الجمعة ١٦ مايو ٢٠١٤
يعتبر داريوش شايغان أهم فيلسوف إيراني معاصر. وهو حتما أحد أهم المفكرين على مستوى العالم الإسلامي كله. وتكمن ميزته في إتقانه عدة لغات وعدة ثقافات دفعة واحدة. وهو يكتب بالفارسية والفرنسية على حد سواء. إنه ليدهشك بسعة اطلاعه وتنقله في نفس الصفحة تقريبا من مرجعيات الفكر الألماني إلى مرجعيات الفكر الإنجليزي أو الإيطالي، ناهيك بالفرنسي، وناهيك بالفكر الهندي البوذي! شيء يدوّخ العقل. وبالتالي، فليس من السهل على جهلة من أمثالنا أن يفهموه أو يستوعبوا كل هذا التبحر في العلم. وهو بارع في تشخيص أزمة العالم الغربي من جهة، وأزمة العالم الإسلامي من جهة أخرى. ولكن على الرغم من اعترافه بالأزمة الخطيرة التي وصلت إليها الحضارة الغربية مؤخرا، فإنه يشيد بإنجازاتها ويعجب بها كل الإعجاب. صحيح أنه يقول إنها حضارة فقدت روحها وأصبحت منهكة بعد ثلاثة أو أربعة قرون من الصعود والممارسة. ولكنه لا يدينها جملة وتفصيلا، كما يفعل بعض المثقفين العرب والمسلمين، وإنما يعترف لها بعدة ميزات أساسية. فهي التي اخترعت روح التفحص والغربلة النقدية. وهي التي اخترعت العقلانية العلمية، وهي التي اخترعت المؤسسات الديمقراطية. ثلاثة اختراعات غيرت وجه العالم. إنها اختراعات تمثل جوهر الحداثة ولا تقدر بثمن، ولا يعرف قيمتها إلا من هو محروم منها: أي كل الشعوب الأخرى. فروح التفحص والغربلة النقدية هي التي فككت الأصولية المسيحية وحررت…
الجمعة ١٤ مارس ٢٠١٤
كان البروفسور جوزيف ناي المقرب من كارتر وكلينتون والتيار الأميركي المستنير، قد بلور هذا المصطلح عام 1990. وقد فعل ذلك رد فعل على البروفسور بول كيندي صاحب النظرية الشهيرة عن صعود الحضارات وأفولها. ومعلوم أن كيندي تنبأ عام 1987 بانحدار القوة العظمى الأميركية بعد طول هيمنة على العالم. ولكن لسوء حظه، فإن كتابه صدر قبل سنتين فقط من سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي وظهور أميركا بوصفها قوة عظمى وحيدة في العالم. وبالتالي، راحوا يتندرون به وبأطروحته المتشائمة التي كذبتها حركة التاريخ بشكل صارخ. ولكن ينبغي ألا نستهين بكتاب كيندي وأطروحته المركزية عن فلسفة التاريخ، الذي صدر في أكثر من 700 صفحة وشمل كل تاريخ القوى العظمى منذ عام 1500 وحتى عام 2000، أي طيلة خمسة قرون.. ففيه تحليلات ثاقبة لا تنكر. ويبدو أنه ترجم إلى 23 لغة عالمية، كانت العربية إحداها. كيف رد عليه جوزيف ناي؟ ما محاجته؟ قال له بأن قوة الأمم لا تقاس فقط بضخامة جيوشها وقدراتها العسكرية الضاربة ولا حتى باقتصادها، على الرغم من أهمية كل ذلك، وإنما بإشعاعها الثقافي والحضاري أيضا. وبالتالي، فهناك القوة الخشنة والقوة الناعمة. وهذه الأخيرة ينبغي عدم الاستهانة بها أو إهمالها كما فعل بول كيندي.. فالقوة الناعمة قد تدفع بالآخرين إلى الإعجاب بك وتقليدك وربما الخضوع لك حتى دون أن ترفع…
