأدوار الميليشيات على الأرض. احترام الحدود الدولية شرط من شروط الاستقرار في كل مكان. لم تخرج أوروبا من دوامة العنف والدم إلا حين اتخذت قراراً صارماً باحترام الحدود الدولية، وإحالة أي خلاف إلى المحاكم والامتناع عن استخدام القوة لتسوية الخلافات. ومن شروط الاستقرار دخول البلدان عبر بواباتها الشرعية وبمعرفة سلطاتها، والامتناع عن ضخ الأسلحة والأموال في عروق مجموعات موتورة تبحث عن فرصة للانفجار بمجتمعاتها أو الانقلاب على توازنات راسخة. لا شيء يعطي أي دولة الحق في انتهاك الحدود الدولية، والتسرب إلى المعادلة الداخلية في دولة أخرى بذريعة عرقية أو مذهبية أو آيديولوجية. لا خلاف في العلن حول المبادئ التي يفترض أن تحكم الاستقرار في العالم. تبدأ المشكلة من غياب المؤسسات التي تستطيع السهر على احترام المبادئ وردع من يسوّل لنفسه الخروج عليها. وتتحوّل المشكلة إلى مأساة حين تتعمد دولة إقليمية بارزة أو دولة كبرى إطلاق رياح زعزعة الاستقرار متذرعة بوجود مظالم أو مخاوف أو…

فلاديمير الكبير والملعب الأوكراني

الإثنين ٢٠ ديسمبر ٢٠٢١

القصة ليست أوكرانيا وحدها. إنها أبعد وأخطر. على روسيا تصفية حساباتها في الوقت المناسب. والوقت المناسب يعني وجود قائد استثنائي يصلح للقيادة الخطرة عند المنعطفات. لا يتعلق الأمر بأوكرانيا وحدها. يتعلق أيضاً بحلم أوروبي قديم بترويض روسيا وتحجيمها. بحلم غربي بإرغام روسيا الكامنة تحت الثلج على فتح دفاترها واعتناق وصفات الغرب التي تزعم الانتصار. مبارزة حضارية وثقافية تختلط فيها الأسلحة بالمخاوف والمصالح وشراهة الأدوار. أوكرانيا دولة مصابة بلعنة الجغرافيا. بين أهلها من يحلم بالالتحاق بالحديقة الأوروبية وترك السهوب الروسية لأهلها. وبينهم من يسلّم بالمصير المشترك للبلدين وكأنهما «شعب واحد في دولتين». الجغرافيا ظلم دائم. أوكرانيا تعرف هذه القصة تماماً كبلدان كثيرة في غابة العالم. القصة ليست أوكرانيا وحدها. إنها فرصة لهز صورة أميركا بايدن بعد اهتزازها لدى مغادرة أفغانستان. فرصة لوضع أميركا المنشغلة بـ«الخطر الصيني» أمام امتحان لا يمكن كسبه. لن تغامر واشنطن بإشعال حرب عالمية من أجل أوكرانيا. كل التهديدات الغربية تتحدث عن «عواقب وخيمة» في حال اجتاحت القوات الروسية أوكرانيا. وهذه العواقب تعني عقوبات اقتصادية ودبلوماسية. والقيصر لا يخاف وإنْ كان من المرجح أن يسقط أوكرانيا من الداخل بدلاً من الاضطرار إلى غزوها. يلعب بأعصاب الزعماء الغربيين وجنرالات «الناتو». يحرك قواته على الحدود ويوقظ المخاوف. ثم يقدم شروطاً قاسية. كأنه يريد حرمان دول حلف الأطلسي من المكاسب التي…

