غسان شربل
غسان شربل
رئيس تحرير جريدة الشرق الأوسط

أيام ترامب المثيرة

الإثنين ١٦ يناير ٢٠١٧

لا تزعم أنك غير معنيّ. وأن تلك البلادَ بعيدة. أنت تعرف أنها مجاورة لبلادك وإن كانت في قارة أخرى. وأن سفارتَها أكثر من سفارة. وأن الاقتصاد العالمي يعتل إذا مرض اقتصادها الذي يحتل موقع الصدارة. وأن أساطيلها سيدة البحار والمحيطات. وأن عيونها الساهرة في الفضاء لا تنام. أنت تعرف جيدًا أنها القوة العظمى الوحيدة. وأن كلمتها مرهوبة الجانب في مجلس الأمن، حتى ولو لم تلجأ إلى سيف «الفيتو». وأن إصابات طائراتها دقيقة، سواء كانت بطيار أم من دون طيار. وأن أرقى الجامعات على أرضها وأنك تشتهيها لأبنائك. وأن ثورات علمية وتكنولوجية تتلاحق في مختبراتها. وأن سلوكها يمسّ مصير بلادك واستقرارها. مرة حين تنتابها شهوة التدخل المفرط. وأخرى حين تنسحب وتختار العزلة والانطواء. أميركا دولة عظمى ومشكلة عظمى. وسواء أحببتها أم كرهتها لا بدّ من الرقص معها. تخطئ وتصحّح. تتسرّع وتتهوّر ثم تنكفئ. يشكو العالم يومًا من حضورها الطاغي. ويشكو في يوم آخر من الفراغ المخيف الذي يحدثه انسحابها. ذات يوم سخر صدام حسين أمام مدير مكتبه حامد الجبوري من تساقط الزعماء الغربيين. بسبب انتهاء ولايتهم. أو بسبب فضيحة في صحيفة أو على الشاشة. أو خوفهم من الرأي العام. قال صدام شامتًا: «كيف يستطيع اتخاذ قرار تاريخي من يفوز بنسبة 51 في المائة». كان صدام يعتقد كما آخرين أن القائد التاريخي…

حلب وبوتين وأردوغان

الإثنين ٠٨ أغسطس ٢٠١٦

من المبكر اعتبار الانقلاب الذي شهدته حلب تحولاً في مسار الحرب المفتوحة في سورية. ومن الخطأ التقليل من أهمية ما حصل في المدينة والرسائل التي أطلقتها عملية كسر الحصار في اتجاهات عدة. أول الرسائل أن إرادة القتال لدى المعارضة المسلحة لا تزال عالية جداً خصوصاً لدى فصائلها الإسلامية والجهادية. لكن من التسرع الاعتقاد بأن معركة حلب الأخيرة تعني أن المعارضة قادرة على حسم الحرب على امتداد الخريطة السورية. كان من التسرع أيضاً الاعتقاد بأن الجيش السوري بمساعدة الميليشيات الحليفة له قادر على توظيف التدخل الجوي الروسي لحسم المعركة على كامل الأرض السورية. وجهت معركة حلب رسالة قاسية إلى الجيش السوري الذي كان التدخل العسكري الروسي أعطاه قدراً من الأرجحية في المواجهات. الرسالة موجهة أيضاً إلى الميليشيات الحليفة لإيران التي تجد نفسها أمام خيار تعميق انخراطها في نزاع لم يعد ممكناً إنكار طابعه المذهبي. كشفت معركة حلب الأخيرة أن الفصائل الإسلامية هي العمود الفقري للمعارضة السورية المسلحة وهو ما يمكن أن يؤدي إلى تعميق التورط الروسي ومضاعفة الابتعاد الأميركي. نجاح معركة كسر الطوق الذي كان مفروضاً على أحياء المعارضة في حلب يعطي «جبهة النصرة» في حلتها الجديدة فرصة التسرب أكثر إلى نسيج المعارضة المسلحة والتمتع بقدر من الجاذبية لدى أعداء النظام في الداخل. تفيد عملية كسر الحصار بأن الحرب في سورية…