الجمعة ٠٧ مارس ٢٠١٤
العرب ضائعون يتخبطون هذه الأيام وأنا مثلهم ضائع أتخبط. ربما كانوا يعيشون الآن أحلك لحظات حياتهم. هناك حيرة كبرى تلف العرب، هناك رعب يحيط بهم من المحيط إلى الخليج.. بالطبع هناك أقطار أكثر استقرارا من أخرى وأفضل وضعا أو قل لم تنفجر بعد. ولكن «كلنا في الهوى سوا» كما يقول المثل الشعبي. هناك جوع وحروب أهلية وبطالة وعطالة وشباب رائع بلا أمل ولا عمل. هناك شبح هائل يخيم على العرب. هل هو ديناصور؟ هل هو وحش الوحوش؟ هل هو سوء الطالع وضربة القدر؟ وهذا يذكرني بفيلم فرنسي قديم عنوانه: «خوف فوق المدينة». وهو فيلم قوي بطله جان بول بلموندو. وكم رأيته مرات ومرات وأنا قابع في غرفتي الصغيرة «كالنمس» مستمتعا بأنني خارج دائرة الخطر. ربما لهذا السبب أحب الأفلام البوليسية. أنا نفسي تحولت مؤخرا إلى فيلم بوليسي بل وإلى مسلسل جهنمي له بداية وليس له نهاية. إنها لأعجوبة أنني لا أزال أتنفس وأتفلسف عليكم. ولكن إلى متى؟ أنا واثق أن مشكلة فلسطين ستحل قبل مشكلتي الشخصية. ربما كان التشبيه الأفضل هو مع كتاب المؤرخ الفرنسي جورج لوفيفر «الخوف الكبير لعام 1789». وفيه يصف ذلك الرعب الهائل الذي عاشه الفرنسيون أيام روبسبيير ورفاقه حيث أصبح كل واحد خائفا على نفسه، ولم يعد هناك أي أمان أو اطمئنان على وجه الأرض الفرنسية.…
الجمعة ٢٨ فبراير ٢٠١٤
يبدو أني وقعت في حب «رانس» بالضربة القاضية. أنتم تعلمون أن الحب أنواع ودرجات. ولكن أشرفها وأرقاها هو الحب الصاعق: أي الذي ينزل عليك كالصاعقة فيسحقك سحقا، ويمحقك محقا، ويجعلك هباء منثورا. وهو شيء لا يحصل إلا للمصطفين الأخيار الذين حرمهم الله من نعمة الوصال فحرق قلبهم حرقا: قضاها لغيري وابتلاني بحبها فهلا بشيء غير ليلى ابتلانيا قد تقولون مبالغة. هذا الشخص يهذي ويهلوس. هل يعقل أن يحب الإنسان مدينة إلى هذه الدرجة؟ ولكن منذ عشرة أيام لم أر من «رانس» إلا الخير. لقد فتحت لي أبواب مكتباتها على مصراعيها. وكنت بأمس الحاجة إلى ذلك. كنت أبحث عن مرجع صعب منذ سنتين فلم أجده إلا فيها. أو قل لم أجده فيها ولكنهم استجلبوه مصورا جاهزا وقدموه لي كلقمة سائغة خلال 48 ساعة! فماذا تريد أكثر من ذلك أيها الإنسان المتسكع في الآفاق؟ هذا المرجع عبارة عن مقالة طويلة منشورة على جزأين في مجلة «آرابيكا» الاختصاصية التي يصعب الحصول عليها وبخاصة إذا كانت الأعداد قديمة. حاولت أن أصل إليه من خلال الإنترنت فطالبوني بأربعة وثلاثين دولارا! هل أنا مليونير لكي أوزع دولاراتي يمينا وشمالا؟ إنها تشرح لنا المشروع الفكري لأكبر مستشرق ألماني في هذا العصر: جوزيف فان ايس. ومعلوم أنه ألف موسوعته الضخمة عن تاريخ الإسلام في ستة أجزاء قبل عشرين…