«أوميكرون»… كما يتفقد القاتل مسرح الجريمة

الإثنين ٢٩ نوفمبر ٢٠٢١

ظهورُ متحورٍ جديدٍ من «كورونا» لم يكنْ مستغرباً. سبقَ للعلماء أنْ حذَّروا من ذلك. واستخدموا هذه الذريعةَ في محاولة إقناع الخائفين والمترددين والتائهين الذين يعتبرون دفعَهم إلى تلقِّي اللقاح نيلاً من حريتهم. وموقف الفئةِ الأخيرة فظيعٌ ومريعٌ. وإذا كانَ من حق المرء ألا يهتمّ بسلامتِه الشخصية فالأكيدُ أنْ ليس من حقه الإقدام على أي ممارسة تهدِّد سلامة الآخرين ومنها الامتناع عن تلقي اللقاح. كان ظهورُ المتحور وارداً أو متوقعاً، لكن لم يتوقع أحد أن يمتلكَ هذه القدرة الكبيرة على إقلاق الأفراد والدول. ها نحن الآن أمام طبعة جديدة ومنقَّحة من الوباء تحمل اسم «أوميكرون». وإذا كان لا بدَّ من بعض الوقت للتعرف من كثب على الزائر الجديد، فإنَّ المعلومات الأولية أوحت بأنَّه أكثرُ شراسة وقدرة على الانتشار السريع من الطبعات السابقة من الوباء. في الشهور الماضية بدا العالم في صورة من تمكَّن من الخروج من تحت وطأة الضربة التي شكَّلها ظهورُ الوباء. استعاد الاقتصاد شيئاً من عافيته وتفرَّغ لإحصاء خسائره والتفكير في أفضل السبل لمواجهتها. كان الأمرُ بحجم نكبة كاملة قيمتها تريليونات الدولارات، وإصابات بالغة في قطاعات عدة بينها السياحة والطيران، فضلاً عن خسائر هائلة في موضوع التعليم. وعلى رغم قسوة الأرقام استرجع العالم قدراً من حيويته وثقته بقدرته، خصوصاً مع ارتفاع نسب التلقيح والحديث عن حبوب تقترب من الأسواق.…

الخرائط المريضة وذاكرة النسيان

الإثنين ٠٤ أكتوبر ٢٠٢١

العالم آلةٌ هائلةٌ لا تتوقَّف عند التفاصيل. ذاكرته انتقائيةٌ وتتقن النسيان. لا يستطيع قطار الحياة انتظارَ الدول المريضة لتستكمل رقصة فصائلها. لا يستطيع أيضاً التعاملَ مع القواميس القديمة لميليشياتها. قدر القطار أن يتابعَ رحلته. الدول المريضة تبقى على الهامش. تفقد استقرارها ودورها وفرصها. لا يستطيع الخارج أن ينوبَ عن الأبناء في إبرام التسويات والحلول وبناء المؤسسات. هذه مسؤولية أبناء الخرائط أنفسهم مهما تصاعدت كراهياتهم ولمعت خناجرهم. المشاعر الوطنية مشبوبة بطبيعتها. نرضع مع الحليب هذا الميلَ المفرطَ إلى المبالغة. ربما تحاول الدول الصغيرة أحياناً أن تعوّض بالأناشيد افتقارها إلى الثروات التي تستحق التسمية. هكذا تستحكم الأوهام في علاقاتنا ببلداننا وعلاقاتنا بالعالم. بلدنا فريد ومميز. حاجة داخلية وإقليمية ودولية. منارة ومنبر حوار. موعد بين الحضارات والثقافات وفرصة تلاقٍ. إنَّه رسالة أكثر منه دولة. جذوره ضاربة في أعماق التاريخ وإشعاعاته تشير إلى طريق المستقبل. لن يسمح العالم بهز استقراره أو انهياره. لا أريدُ جرحَ مشاعر أي قارئ. لهذا أبدأ بلبنان. توهّم اللبنانيون أنَّ الخريطة الصغيرة حاجة ماسة للآخرين. عوَّلوا على مظلات بدت مثقوبة وحمايات تبدَّت غيرَ موجودة. صدَّقوا ابتسامات السفراء وعبارات المبعوثين. أين لبنان؟ موت هذا البلد لا يقلق العالم. لا ينام على ترسانة نووية أو على سلعة استراتيجية. وإذا سلَّمنا جدلاً بأنَّه كان حاجة ذات يوم فهو لم يعد كذلك. لقد فرَّط…

ما أقسى الدرس الألماني!

