غسان شربل
غسان شربل
رئيس تحرير جريدة الشرق الأوسط

السنة الوباء… ذهبت فلتذهبْ

الإثنين ٢٨ ديسمبر ٢٠٢٠

الكومبيوتر أفضلُ من الإنسان. يستطيع أنْ يمحوَ جملة أو مقالة، ومن دون أن تخلّفَ أي أثر. يشطبُها نهائياً من ذاكرته وملفاته. تمنَّيت لو أنَّ الإنسانَ يمتلك هذه القدرة الذهبية. كأنْ يستدعي هذه البقعة المعتمة ويشطبُها إلى غير رجعة من عمره وذكرياته. ولا بأس أن تضيعَ سنة من رصيد يبقى متواضعاً مهما طال، فهذه السنة - التهمة لا تستحق غير مقابر النسيان. وتنتابُ المرءَ أحياناً صورٌ لا تستحقُّ النشر. كأنْ يحلم باستدعاء هذه الجريمة المتمادية شهراً شهراً، ويطلق عليها النار تباعاً لإفراغ هذه الرغبة العميقة في الثأر من قاتل خاطبنا بالجثث فور وصوله. في مثل هذه الأيام من السنوات السابقة كنَّا نعاتب الأيام لأنَّها تفرُّ من بين أصابعنا. وكنَّا نحاول اعتقال الوقت الهارب بالمواعيد الجميلة وساعات الودّ والسهر وتبادل الهدايا. وكان الوقت يتَّسع للعناق والتعبير عن الأشواق والتحلُّق حول الموائد والضحكات. والحقيقة هي أنَّنا لم نكن نقدّر نعمة العيش العادي حقَّ قدرها. العيش بلا الكمامات والمطهرات وسهام الشك في كل بشري يقترب. لم نعرف متعة العيش العادي إلا حين دفعنا الزائر القاتل إلى حوافّ الجحيم. لم نجرب مثل هذه القسوة المتمادية من قبل. البريطانيون الذين ذاقوا أهوال الحرب العالمية الثانية يقولون إنها أقل وحشية من هذه السنة التي أنشبت أظافرها في أعناقنا وأرواحنا. يروون أنَّ المشاعر الوطنية والقومية والإصرار على مواجهة…

هل تغيرت قواعد اللعبة؟

الإثنين ٠٧ ديسمبر ٢٠٢٠

هل اصطدمَ برنامج «الانقلاب الكبير» الذي أطلقته إيران الثورة قبل أربعة عقود بصخور الواقع الدولي والإقليمي؟ وهل يتحتَّم على النظام الإيراني الحالي تجرُّع مرارة إعادة النظر في الأحلام الكبيرة التي هندسها وروج لها؟ وهل تستطيع طهران تقبل واقع أنَّ الأوراق التي تستطيع تحريكها اليوم أقل من الأوراق التي كانت في حوزتها قبل سنوات؟ وهل عليها الاعتراف بأنَّ سنوات دونالد ترمب أحدثت تغييراً لا يمكن إنكاره في الملفات المتعلقة بها؟ الشرق الأوسط حقلُ أسئلة لا تعثر دائماً على إجابات. هل يمكن أن نستيقظ ذات صباح على نبأ انغماس انتحاري مؤيد لإيران في سفارة أميركية أو موقع أميركي والتسبب بسقوط عشرات الضحايا على غرار ما حدث سابقاً على أرض لبنان؟ وهل تستطيع إيران تحمّل تبعات ممارسة من هذا النوع نجحت في تمرير شبيه لها سابقاً؟ وهل يمكن القول إنَّ اللغة التي اعتمدها ترمب في مخاطبة إيران حرمتها من القدرة على توجيه مثل هذه الضربات إلى أميركا حتى لو غاب ترمب؟ تبدو معادلات القوة في ختام ولاية ترمب غير ما كانت عليه قبل دخوله المكتب البيضاوي. هل تغير شيء ما أم أنَّ قواعد اللعبة تغيرت؟ هل تستطيع إيران إطلاق صواريخها على ميناء حيفا، وهل يستطيع حلفاؤها احتمال عواقب ذلك؟ واضح أنَّ الوضع في المنطقة اليوم يختلف تماماً عن الظرف الذي أتاح لإيران تفجير…