الجمعة ١٤ فبراير ٢٠١٤
قبيل مغادرتي إلى باريس بأيام قلائل، استمعت إلى محاضرة شائقة فعلا. كان ذلك في مقر مؤسسة «مؤمنون بلا حدود» الواقع قبالة المحطة الكبرى وسط الرباط العامرة. وكان ضيفها هذه المرة الدكتور يحيى اليحياوي الخبير في الإعلام والاتصالات. وقد قدمه للحضور الكريم الدكتور المنتصر حمادة ذو الروحانية الصافية والإيمان العميق، وهو مختص بالشؤون الدينية والفلسفية على حد سواء. أكاد أقول إن عنوان المحاضرة هو موضوع الساعة: «الفضائيات العربية والخطاب الديني». عندما سمعت بذلك، قلت لا ينبغي أن يفوتني لقاء كهذا. منذ زمن طويل وأنا أفكر في هذا الموضوع بشكل غامض دون أن تكون عندي أي معطيات دقيقة عنه. وهذا ما قدمه لنا الأستاذ المحاضر في عرضه الموضوعي بشكل واضح وبالأرقام. كنت أعرف أن هناك فضائيات دينية تبث على مدار الساعة. ولكن، ما كنت أعرف عنها شيئا كثيرا. ولذا، كم كانت دهشتي كبيرة عندما عرفت أنه توجد أكثر من مائة فضائية دينية في العالم العربي! 104 بالضبط. من كان يتوقع ذلك؟ من أشهرها قناة «اقرأ»، وقناة «الرسالة»، و«القناة السادسة» في المغرب... إلخ.. ولكن، ما عدد الفضائيات العربية ككل، دينية أو غير دينية؟ 1070 فضائية يا سادة يا كرام! وهذا يعني أن عشرها مخصص للدين حصريا. ولكن، حتى الآن، لا يزال الفكر التقليدي القديم يسيطر على هذه الفضائيات، فالبرامج يهيمن عليها النقل لا…
الجمعة ٠٧ فبراير ٢٠١٤
أصبح واضحا لكل المطلعين أن الفكر العربي لن يستطيع النهوض بإمكاناته الخاصة وحدها، وإنما ينبغي أن نضخ في أوصاله المتكلسة وعروقه المتحجرة جرعات كبيرة من الدم الحي الآتي من الخارج، أي كميات ضخمة من الترجمات المتنوعة. كل من درس في الغرب واطلع على مدى تقدم الفكر الغربي وتأخر الفكر العربي يعرف معنى ما أقوله هنا. بل وحتى لو لم يدرس في الغرب، ولكنه متقن للغة أجنبية حية، كالفرنسية أو الإنجليزية أو الألمانية يستطيع أن يفهم مقصدي؛ لماذا لا نعترف بالحقيقة؟ نحن نكتب بالعربية ونقرأ بالفرنسية أو الإنجليزية. نقطة على السطر. إذا ما أردنا الاطلاع على النظريات العلمية أو الفلسفية، فإننا لا نقرأ بالعربية لسبب بسيط، هو أنها غير موجودة بشكل واف أو دقيق أو موثوق. بل وحتى إذا ما أردنا الاطلاع على تاريخ العرب والإسلام نفسه، فإننا مضطرون لاستشارة المراجع الأجنبية؛ لماذا؟ لأنها تدرس تاريخنا وتراثنا على ضوء أحدث المناهج العلمية. هذا في حين أننا لا نزال سجناء النظرة القديمة التي سادت العصور الوسطى. لتوضيح ذلك، يكفي أن نقارن بين ما يكتبه علماء الاستشراق الأكاديمي عن تراثنا، وما نكتبه نحن. أضيف إليهم البحاثة العرب والمسلمين الذين يدرسون في جامعات الغرب ومعاهده العليا، والذين اعتنقوا المنهجية العلمية في البحث وأتقنوها تماما. مئات الكتب صدرت باللغات الأجنبية ولا تزال تصدر حتى الآن.…