قطع الشرايين

السبت ١٦ يوليو ٢٠١٦

ما شهدته نيس أخطر مما شهدته باريس أو بروكسيل، وإن كان القتل هو القتل في النهاية. ثمة فارق بين انفجار انتحاري خلال لحظات أو إمطار رواد مطعم بالرصاص، وبين قائد شاحنة يناور لدهس أكبر عدد ممكن من العابرين. نجح المرتكب الفرنسي- التونسي في تسجيل رقم قياسي في عمليات القتل دهساً. لم يكن يَعرف جنسيات من يدهسهم، ولا ديانتهم، ولا مذاهبهم. تصرف بمهنية واحتراف. لم يميز بين ضحاياه. لم يشفق على امرأة أو على طفل أو كهل. جاء في مهمة لرشق العيد الوطني الفرنسي بأكبر عدد ممكن من الجثث. وتكللت المهمة بالنجاح. يا للهول. يغرق العالم في الدم والظلام. الذئاب الجدد أشد هولاً من المستبدين. تراودني أحياناً أسئلة ليست صحافية تماماً. كيف كانت ملامح المرتكب وهو يعبر الجادة الشهيرة فوق الجثث؟ أي حقد التمع في عينيه؟ ماذا كان يدور في أوردة رأسه؟ وهل صحيح انه كان يتحرق شوقاً إلى موعده القريب بعدما يرديه رصاص الشرطة؟ لنترك هذه الأسئلة لعلماء النفس والروائيين الذين سيكتبون كثيراً بالتأكيد عن الذئاب التي تعمل بروح الفريق والذئب المتوحد الذي يهوى المبادرة الفردية. ما يربط مذبحة نيس بكل ما سبقها، نحراً وانتحاراً وذبحاً ودهساً، هو قرار قاطع بقطع الشرايين. يعتقد تنظيم «داعش»، وقبله «القاعدة»، أن الاستيلاء على دول العالم الإسلامي مرهون بقطع شرايين علاقة هذه الدول بالغرب…

ثلاثة انقلابات

الإثنين ١١ يوليو ٢٠١٦

يتخبط الشرق الأوسط والعالم اليوم في ذيول ثلاث محاولات كبرى للانقلاب. محاولات قادها ثلاثة رجال يشربون من ينابيع مختلفة وقواميس متباعدة. والثلاثة هم فلاديمير بوتين وعلي خامنئي وأبو بكر البغدادي. لم تكن إطلالة البغدادي من الموصل قبل عامين حدثاً عادياً. كانت محاولة انقلاب كبرى. رأى العالم ما لم يكن يتوقع. مزق تنظيم «داعش» شباك دولتين هما العراق وسورية وسجل هدفاً مروعاً تعذر على أسامة بن لادن تحقيق مثيل له. راقب العالم مشدوهاً ممارسات وحشية لم يعرفها من قبل. رؤوس مقطوعة وسبايا ولغة تخاطب مستعارة من زمن الكهوف. أطلق «داعش» نهراً من الانتحاريين وأدمى عواصم قريبة وبعيدة. لا تستطيع المنطقة التعايش مع دولة «داعش». ولا يستطيع العالم احتمال استمرارها. هذا الانقلاب الرهيب أكبر من القدرة على الاحتمال. لهذا نرى ما نراه. طائرات من جنسيات مختلفة تحوم في أجواء العراق وسورية وتنقض على أهدافها. يرتكب الإرهاب خطأ قاتلاً حين يصير له عنوان ثابت ومعروف. قوة الإرهاب هي أن يبقى شبحاً بلا عنوان. لهذا سينتهي هذا الانقلاب مهما استلزم من الوقت والتكاليف. قصته بأكملها عملية انتحارية تشبه أولئك الذين يرسلهم وينفجرون وتتطاير أشلاؤهم. لم يكن الشرق الأوسط يرفل في السلام قبل إطلالة «داعش». هز «الربيع العربي» ركائز استقراره. استيلاء «الإخوان» على قطار الربيع أطلق كل أنواع المخاوف. وحين هدد الربيع الحلقة السورية في…

