الثلاثاء ١٨ مارس ٢٠١٤
حقق «حزب الله» انتصاره في يبرود بعد انتصاره في القصير. هذان انتصاران غير مشكوك فيهما ولا مطعون. في 2000، عند تحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي، وُجد من يذكّر بأن إيهود باراك، رئيس الحكومة يومذاك، كان مَن تقدم إلى الانتخابات العامة ببرنامج أبرز بنوده الانسحاب الأحادي من لبنان. وقد قارن الحسابون أعداد الإسرائيليين الذين سقطوا على يد «حزب الله» على امتداد مقاومته فوجدوهم أقل من أعداد ضحايا السير عندهم. في 2006، وعلى رغم تسمية ما حصل «نصراً إلهياً»، ظهرت وجهتا نظر وجيهتان، واحدة تقول إن إسرائيل هي التي انتصرت بدلالة القرار 1701 الذي أقفل جبهة الجنوب، وهذا هو مطلبها السياسي الأساسي، والثانية ترى أن الدولة العبرية لم تُهزم إلا بمعنى أنها لم تنتصر، كما كانت تفعل في السابق. وبدا هذا القول بمعيارين للانتصار والهزيمة مهيناً بما فيه الكفاية للمنتشين بـ «نصر إلهي». بعد حين، ولا سيما منذ الهجوم على بيروت في 2008، تأكد أن حدثاً يفجر العلاقات الأهلية في جبهة «المنتصِر» لا يمكن أن يُعد انتصاراً. اليوم، في يبرود بعد القصير، لا لبس ولا التباس. الانتصار قاطع. فعلاً «لن تُسبى زينب مرتين». تشي المقارنة هذه بطبيعة «حزب الله» كطرف مُعد للقتال الأهلي– الطائفي الذي تتقاطع نتائجه مع مصالح أنظمة بعينها، فيما إعداده لقتال إسرائيل استطرادٌ على هذه الوظيفة. صحيح أن الاستطراد…
الثلاثاء ٠٤ مارس ٢٠١٤
يخطئ الذين يتحدّثون عن استعادة الحرب الباردة كما كانت عليه قبل انهيار جدار برلين وتفسّخ الاتّحاد السوفياتيّ. ويخطئ أكثر أولئك الذين يختزلون الصراعات الدائرة على كوكبنا إلى نزاعات «جغرافيّة سياسيّة» على مناطق النفوذ، غير عابئين بالأسباب الداخليّة لتلك الصراعات، أو بالفوارق بين واحدها والآخر. لكنْ في حدود «الحصّة» الجغرافيّة – السياسيّة، وما قد تحمله من تشابه مع الحرب الباردة، يجوز القول إنّ الحرائق تندلع اليوم في البيت الروسيّ الكبير. هذا ما نراه الآن ساطعاً في أوكرانيا، الفناء الخلفيّ لروسيا. صحيح أنّ النزاع السياسيّ يتقاطع مع نزاع قوميّ ولغويّ، وأنّ النتائج التي قد تسفر عنها المواجهة الروسيّة – الغربيّة تنطوي على احتمالات متباينة عدّة، في عدادها التقسيم وفي عدادها التقاسم في الأرض أو في السلطة. إلاّ أنّ ما لا يرقى إليه الشكّ أنّ الأزمة الأوكرانيّة وضعت فلاديمير بوتين في موضع المدافع. وحتّى في حال الهجوم العسكريّ المرجّح في القرم، وربّما أيضاً في الشرق، دفاعاً عن «الأمن الحدوديّ» لبلاده، فإنّ ما سوف يناله، أي الشرق والجنوب، سيكون أقلّ من أوكرانيا الحاليّة التي سيتّجه ثلثاها وجهة أخرى. ومع كلّ الفوارق بين أوكرانيا وسوريّة، حيث تصطبغ الثورة أيضاً بالأزمة الاقليميّة والاحتراب الأهليّ، يبقى أنّ حليف موسكو هو المدافع. ذاك أنّ النظام السوريّ هو ما هبّت الثورة في وجهه، وهو تالياً المعرّض للسقوط على نحو…
السبت ٠١ مارس ٢٠١٤