إيران وغياب الخطوط الحمر

الإثنين ٣٠ نوفمبر ٢٠٢٠

ساعةَ تلقيه نبأَ قتلِ العالمِ فخري زاده، «الصندوق الأسود» للبرنامج النووي، وجدَ المرشد الإيراني علي خامنئي نفسَه في وضع شبيه تقريباً بذلك الوقت الذي تلقى فيه نبأ قتل قاسم سليماني، على رغم الفوارق بين الرجلين. كان سليماني الأقرب إلى قلب المرشد، وكان حارس حلم «تصدير الثورة» إلى الإقليم. وثمة من يعتقد أن فخري زاده كان «سليماني الحلم النووي». وما يربط بين الحدثين هو أنَّ الأول تمَّ بأمر من دونالد ترمب، والثاني يُعتقد أنَّه نُفّذ بأمر من بنيامين نتنياهو، مستفيداً من «أسابيع الجمر» التي تفصلنا عن موعد انتقال البيت الأبيض إلى سيّده الجديد جو بايدن. المبالغة تقليد عريق في منطقتنا. نضخّم حجم الأحداث ونروح نتكهن حول الردود والأثمان. ومنطقتنا تساعد على ذلك. إنَّها منطقة العداوات التي لا تنتهي. والخناجر التي تتظاهر بالاستكانة، لكن من دون أن تتقاعد. منطقة ضربات وأخطار لم تتعلم من ولائمها الدموية القديمة والحديثة. لنترك الإفراط في المبالغات. يمكن العثور على بديل لأي رجل مهما كان لامعاً. يمكن إعادة إعمار أي منشأة مهما كانت حساسة. الأصعب هو معالجة الجروح التي تصيب الصورة. صورة النظام أو سيده أو الآلة الممسكة بخيوطه. ولا مبالغة في القول إنَّ إيران تتَّجه إلى ختام السَّنةِ الحالية مصابةً بجرحين كبيرين. الأول افتتحت به السَّنة وهو الهجوم الأميركي الذي قتل في بغداد الجنرال سليماني الذي…

تواقيع جديدة في عالم تغير

الإثنين ١٤ سبتمبر ٢٠٢٠

في تاريخ الجهود المبذولة لإنهاء النزاع العربي - الإسرائيلي صورٌ علقت بأذهان المتابعين من أهل الشرق الأوسط. صورة الرئيس أنور السادات يخطب في الكنيست الإسرائيلي، وبعدها صور توقيع اتفاقات كامب ديفيد حين تصافح السادات ومناحيم بيغن، وبدا بينهما الرئيس جيمي كارتر. ولم تكن الصور بسيطة، ولا الوصول إليها سهلاً. ثم صور ياسر عرفات يصافح في حديقة البيت الأبيض إسحاق رابين وشمعون بيريز، برعاية الرئيس بيل كلينتون. وهذه الصور كانت تعتبر قبل وقت قصير من حدوثها بمثابة صور مستحيلة. لقد فعل كل طرف أقصى ما يستطيع آملاً في شطب الآخر، لكن ذلك تعذر، فكان لا بدَّ من تبادل الاعتراف والتوقيع برعاية الوسيط الأميركي وضمانته. وفي باب الصور أيضاً، صور الملك حسين وإسحاق رابين، وبينهما بيل كلينتون، وبعدها صور التوقيع في وادي عربة. وفي الطريق إلى الصور لم تكن المفاوضات سهلة، ولم يكن تطبيق الاتفاقات سهلاً أيضاً. لكن بعد مرور عقود لا تزال معاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية قائمة، والأمر نفسه بالنسبة إلى المعاهدة الأردنية - الإسرائيلية، على رغم العواصف العاتية التي شهدتها المنطقة والشكوى من أسلوب إسرائيل في التعامل مع الاتفاقات وتفسيرها؛ خصوصاً لجهة علاقتها بالسلام الشامل في المنطقة. غداً سيلتفت أهل الشرق الأوسط مجدداً، وعلى اختلاف مواقفهم، إلى واشنطن، وتحديداً إلى البيت الأبيض، لأنَّ صوراً جديدة ستضاف إلى الصور السابقة،…