الرصاصة الكردية الثانية

الإثنين ٠٤ يوليو ٢٠١٦

كان ذلك في 2005. ذهبت لزيارة مسعود بارزاني بعد انتخابه رئيساً لإقليم كردستان العراق استناداً إلى دستور عراق ما بعد صدام. كان المشهد غير مسبوق في تاريخ الأكراد فحلم «جمهورية مهاباد» التي أنشأها الأكراد على الأرض الإيرانية لم يطفئ شمعته الأولى. وشاءت الصدفة أن يولد مسعود هناك. رأيت الرجل جالساً تحت علمين. ودفعني الخبث الصحافي إلى الاعتقاد بأن العَلَم العراقي يقيم في ضيافة عَلَم الإقليم الكردي. وحين غادرت خالجني شعور بأن نجل الملا مصطفى بارزاني أطلق رصاصة مسمومة على قلب اتفاق سايكس- بيكو الذي وزّع الأكراد قبل مئة عام أيتاماً في العراق وسورية وتركيا وإيران. أدرك مسعود قلق الدول المجاورة فمارس أقصى درجات التحفُّظ والواقعية. لكن مرض الإقليم بدا معدياً. لهذا، رفض الرئيس بشار الأسد استقبال مسعود بوصفه رئيساً للإقليم، وحين وافقَ بعد اندلاع الأحداث، اعتبر الزعيم الكردي أن «الظرف لم يعد مناسباً». اغتنم أكراد العراق الفرصة التاريخية التي شكّلها قرار جورج بوش إطاحة نظام صدام حسين. وها هم أكراد سورية يغتنمون الفرصة التاريخية التي يشكّلها التفكك السوري. وحين قرأتُ البارحة ما قاله لـ «الحياة» صالح مسلم رئيس «الاتحاد الديموقراطي الكردي» تيقّنت أن اتفاق سايكس- بيكو أصيب برصاصة كردية ثانية أُطلِقت عليه هذه المرة من «روج آفا» أي «غرب كردستان». وهكذا نودّع سورية التي عرفناها بعدما كنا شهدنا وداع العراق…

الذي يخسر مرتين

الإثنين ٢٧ يونيو ٢٠١٦

ابتهج صديقي العراقي بفوزه بالجنسية البريطانية. يملك الآن وسادة لأبنائه وأحفاده تجنبهم ويلات «داعش» وحنان «الحشد الشعبي». وبعد أسابيع تلقى أوراقاً تبلغه بحقه في المشاركة في استفتاء ستُقرر نتائجه ما إذا كانت بريطانيا ستواصل الإقامة في «البيت الأوروبي» أم ستغادره. شعر بامتنان عميق. لم يحدث أن دعي فعلياً لإبداء رأيه في أوضاع العراق أو مستقبله. كان وزير الداخلية يحدد نتائج الانتخابات قبل إجرائها. إنها مجرد تجديد المبايعة لـ»السيد الرئيس القائد». وكانت الاستخبارات ترتب عرائض موقعة بالدم تؤكد الولاء المطلق لـ»قائد المسيرة». وبعد زوال «القائد التاريخي» ارتدت الانتخابات طابعاً آخر. كان عليك أن تختار بين «البيت الشيعي» و «البيت السني» و «البيت الكردي». بيوت مبنية على مرارات التاريخ وتبطن رغبة عميقة في الطلاق مع الآخر. اختار ربطة عنق تناسب الحدث الكبير. لم يلمح أمام مركز الاستفتاء أي شرطي. ولم يشم رائحة رجال الاستخبارات. لم يسمع هتافات من قماشة «بالروح بالدم». ولم يقل أحد «كامرون إلى الأبد أو نحرق البلد». كان الصف طويلاً نسبياً داخل قاعة الاقتراع. والجو هادئ يشبه مناخ مكتبة عامة. أعطته السيدة ورقة بسيطة ليضع عليها إشارة من اثنتين إما البقاء وإما الخروج. ولاحظ أن أياً من المنتظمين في الطابور لم يسأل جاره لمن ينوي أن يقترع. هذا غريب فعلاً. والحقيقة أنه لم يشعر بقلق جدي. ففي أعماق رأسه…