أن لا تعلن إسرائيل عن غارة عسكرية أغارتها جواً على «حزب الله»، فهذا ليس مستغرباً، ذاك أن الإنجاز بالنسبة إلى الدولة العبرية يتقدم على الإعلان. ولضمان أن يبقى الإنجاز متقدماً، يناقش الإسرائيليون كل حرف يصدر عن خصومهم، ويضعون كل الفرضيات ويعملون بموجبها كي لا يتأذى مواطن من مواطنيهم، وكي يبقى الإنجاز أولاً. أما ألا يعلن «حزب الله» عن الغارة إلا متأخراً وبشكل مقتضب، فلا يحاول استخدامها لتوكيد استمرار الحرب بينه وبين إسرائيل، ولا يجد فيها فرصة جديدة للتذكير بمظلوميته حيال عدو صلف، فهذا ما يدعو إلى الاستغراب. يفاقم الاستغرابَ هذا أن الحزب ينتسب إلى ثقافة تمنح الأولوية للإعلان على الإنجاز، إلى الحد الذي يغدو الإعلان نفسه إنجازاً. لقد كان في وسع الحزب أن يقتنص فرصة ضربه، جرياً على تقليد عريق، فيذكرنا مجدداً بأنه الضحية وأن عدوه الجلاد، وبأن حربه في سورية لم تُلهِ إسرائيل عنه لأنها لم تُلهِه عن فلسطين. وهكذا ينساب الاستنتاج المنطقي: إذاً المعركة واحدة ضد الإسرائيليين وضد التكفيريين في سورية. فوق هذا، فالحزب الذي اعترف بالعملية اعترافاً مقتضباً ومتأخراً، وعد بالرد «في المكان والزمان المناسبين». ومن يعرف معنى العبارة التي اختُبرت ألف مرة من قبل، يعرف أن الحزب لن يرد إلا على نحو يتيح التملص من «الرد». العصافير التي في يده تُركت إذاً حرة طليقة. تم التركيز…
الثلاثاء ٢٨ يناير ٢٠١٤
يُفترض بالمعارك الثقافيّة والرمزيّة أن تخدم معارك أخرى ملتهبة على جبهات القتال والسياسة والرأي العامّ. أمّا أن تشتعل المواجهات الثقافيّة فيما تخبو الجبهات السياسيّة والعسكريّة، فهذا ما يصعب تفسيره بغير النزعة الصبيانيّة. والصبيانيّة قد تتوهّم أنّها بمقاطعة كتاب أو فرقة موسيقيّة، أو بإدانة فيلم سينمائيّ أو تحقيق صحافيّ، أو بالتنديد بمصافحة مع إسرائيليّ...، إنّما تعدّل توازنات القوى على الأرض. وقد يذهب بها العُظام والنبويّة أبعد من ذلك، فترى إلى نفسها نائبة عن التاريخ أو موقظة لضميره النائم. هكذا تُبنى الحجّة الألفيّة والخلاصيّة على النحو التالي: صحيح أنّ جبهات القتال والسياسة ساكنة هادئة، لكنْ لا، فنحن، من يناهضون التطبيع، نشعلها على جبهات الكتب والأفلام في انتظار أن يستيقظ الضمير، أو استعجالاً منّا لتلك اليقظة الآتية. وهذا الضمير، على ما يبدو، لا يستيقظ. فقد انقضت ثلاث سنوات على ثورة مصر التي أطاحت «نظام كامب ديفيد» ولم يُلغ كامب ديفيد. وتعاقب على إبداء التمسّك بالسلام الطرفان الأقصيان في المجتمع المصريّ، أي العسكر و»الإخوان المسلمون»، أمّا الأطراف الأضعف حضوراً، فلم يستيقظ ضميرها هي الأخرى، ولم تندفع مطالبةً بإلغاء كامب ديفيد. هكذا تبدو المعركة الثقافيّة المحتدمة كأنّها لا تخدم شيئاً على الإطلاق سوى استعراض قدرة أصحابها على إبهارنا بهزليّتهم. ولا يلزمنا الكثير من الاطّلاع كي نلاحظ أنّ ما يجري في الواقع العربيّ العريض يؤكّد تلك…
السبت ١٨ يناير ٢٠١٤