الإثنين ٢٧ سبتمبر ٢٠٢١

كان الحديث عن السودان والثمن الذي يدفعه بسبب تحول رئيسه عمر البشير مطلوباً لدى المحكمة الدولية. غلبتني البراءة فقلت يكفي أن يستقيل البشير حتى لو لم يسلم نفسه فمصلحة الشعب السوداني يجب أن تتقدم. ابتسم الرئيس جلال طالباني، وأجاب: «إقامتك في لندن أنستك أننا في الشرق الأوسط. هنا يغادر الشعب لا الحاكم». ما أصعبَ أن تكون صحافياً في الشرق الأوسط. وما أفظع أن تكون من لبنان. تستغرب وجود حكومات تعمل من دون احتقار الدستور. وتستهجن وجود مسؤول لا يستبيح المال العام. تحسد الدول التي تنجب قامات تصلح جسوراً إلى الاستقرار أو مظلات له. لقد استحكمت الرداءة وشاع الإسفاف وسقط القرار في أيدي الخبراء في تفكيك الدول وإتلاف المدن. صرنا لا نصدق أن رئيساً يختار التقاعد بإرادته من دون أن يطرده الشعب من مقره أو يلف الحبل حول عنقه. والحقيقة هي أنه لولا ذلك النهار لما كان لهذه القصة أن تكتب. اليوم الذي شهد سقوط الجدار وغير مصير ألمانيا وأوروبا وتلك الفتاة التي تفوقت في ألمانيا الشرقية في مادتي الرياضيات واللغة الروسية. لولا ذلك اليوم لكانت متقاعدة بعد عمل طويل في الأبحاث بعد نيلها الدكتوراه في علوم الفيزياء. وكان من الصعب توقع مستقبل سياسي لها في بلاد إريش هونيكر. صمتها لم يكن من النوع الجذاب للحزب الشيوعي الحاكم والأوصياء الروس عليه.…

البيت الأبيض في عهد «كورونا»

الإثنين ١٨ يناير ٢٠٢١

هذا أسبوع المشاهد بامتياز. ولا تكون المشاهد طاغية ولامعة إلا إذا كانت أميركية. هذا على الأقل ما يحدث حتى الآن. لم ندخل بعد زمن المشاهد الصينية على رغم التكهنات باقترابه. الأكيد أنَّه سيكون مختلفاً في حال حدوثه. أميركا شرفة مفتوحة وبلا أسرار. الصين قلعة صارمة والغموض فيها من حراس الهيبة. في الأولى يجرؤ صحافي على نشر الغسيل غير الناصع لمراكز القرار من دون أن تصدمَه سيارة مسرعة أو تدفعه تقلبات عاطفية إلى القفز من الطبقة العاشرة. وعلى رغم وقوع الكرملين منذ بداية القرن الحالي في قبضة رجل بارع في تركيب المشاهد وصناعة الصورة ورعايتها وتحريك البيادق والأرقام، فإنَّ العالم لا يزال أسيرَ المشاهد الأميركية. سيكون بعد غدٍ يوم المشاهد بامتياز. الرجل الذي ملأ الدنيا وشغل الناس الذين انقسموا بشدة حوله سيغادر البيت الأبيض. هذه أميركا وهكذا يقول الدستور. في العشرين من الجاري ينتهي التفويض الذي كان الشعب منحه لدونالد ترمب ليقود البلاد التي يمكن القول، مع شيء من التحفظ، إنَّها تقود العالم. لقد فوّض الأميركيون، عبر انتخابات رفضت المحاكم التشكيك في صدقيتها، رجلاً اسمه جو بايدن بقيادة السفينة في الأعوام المقبلة. والدستور واضح وعنيف ولا يتسامح. لا يحق لقبطان السفينة السابق تأخير موعد مغادرته تحت أي ذريعة. هذه أميركا لا تقبل فكرة الرئيس الخالد التاريخي المقيم إلى الأبد. يمكن للرئيس…