قسوة العيش بلا دولة

الإثنين ٢٤ أغسطس ٢٠٢٠

قسوة المَشاهد لا تحتاج إلى تفسير. شبان من الناصرية، في جنوب العراق، لم يجدوا غير الجرافات وسيلة لاقتلاع مراكز الأحزاب التي يعتقدون أنَّها تستكمل جرف بقايا الدولة العراقية لترسيخ حكم الغابة. وهو غضب مفهوم على جهات يتَّهمها المحتجون بقتل الناشطين أو خطفهم ومحو آثارهم. والحقيقة أنَّ عملية القتل الممنهجة التي مُورست في ساحات الاحتجاج في بغداد والمدن الأخرى تفوق القدرة على الاحتمال. إنَّها درجة عالية من الاستبداد والوحشية وانتهاك أبسط الحقوق مع قناعة راسخة لدى المرتكبين بالقدرة على الإفلات من العقاب. يزيد من صعوبة الوضع العراقي أنَّ بعض القوى التي لا تؤمن بالدولة العراقية ومؤسساتها وقوانينها، نجحت في التسلل إلى داخل الدولة وتنعم برواتبها وتسهيلاتها. ولأنَّ الأحزاب التي استُهدفت مقراتها هي أحزاب حليفة لإيران، ترتدي معركة استعادة حضور الدولة العراقية طابعاً داخلياً وخارجياً في آن. يريد المحتجون استعادة قرار الدولة العراقية من الفصائل العراقية المسلحة، وكذلك من الدور الإيراني الذي وفَّر لهذه الفصائل مظلة حماية دائمة. إذا كانت المَشاهد الوافدة من العراق تعبّر عن قسوة العيش بلا دولة فإنَّ مثل هذه القسوة يطل أيضاً من المشاهد اللبنانية رغم الاختلافات. سمعت عبر الشاشات شهادات شبان لبنانيين كثيرين. استوقفني عناد كثيرين منهم، وتمسكهم بحلم التغيير وإطاحة الطبقة السياسية الفاسدة، رغم ما أظهرته من براعة في الالتفاف والمخادعة والغدر لضمان استمرار سيطرتها ومصالحها.…

الخرائط المصابة بنقص المناعة

الإثنين ٢٩ يونيو ٢٠٢٠

علَّمتنا السنوات الماضية حجمَ المأساة التي تنتظر أهالي الخرائط التي تتصدَّع وتتحوَّل ملعباً للشهيات الإقليمية والإرادات الدولية. والحقيقة أنَّنا لم نتوقع، رغم معرفتنا بهذه الخرائط، أنْ تتَّصفَ بهذا القدر من الهشاشة، وأنْ تتسرَّبَ إليها الرياح سريعاً مهددة بإعادة تشكيلها بمعزل عن إرادات أبنائها. تدفعك المشاهد أحياناً إلى أسئلة غير جائزة أصلاً وبينها: هل يؤدي سقوط المستبد إلى سقوط الخريطة معه؟ وهل الخيط الأمني الصارم هو ما يحفظ وحدة البلدان المتعددة لأنَّه يمنع لهجاتها وألسنتها من التعبير عن نفسها؟ وهل سلامة الخرائط مرهونة بوجود رجل صارم وجيش لا يرحم، أكثر مما هي مرهونة بقرار قديم بالتعايش بين مَن حشرتهم صدف التاريخ والجغرافيا في بقعة معينة لا يسهل ترتيب الطلاق في حدودها؟ قبل عقد من الزمن كان زائر سوريا يشعر أنَّها دولة قوية. وكان شائعاً قبل ذلك القول إنَّ حافظ الأسد يُعدّ مفاوضاً بارعاً لأسباب عدة، في طليعتها أنَّه لم يسمح للخارج بامتلاك أوراق في الداخل السوري. وكان الزائر يخرج بانطباع أنَّ سوريا متماسكة وتلعب على أرض الآخرين، وأنَّ خريطتها باتت تتَّسم بقدر غير قليل من الحصانة. وها نحن نرى اليوم مشاهد سورية لم يتوقع أحدٌ أن يراها. في المناطق السورية التي تخضع للسيطرة التركية تترسَّخ عادات ووقائع وتقاليد جديدة. هذه المناطق تستخدم البريد التركي والإنترنت التركي وتتزود بالكهرباء من تركيا. وأسماء…