محمد علي وفندق التاريخ

الإثنين ١٣ يونيو ٢٠١٦

لا تطرق باب التاريخ إن لم تصطحب ضحاياك معك. لا البراءة سلاح. ولا النزاهة سلاح. رصيدك ارتكاباتك. غابات الجثث. بحيرات الدم. قوافل الأرامل والأيتام والمنفيين. التاريخ مستودع قساة. في الفندق البعيد حركة غير عادية. اتخذ جوزف ستالين مقعده على رأس الطاولة. قبل الانتقال إلى النقطة التي استدعت عقد الاجتماع، طلب ستالين من يوري أندروبوف إطلاع الحاضرين على آخر التطورات في العالم. قال أندروبوف:» الوضع الدولي شائك ومعقّد والمشكلات كثيرة. للأسف شارفت ولاية باراك أوباما على الانتهاء. استفدنا كثيراً من وجوده وسياسته الانسحابية. وعلى رغم كل ما يجري، أريد أن أطمئنكم إلى أن أوراقنا قوية وتتعزّز. لا أريد ان أخفي عليكم أن الرفيق فلاديمير بوتين لا يزال عضواً عاملاً وفاعلاً في الـ «كي. جي. بي». لا أذيع سراً إذا قلت إنه مازال يرفع تقاريره إليّ شخصياً». وأضاف: «يتابع الرفيق بوتين بثبات واقتدار عملية الثأر التي أطلقها رداً على انهيار الاتحاد السوفياتي، وقيام ما سُمِّي القوة العظمى الوحيدة. يبذل الرفيق سيرغي لافروف جهوداً جبارة تعيد التذكير بمآثر رفيقنا أندريه غروميكو. التدخُّل العسكري الروسي المباشر في سورية أنقذ نظامها من السقوط. وضع منظومة «إس 400» الصاروخية على حدود الناتو. يعتقد الرفيق بوتين بأن قتل الإرهابيين والإسلاميين على الملعب السوري أفضل من مطاردتهم داخل الاتحاد الروسي، وعلى أطرافه». شعر حافظ الأسد بالانزعاج من استخدام…

ممرات آمنة للجثث

الإثنين ٣٠ مايو ٢٠١٦

لا تكتب عن زيارة باراك أوباما إلى هيروشيما. أنت الصحافي العربي لا يحق لك. لديك من الهيروشيمات ما يكفي ويفيض. هيروشيما الاستبداد. وهيروشيما التكفير. وهيروشيما الميليشيات المسنونة. وهيروشيما الخرائط المغدورة. وهيروشيما الأقليات. وهيروشيما التعصب والتخلف والفقر. ببساطة أسألك. كم هيروشيما تعادل الحروب العراقية التي لا تنتهي؟ والمذبحة السورية المفتوحة؟ والانهيار الليبي الصارخ؟ والتمزقات السودانية واليمنية والصومالية؟ دعك من هيروشيما. سأحكي لك قصة اشترط راويها إخفاء اسم مسرحها. ليست المشكلة أن أمه ماتت. لا أقصد أنه لم يحزن. يعرف أن الأم هي وسادة القلب. وأنها حب جارف لا تعتريه الفصول. انتابه شيء من عذاب الضمير. حين لفظت أنفاسها قال في سره «لقد ارتاحت». بعض الموت أفضل من بعض الحياة. ثم أنه رآها تموت كثيراً وطويلاً في الشهور الماضية. عرش الأسى في عينيها. وتدافعت التجاعيد إلى الوجه. كأنها أدركت أنها لن ترجع إلى البلاد التي لفظتها. أخفى عنها أن المفتاح الذي حملته معها صار مفتاحاً بلا بيت. وكانت تهرم مع المفتاح تماماً كما أصاب فلسطينيات خسرن الأرض وتسلحن بالمفتاح. وكان يشم عميق خيبتها. تنتظره وتنظر إلى يديه لتتأكد أنه عاد بما يرد الجوع عن أحفادها. كثيرات مثلها توزعن في لبنان والأردن وتركيا. توزعن على شفير الوطن السوري وعلى أمل العودة إليه. تعاقبت الفصول وازداد الوطن ابتعاداً. وكانت تسأله متى وكان يكذب عليها…