الجمعة ١٨ أكتوبر ٢٠١٣
هل العرب بحاجة إلى أنوار جديدة؟ هل هم بحاجة إلى جرعات فلسفية، لكي يشفوا من مرض عضال؟ السؤال بحد ذاته استفزازي، بل وأكثر من استفزازي، لأن كل علماء الأرض شرقا وغربا يقولون لك بأن سبب انحطاط معظم العرب والمسلمين ناتج عن ازدراء الفلسفة والفكر العقلاني. ربما كان ابن قتيبة أول عالم أصولي يهاجم الفلسفة اليونانية ويعيب على المعتزلة ومثقفي عصره عموما الانبهار بها والإغراق فيها. كان يعيب عليهم الإعجاب بأفلاطون وأرسطوطاليس وسواهما. وهو ما يعيبه علينا الإخوان الأصوليون اليوم. لماذا تنبهرون بديكارت وكانط وهيغل... إلخ؟ لم يتغير شيء ولم يتبدل منذ ألف سنة. أكاد أقول ما أشبه الليلة بالبارحة! بلى تبدل وتغير. رجعنا إلى الخلف أكثر. فالإمام الغزالي عندما تصدى للفلسفة كان يعرف ما هي بالضبط. كان متبحرا فيها قبل أن ينتقدها. أما شيوخ اليوم فلا يعرفون شيئا عن الفكر الحديث. وربما في حياتهم كلها لم يفتحوا كتابا لكانط أو ديكارت أو حتى مالبرانش. إنهم غاطسون كليا في مناخ العصور الوسطى. وبالتالي فأصوليو الأمس كانوا أكثر جدية من أصوليي اليوم بكثير. وهذا ما كان يردده محمد أركون في دروسه العامة مرارا وتكرارا. لحسن الحظ فإن فرنسا قررت الاعتراف بهذه الشخصية الفذة أخيرا. فسوف يدشنون باسمه مكتبة عامة في قلب العاصمة الفرنسية بتاريخ 23 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي. وهي أول مكتبة…
الجمعة ٢٠ سبتمبر ٢٠١٣
قبل ثلاث سنوات بالضبط غادر هذا العالم واحد من أبرز المفكرين في تاريخ الإسلام في العصر الحديث. كان يريد تحرير المسلمين من الأفكار الانغلاقية القديمة والتصورات اللاتاريخية التي يشكلونها عن تراثهم، عن الذات وعن الآخر. كان يريد تحريرهم من الجمود التاريخي الطويل وإلحاقهم بركب الحداثة الدينية والفلسفية. كان يعرف أن التحرير الفكري هو المقدمة التمهيدية الأولى للتحرير السياسي. لا سياسة تحريرية دون فكر تحريري. وأعتقد شخصيا أنه كان يعتبر أن زمن السياسة لم يحن بعد. قد يستغرب البعض هذا الكلام ويستنكرونه بقوة. لا ريب في أن السياسة السياسوية أو الإجرائية البرغماتية اليومية ضرورية للناس وسوف تستمر. ولكن السياسة بالمعنى النبيل والعالي للكلمة، السياسة بمعنى فتح الأبواب الموصدة واستشراف الآفاق البعيدة، لم يحن أوانها بعد. ينبغي تعزيل الأرضية وتفكيك الانغلاقات التراثية أولا قبل أن نحصد ثمار ذلك سياسيا. وهذا ما فعله طيلة حياته كلها. لم يكن صاحب «نقد العقل الإسلامي التقليدي» يحلم بإحداث إصلاح جزئي أو ثورة مصغرة في تاريخ الفكر العربي الإسلامي. كانت طموحاته أكبر من ذلك بكثير. كان يذهب إلى جذور الأشياء وأسسها العميقة. كان يعرف أن تحرير الحاضر لا يمكن أن يتم إلا بعد تحرير الماضي، بل والماضي البعيد. فعقدة العقد الموجعة انعقدت خيوطها في الماضي ولا بد من فكها أو تفكيكها إذا ما أردنا تحرير الحاضر المكتوي…