قمة تونس ومسؤولية العواصم والمخاضات

الإثنين ٠١ أبريل ٢٠١٩

ما أصعب أن تكون صحافياً عربياً. وأن تكون القمم العربية بين اهتماماتك. وأن تطاردها من عاصمة إلى أخرى. وأن تقرأ بين سطور العناقات والكراهيات وتحاول العودة بشيء. وتفيد التجربة أنك تسأل عن معلومات وتحصل غالباً على تمنيات. على رغم معرفة المتحدثين أنك لست وافداً طازجاً في تغطية المواعيد العربية. وأشق من تغطية المجريات الكتابة عن القمة نفسها. عن جديدها وتأثيرها ووقعها في المنطقة والعالم. ويرتكب الصحافي خطأ فادحاً إن طرح أسئلة من قماشة هل وضع العالم العربي اليوم أفضل مما كان عليه قبل سنة؟ وهل وضعه اليوم أفضل مما كان عليه قبل عقد؟ ومن الحكمة تفادي الذكريات فهي مؤلمة وتفادي الأرقام فهي مفجعة.  كنت أستعد لكتابة هذا المقال حين قرأت خبراً وافداً من ليبيا القريبة والمشتعلة. حصل مواطن ليبي على الخيمة الشهيرة للعقيد معمر القذافي ويتلقى العروض لشرائها ويطالب بالمزيد. وتذكرت أنني سمعت من أفراد الحلقة الضيقة حول القذافي، بمن فيهم مدير المراسم الحاضر دائماً نوري المسماري، أخباراً كثيرة ومذهلة حول هذه الخيمة التي كان سيدها يتحكم منها في شؤون البلاد وشجون العباد. كان القذافي يتعمد أن يكون مدخل الخيمة غير مرتفع ليرغم الزائر على قدر من الانحناء لدى دخولها. وفي الرحلات الخارجية كانت الخيمة مشكلة جوالة وقد اضطر فلاديمير بوتين أن يتدخل شخصياً لحل مشكلتها كي يتحاشى غضب العقيد…

قصة عالَم لا يتعلم

الإثنين ١٢ نوفمبر ٢٠١٨

إنها الساعة الحادية عشرة من اليوم الحادي عشر من الشهر الحادي عشر لسنة 1918. بدأ سريان الهدنة. قرع الفرنسيون الأجراس. وتجرع الألمان السم. بدأ سريان الهدنة في «الحرب الكبرى» التي أنجبت بحرًا من القتلى والجرحى والمعوقين والأرامل. فجر ذلك اليوم حضر الوفد الألماني إلى عربة من القطار العسكري للماريشال الفرنسي فوش كانت متوقفة في غابة كومبيين. بذل الوفد محاولة أخيرة لإدخال تعديلات على النص الصارم المعروض عليه. ولكن حين تحدث الماريشال أدرك الوفد أن الباب مغلق أمام أي تعديل أو اعتراض، وأن الخيار الوحيد المتاح له هو التوقيع ففعل. سيكذب التاريخ آمال من توهموا أنها «الحرب التي ستنهي كل الحروب». لا شراهة الدول تساعد. ولا حقد المغبونين. ولا قدرة الإنسان على التعلم من الويلات. بعد 22 عامًا وتحديدًا في 22 يونيو (حزيران) سيتقدم مهووس كبير لتسديد الحسابات. سيجلس أدولف هتلر في المكان نفسه الذي جلس فيه فوش. وسيرغم فرنسا على طلب الهدنة هذه المرة والتوقيع عليها في العربة نفسها. سيحطم الجنود الألمان عبارة كتبت في ذلك المكان وجاء فيها: «هنا في الحادي عشر من نوفمبر استسلم كبرياء الرايخ الألماني الآثم مهزومًا على أيدي الشعوب التي حاول استعبادها». ولم يُضع الفوهرر الفرصة. تمشى في جادة الشانزيليزيه كما يتنزه سكين في جرح. وسيصطحب الجنود الألمان معهم قبل انسحابهم من فرنسا تلك العربة…