السعودية وقطار المستقبل

الإثنين ٠٢ مايو ٢٠١٦

لم يعتد أهل الشرق الأوسط الانشغال بحدث إلا إذا كان عنفياً بامتياز. حرب بين دولتين جارتين. أو حرب أهلية. أو ضربة إرهابية مدوية. أو حرائق متزامنة على غرار ما خلفه إعصار «الربيع العربي». أو يقظة مفاجئة لنزاعات قديمة تلتهم الحاضر وتعيد إلحاقه بالماضي. وفي الشرق الأوسط يتقدم القلق على كل ما عداه. قلق الخرائط من مخترقيها أو الذين يستعدون للقفز منها. وقلق الجيوش من حروب لا تشبه تلك التي تدربت على خوضها. وقلق الحكومات من الفشل الاقتصادي المتمادي وتقصير الإمكانات عن تلبية الحاجات. يدفع الشرق الأوسط حالياً أثمان مرحلة انتقالية. لم تعد أميركا مستعدة لدفع دم جنودها وبلايينها لاقتلاع نظام وإحلال آخر. الإدارة الدولية للإقليم غائبة. وروسيا تصطاد في بحيرة الدم السورية. وإيران تواصل اختراق بلدان وتطويق أخرى. لا تستطيع المنطقة العيش إلى ما لا نهاية على وقع التمزقات والانهيارات والاستنزاف. لكن انتظار النظام الإقليمي الجديد قد يكون طويلاً ومدمراً. في هذا الشرق الأوسط الكئيب والرهيب جاء الحدث هذه المرة من قماشة أخرى. حدث شغل السعوديين وأهل المنطقة معاً. إنه الإعلان عن «رؤية السعودية 2030». للمرة الأولى تتركز أنظار الحكومات والخبراء والمواطنين والمعنيين على حدث مرتبط بالمستقبل لا بالماضي. فالرؤية معركة تقدم وتنمية وتطوير سيؤدي نجاحها إلى تحول حقيقي في أوضاع السعودية ومحيطها. نجحت الرؤية في إثارة الاهتمام داخلياً وإقليمياً…

أهوال وقف النار

الإثنين ٢٩ فبراير ٢٠١٦

وقف النار لا يقل خطورة عن إطلاق النار. جحيم المعارك يمنع الرؤية ويحجب الصورة. يشحذ الأحقاد والآمال. استحالة الضربة القاضية تذكر بالتوازنات المريرة. صمت المدافع والبراميل يفتح العينين. يضع من كان يوصف بالمواطن وجهاً لوجه أمام ما كانت توصف بأنها بلاده. أمام ما تبقى منها. ابتهاج الناس باستراحة آلة القتل لا يلغي حقيقة مدمرة. الشهيد الأول في سورية اسمه سورية. وقف النار مطلوب لكنه رهيب. يسمح للمواطن بالشروع في الإحصاءات. المدن التي اغتيلت. البلدات التي تبخرت. القرى المسكونة برائحة الموت والغياب. ستتذكر عائلة ابنها الذي ذهب ولم يعد. ابنها الذي لن يعود. ستتذكر نصفها التائه في أوروبا أو مخيمات الدول المجاورة. ستتحسس أم صورة نجلها الذي أخذوه. ستصلي لعودته وهي تعرف أن شمس عمرها ستغرب من دون أن تعانقه. وقف النار رهيب. سيتحدث السوريون تحت أطلال منازلهم عن نهر من القتلى. وبحر من الجرحى والمعاقين. وعن اللاجئين الذين يتعلقون بأطراف مركل هرباً من قسوة بلاد الأمويين. عن لاجئين سيطول انتظارهم لأن إعادة إعمار سورية أكبر بكثير من قدرة الذين منعوا حسم الحرب. وقف النار رهيب. لأن الحرب ستستمر تحت عناوين أخرى. لا «داعش» يرف له جفن إذا تدمر ما بقي. ولا «النصرة» يرف لها جفن. ثم أن سورية الجديدة التي ستولد من المفاوضات ومناوراتها وأفخاخها قد لا تستحق هذا البحر…