الجمعة ١٣ سبتمبر ٢٠١٣
يبدو أن المشكلة السورية سوف تلاحقني إلى القبر أو حتى ما وراء القبر. هل قرأتم كتاب شاتوبريان «مذكرات ما وراء القبر»؟ تحفة التحف. ولذلك قال فيكتور هيغو الذي جاء بعده مباشرة: «إما أن أكون شاتوبريان أو اللاشيء»! الخلاصة كنت قد قررت منذ أربع سنوات بعد أن حصل ما حصل أن لا أتدخل في الشؤون السورية إطلاقا حتى ولو بلغت الدماء الركب. ولكن أجدني الآن مضطرا للانغماس بهذه الكارثة التي عصفت بالبشر والحجر، دمار على مد النظر.. هل تستطيع أن تخرج من جلدك كليا؟ هل تستطيع أن تنسى أصلك وفصلك حتى لو كنت عاشقا للمنافي مثلي؟ مستحيل. طيلة الثلاثين سنة الماضية كنت أتوجس خيفة وأتساءل: متى سيحصل الانفجار الكبير؟ متى ستقع الواقعة؟ وها هي الواقعة قد وقعت فماذا أنتم فاعلون؟ ها هي الفاس قد وقعت في الراس يا أبناء الطوائف والعشائر والملل والنحل. دبروا حالكم. أنا خارج قوس أو خارج التاريخ حتى إشعار آخر. في الواقع على الرغم من أني هائم على وجهي منذ عقود ولم أضع قدمي في سوريا منذ خمسة وثلاثين عاما فإني ملاحق بالمسألة السورية غصبا عن أبي. كلما هربت منها لحقتني أكثر! بل وكادت أن تودي بي من حيث لا أدري.. ولذا تنفست الصعداء قليلا بعد أن انفجرت القصة الكبرى ولم تعد الأنظار متركزة علي فقط. عيب…
الجمعة ٢٣ أغسطس ٢٠١٣
كنت سائرا بالصدفة في شارع محمد الخامس بالرباط وفجأة وقع نظري على كتاب في واجهة إحدى المكتبات العريقة فإذا به لبرنارد لويس، وعنوانه «السلطة والإيمان: قضايا الإسلام في أوروبا والشرق الأوسط». قلت لنفسي هذا صيد ثمين لا يمكن أن يفوتني لأنه مكرس كله لقضايا الإسلام السياسي الذي يشغلنا حاليا والذي يكاد يدمر مصر. لحسن الحظ فإنها انتصرت على نفسها وحجمته. وهذا أعظم أنواع الانتصار. قلت إذن سوف أمتع النفس به وأنا عائد إلى الهرهورة من «باب الحد». مسافة الطريق ساعة بالباص أو أكثر. وهناك على الطريق مناظر خلابة تطل على البحر إطلالات رائعة. وبالتالي فالمتعة متعتان. لم أصل إلى البيت حتى كنت قد التهمت صفحات عديدة ثم أكملت البقية لاحقا. صحيح أننا نتهمه بأنه زعيم المحافظين الجدد. ولكن هذا لا ينفي أنه باحث ضخم متعمق كل التعمق في تاريخ آخر غير تاريخه. إني لا أشاركه العديد من مواقفه السياسية ولا حتى المنهجية. ولكن هذا لا يمنعني من الإعجاب بسعة اطلاعه على تراثنا العربي الإسلامي. متى سنفرق بين العلم والآيديولوجيا؟ لنأخذ منه العلم ولنطرح الآيديولوجيا! سوف أضرب كمثال على ذلك الفصل الأول من هذا الكتاب: «رخصة للقتل». وفيه يحلل عقلية بن لادن والجهاديين الإرهابيين. كنت أخشى أن يقول إن الإسلام هو هذا بالضبط.. إن الإسلام يتطابق كليا مع فهم بن لادن…