رجال لا يعرفون العالم

الإثنين ٠٢ أبريل ٢٠١٨

يتغير العالم بسرعة مذهلة. الوقت سيّاف. يقطع عنق الأفكار والكتب والأساليب القديمة ويُحلّ أخرى جديدة مكانها ثم يتجاوزها. لم تعد الثورات والتحولات تتم في الشارع وعلى يد الجماهير الهادرة. إنها تولد في المختبرات التي لا تنام. ثورات علمية وتكنولوجية متلاحقة تغير حياة الشعوب والدول ولا تطلب إذناً لعبور الحدود. لا شيء يصمد أمام أمواج التقدم العاتية. تنخرط فيها أو تدفعك إلى التقاعد على رصيف العالم. وانخراطك مشروط بأن تتغير. وأن تتنازل عن قناعات اعتبرتها نهائية. وأساليب اعتبرتها قلعة استقرارك وطمأنينتك. وها أنت تكتشف أن فاعلية «جنرالات» التكنولوجيا تفوق فاعلية جنرالات الجيوش. وأن تأثير مؤسسة عملاقة يفوق سطوة حاملة طائرات أو هيبة دولة. لا يكفي أن تقول إنك راغب في الذهاب إلى المستقبل. ليست دعوة إلى عرس أو حفل استقبال. إنها دعوة إلى امتحان عسير لن تنجح فيه إلا إذا كنت جزءاً من عالم يعيش في ظل المؤسسات ورجال يعرفون العالم. يطارد الشرق الأوسط الصحافيين الوافدين منه مهما ابتعدوا. ربما لأنه بحيرة دم ودموع. ومستنقع عصبيات ومخاوف. شعوب تائهة وحدود مثقوبة وأمواج من اللاجئين ومدن معتمة. الخبز صعب. والمدرسة هرمة. والبطالة وحش. لقد دفعنا غالياً ثمن الفشل في بناء المؤسسات. ودفعنا غالياً ثمن الإقامة الطويلة في ظل رجال لا يعرفون العالم. اليوم لم يعد كافياً أن تسيطر على الثكن والإذاعة أو…

هذا يحدث للمرة الأولى

الإثنين ١٩ فبراير ٢٠١٨

لم يعِش العراق وضعاً مشابهاً على رغم قسوة ما عاشه. ولم تشهد ليبيا شيئاً مماثلاً على رغم ما تشهد. ولم يعرف لبنان في ذروة حروبه وضعاً مماثلاً. يمكن قول الشيء نفسه عن الصومال وأفغانستان وسائر البلدان التي تصدعت وحدتها وسيادتها ووقعت أسيرة تدخلات جيرانها ومن هم أبعد منهم. قصة سوريا مختلفة وفريدة. لم يسبق أن التقت على ملعب واحد كل هذه الأعلام والمصالح والأخطار والجيوش والميليشيات والتمزقات الداخلية والمبارزات الإقليمية والتجاذبات الدولية. من الجنوب إلى إدلب وحميميم وعفرين تبدو سوريا مستودعاً لبراميل البارود. إنها بلد وقع في قلب نزاع جيواستراتيجي واسع ومعقد يستحيل حسمه بالقوة ويصعب فيه توزيع الخسائر والأرباح. وهذا يحدث للمرة الأولى. من يعرف سوريا قبل انسحاب جيشها من لبنان في 2005 يدرك هول ما أصابها. قبل ذلك التاريخ كانت سوريا لاعباً بارزاً في محيطها المباشر وعلى رقعة الشرق الأوسط. ولطالما نعتها دبلوماسيون بأنها «العقدة والحل» و«المعبر الإلزامي» و«الشريك الذي لا بد منه» في أي مقاربة لأزمات المنطقة. كان لا بدّ من دمشق في أي حديث عن عراق ما بعد صدام حسين. ولا بدّ منها في أي بحث عن مستقبل لبنان. ولا غنى عن معرفة موقفها في أي سعي لإيجاد حل للقضية الفلسطينية. وأتقنت سوريا تلك لعبة جمع الأوراق. استضافت معارضات كثيرة. عراقية ولبنانية وفلسطينية وكردية وخليجية وحتى…