ويلات حرب وخيبات سلام

الإثنين ٠٣ أغسطس ٢٠١٥

يستحق النزاع المدمر في سورية موقع الصدارة في لائحة المآسي التي ارتكبت بعد الحرب العالمية الثانية. الحصيلة حتى اليوم مخيفة بل راعبة. المتابعون لمجريات المقتلة الواسعة يتحدثون عن سقوط 350 ألف قتيل وأكثر من مليون جريح ومعوق. وعن خمسة ملايين لاجئ وسبعة ملايين نازح. وعن الحاجة إلى 350 بليون دولار لاعادة إعمار ما دمرته الحرب. وعن عقود من الجهد لإعادة سورية إلى ما كانت عليه عشية انطلاق الأحداث في 2011. الأرقام مؤلمة لأنها تكشف هول المأساة الإنسانية والكارثة الاقتصادية. ثمة وجه آخر لا يقل مرارة. حتى الساعة لا يستطيع أحد ادعاء الانتصار في هذه الحرب الباهظة. أقصى ما يمكن لأي طرف الحديث عنه هو نصف انتصار ونصف هزيمة. الأشد قسوة أن أي حل في سورية لا يمكن أن يوفر لأي طرف مكاسب أو ضمانات توازي ما تكبده. لن يحصل أي طرف بالمفاوضات على الحد الأقصى الذي تعذر عليه تحقيقه في ميدان الحرب. ربما لهذا السبب هناك من يفضل ويلات استمرار الحرب على الخيبات التي سيحملها الحل السياسي علماً انه المخرج الوحيد من الهاوية الحالية. لا تستطيع المعارضة السورية التحدث عن انتصار. واضح أنها نجحت في خلخلة النظام الذي حكم البلاد بالقبضة الأمنية الصارمة ما يزيد على خمسة عقود. أرغمته على الانكفاء إلى جزء من الأرض السورية. لكنها لم تنجح في…

أنصحك بالسم

الإثنين ٠٦ يوليو ٢٠١٥

لا تصدّق مستشاريك. لا تخدعنّك مباخِرُهم. وقدرتهم على نسج الشعارات والحكايات. يريدونك أن تتسلّق ليتسلّقوا معك. يقامرون بصورتك ورصيدك. نَصَحوا غيرَكَ وأدموه. وغداً حين تخسر يغسلون أيديهم. يقولون أنك كنت متسرِّعاً ونزِقاً ومتهوِّراً. لا تصدّق مستشاريك. رأفة بصورتك وبأنصارك وهم ليسوا قلائل. أوقف اللعبة الرهيبة: إما القصر وإما القبر. لا يجوز للزعيم الحقيقي دفع أنصاره إلى القبر، إذا تعذّر عليهم دفعه إلى القصر. أعرفُك لا تحب السمّ. لا أحد يحبه أصلاً. وأنك ترفض مجرد الحديث عنه. ولا تتخيّل كأسه تقترب من شفتيك. وتعتقد بأن السمّ يليق فقط بكارهيك ومعارضيك... وأن عليهم أن يشربوه حتى الثمالة والامحاء. أعرف أنك تفضّل الضربات القاضية، والانتصارات الكاملة، وأنك لا تتخيّل خصمك إلّا متهالكاً. يتقدّم نحوك ذليلاً ليوقّع صك استسلامه. ليقرّ بموته بعدما فَرَغتَ من قتله. أعرف أنك تكره السمّ. لكننا أبناء الشرق الأوسط الرهيب. عرب وفرس وأتراك وأكراد. سنّة وشيعة وعلويون ودروز ومسيحيون وآخرون. دول هشّة، وشعوب مفخّخة، وخرائط ملتبسة، وتاريخ يدسُّ السمّ في الحاضر ليقتاد المستقبل إلى سجن التاريخ. لا تسمح هذه المنطقة الموتورة بالضربات الماحقة. جَرَّبَ أسلافُك وأسلاف أعدائك. عادوا من مغامراتهم المجنونة بأجيال من الجثث، وأنهار من الحقد القاتم. لا تحلم بالانتصار الفاحش، ولا بشطب غريمك من الخريطة، لا تدفعه إلى الجدار. يُدميك حين لا تترك له غير خيار النحر والانتحار.…