السبت ٢٩ يونيو ٢٠١٣
نحن العرب ضائعون هذه الأيام، حائرون محتارون، ثم بشكل أخص خائفون، مرعوبون. قدرنا أو مصيرنا على كف عفريت. تتقاذفنا الأمواج من كل جانب كـ«القارب السكران» الذي تحدث عنه رامبو في قصيدة عصماء. الانقسامات المذهبية العتيقة جدا تنفجر في وجوهنا من أعماق التاريخ دفعة واحدة فنصاب بالهلع. لا أحد يعرف إلى أين تتجه الأحداث ولا ما هو المجهول الذي ينتظرنا. لا أحد يدلنا على الطريق أو يطمئننا نفسيا على الأقل عن طريق تقديم تفسير مقنع لما يحصل حاليا. إذا كنتم لا تستطيعون منع المجازر أو تغيير الواقع المرعب فعلى الأقل فسروه لنا أو سلطوا عليه الأضواء يا عباقرة العالم العربي! ما سبب كل هذه الحيرة الكبرى والتخبط؟ لا ريب في أنه يوجد عندنا مثقفون مهمون ومحترمون ولكن ليس على مستوى الكارثة الكبرى أو المنعطف التاريخي الهائل الذي نعيشه حاليا. لم نحظ حتى الآن بفلاسفة كبار من وزن ديكارت أو كانط أو هيغل.. فهل عقمت الأمة العربية يا ترى؟ لا أعرف. كان كانط في أواخر أيامه يتوقع ظهور فيلسوف كبير قادر على اكتشاف قوانين التطور التاريخي مثلما اكتشف كيبلر ونيوتن قوانين الطبيعة الفيزيائية والفلكية التي تمسك الكون. والغريب العجيب هو أن هذا الفيلسوف الذي تنبأ به سرعان ما ظهر بعد موته بسنوات معدودات: إنه هيغل! بل إنه ظهر في حياته في الواقع…
السبت ١٥ يونيو ٢٠١٣
ينبغي الاعتراف بأن الممارسة الديمقراطية لا تشكل جزءا من ثقافتنا. هذا أقل ما يمكن أن يقال. إنها غائبة عنا على كافة الأصعدة والمستويات بدءا من رب العائلة وانتهاء برئيس الجمهورية، بدءا من المدرسة الابتدائية وانتهاء بالجامعة. جميعنا مغموسون غمسا من أعلى الرأس إلى أخمص القدمين في الثقافة القمعية الأبوية اللاديمقراطية. وبما أننا تربينا عليها منذ نعومة أظفارنا فإنه يصعب علينا التحرر منها بعدئذ لأن «العلم في الصغر كالنقش على الحجر». ليسمح لي القارئ هنا أن أروي حادثة شخصية. وعلى الرغم من أنه يصعب عليّ جدا روايتها وتشكل جرحا لا يندمل في داخلي إلا أنني سأرويها. عندما توفيت أمي في حادث مفجع هل استشارنا «الشيخ الجليل» في أمر زواجه أو في فرض امرأة غريبة كالسيف المسلط فوق رؤوسنا؟ أبدا لا. لقد استفقنا مذعورين صباحا أو بالأحرى ليلا فإذا بهرج ومرج وامرأة جديدة عدوة تدخل البيت كعروس! وكان ذلك أول احتكاك لي مع الشر وجها لوجه. أقسم بالله لم أكن أعرف معناه قبل ذلك. وهكذا انتهت براءات الطفولة الأولى فجأة ومن دون سابق إنذار. فالمرأة الدخيلة التي حلت محل «الأم - الملاك» تكشفت عن أفعى حقيقية. لقد كانت شريرة إلى أقصى الحدود. وحتى هذه اللحظة - بعد خمسين سنة - لم أبلع القصة! وهذا أكبر دليل على مدى خطورة العقلية القمعية التعسفية…