الزائر الهندي والعربي الحسود

الإثنين ١٠ يوليو ٢٠١٧

يتحول العربي حسوداً حين يحتك بالعالم المتقدم. فرَّ صديقي من بلاده الغارقة في الظلم والظلام واستقر في لندن. اشترى منزلاً وراح ينتظر نهاية الحرب. ذات يوم أزعجته شجرة في حديقته الصغيرة. اتخذ قراراً بإعدامها. سأل جاره البريطاني إن كان يعرف عاملاً يستطيع أداء المهمة. ضحك الجار. ليس من حقك قتل الشجرة حتى ولو كانت في ملكك. عليك أولاً التقدم بطلب للمجلس المحلي وأن تقنعه بالأسباب. القانون هنا يحمي الأشجار. لا بدَّ من الحصول على موافقة وبعدها يأتي دور القاتل. أصيب صديقي بحال من الذهول. جاء من عالم يمكن فيه اقتلاع مدينة من دون أن يرفَّ لأحد جفن. يمكن اقتلاع مواطن ولا يحق لزوجته أو أمه أن تسأل عن السبب. القانون يحمي الشجرة. تذكر قصة ابن خاله. استدعوه ذات يوم إلى التحقيق بتهمة غامضة. عاد بعد أيام حطاماً وقد نسي لدى المحقق بعض أسنانه وأظافره. للشجرة هنا حقوق تفوق ما للمواطن في بلدان العذاب والتعذيب. الحسد ليس شعوراً مفيداً أو نبيلاً. ومن عاداته أن يفتح أبواب الكراهية والمرارات. لكن إصابة العربي بهذا المرض ليست غريبة. ويمكن أن يصبح الحسد هاجساً دائم الحضور. إذا زار العربي متحفاً في دولة متقدمة يسارع إلى التفكير بما حل بآثار العراق وسوريا وغيرهما. إذا عاين كيف تحافظ فيينا على أشجارها تذكر كيف تغتال الجرافات جبال لبنان.…

لا هي كوبا ولا هو كاسترو

الخميس ٠٨ يونيو ٢٠١٧

الدول الصغيرة تغريها الأدوار الكبيرة. تجد فيها نوعاً من الثأر مما تعتبره «ظلم الجغرافيا». تعتقد أحيانا أن الدور يوسع الخريطة ويحميها. وتستسلم لمتعة اللعب على ملاعب الآخرين. ومشكلة الأدوار الكبيرة أنها جذابة وكثيراً ما توقع في الإدمان. ومن الصعب إقناع المدمن بالعودة إلى دور يوازي حدود الخريطة. وفي الغالب لا بدَّ من العلاج بالصدمة. بديهي أن تسعى دولة ما إلى تعزيز دورها أو تلميعه، لكن المسألة تكمن في طبيعة الدور وما إذا كان يدخل ساحات الآخرين من بواباتها الرسمية والشرعية. التسرب إلى الساحات من دون علم الحكومات والإمساك بأوراق على أرض الآخرين وتحريكها والسعي إلى تغيير ملامح تلك الساحات أعمال مثيرة لكنها محفوفة بالأخطار. واستخدام تعبير الدول الصغيرة لا يتضمن أي إساءة. إنه وصف لواقع. وأنا أصلا من دولة صغيرة وهشة في آن. كانت الأدوار الكبيرة سابقاً مرهونة بالثقل السكاني وحجم الجيش والموقع الجغرافي وعوامل أخرى. في العقود الأخيرة اختلفت بعض الحسابات. صار باستطاعتك حجز دور إذا امتلكت القوة الناعمة، كأن يكون لديك إعلام يصل إلى الآخرين ويؤثر فيهم، إضافة إلى عائدات كبيرة من الغاز والنفط. فتحت تجربة جمال عبد الناصر شهيّة عدد من الحكام لبناء زعامة عابرة للحدود ومحاولة تغيير ملامح الإقليم. تجربة صدام حسين معروفة النتائج. ليبيا بدورها دفعت باهظاً ثمن ولع معمر القذافي بأدوار تفوق قدرة بلاده…