حين نزح الفلسطينيّون إلى سوريّة، بعد نكبة 1948، فعوملوا فيها أفضل ممّا عوملوا في أيّ بلد عربيّ آخر، لم يكن حزب البعث يحكم سوريّة. والأمر نفسه حين أقيم مخيّم اليرموك في 1957. بطبيعة الحال كانت القوميّةُ العربيّة الرطانةَ الإيديولوجيّة التي تسود سوريّة والسوريّين، وربّما وفقاً لها اختير اسم المخيّم الفلسطينيّ الأكبر تيمّناً بالمعركة التي حملت الإسلام والمسلمين من شبه جزيرة العرب إلى بلاد الشام ثمّ عرّبت الأخيرة. أغلب الظنّ أنّ حزب البعث ما كان ليفعل شيئاً آخر يختلف عمّا فعلته الأنظمة السابقة عليه في ما خصّ استقبال اللاجئين الفلسطينيّين وإقامة المخيّم وتسميته. فهو إنّما نشأ على الرابطة العروبيّة، بل جعل منها علّة وجوده. فوق هذا، لم يكن «تحرير فلسطين» غريباً عن ترسانته الإيديولوجيّة الطالعة من القصائد. ما اختصّ به البعث الحاكم، على أيّة حال، هو إحداث انقلاب في الوظائف المسمّاة قوميّة: فبدل أن تقاتل الدولة السوريّة، وكلّ دولة عربيّة، لتحرير فلسطين، على ما تقول المقدّمات النظريّة والتعبويّة للحزب، بات الفلسطينيّون مدعوّين للقتال خدمة للدولة السوريّة كما يبنيها البعث ويحتكرها. هكذا، وفي وقت مبكر، أسّس الأخير منظّمة «الصاعقة» التي تأتمر بأمره، كما امتلك اليد الطولى في منظّمات فلسطينيّة الاسم، كـ «الجبهة الشعبيّة – القيادة العامّة» و «جيش التحرير الفلسطينيّ»، قبل أن يشقّ حركة «فتح» ويقدّم «فتح الانتفاضة» بديلاً لها. في موازاة…
الثلاثاء ١٤ يناير ٢٠١٤
لكل واحد من الشعوب العربية المحيطة بإسرائيل ذاكرته الأليمة مع أرييل شارون، وزير دفاع إسرائيل ثم رئيس حكومتها الذي توفي قبل أيام. ففضلاً عن الفلسطينيين الذين لا يمكن أن ينسوه، يذكره الأردنيون في قبية في 1953، ويذكره المصريون في جميع مواجهاتهم مع الدولة العبرية التي امتدت من حرب السويس في 1956 إلى حرب الاستنزاف في 1968 فحرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973. لكن اللبنانيين، ومعهم بالطبع الفلسطينيون، يذكرونه بحدة أكبر تبعاً لدوره في غزو لبنان عام 1982. والحدة هذه ليست ناجمة فحسب عن أن جيشه دخل، بدخوله بيروت، أول عاصمة عربية، أو عن إشرافه على مجزرة صبرا وشاتيلا التي أودت بما يتراوح بين 800 و1000 ضحية من المدنيين بعد ترحيل مسلحيهم، ما أضاف النذالة إلى الهمجية. أغلب الظن أن تلك الحدة مصدرها كامن في داخلية الأثر الشاروني على لبنان قياساً بخارجيته في الأردن ومصر. فالشارونية، في لبنان، كانت حدثاً اجتماعياً ومجتمعياً، إلا أنها ظلت، في الأردن ومصر، حدثاً عسكرياً وتقنياً. سبب ذلك أن ما فعله شارون بلبنان وفلسطينييه جاء لاحقاً لحرب أهلية سبق أن انفجرت قبل سبع سنوات، تخللتها أعمال قتل همجية مارسها لبنانيون بحق لبنانيين ولبنانيون بحق فلسطينيين وفلسطينيون بحق لبنانيين. ثم إن فعلة شارون هي ما تأدّى عنها انتخاب رئيس للجمهورية هو بشير الجميل، الذي لم يكن وجهاً قليل…
الأربعاء ٠٨ يناير ٢٠١٤
«دولة الشام والعراق الإسلاميّة»، التي باتت تُعرف بـ «داعش»، صارت، بين ليلة وضحاها، طرفاً يُحسب له كلّ الحساب. إنّها الحركة المتزمّتة، العنفيّة والبطّاشة، التي تتجاوز الحدود الوطنيّة لدولتي العراق وسوريّة وتزعم دمجهما في دولة واحدة ذات أفق إسلاميّ. إنّها، بالتالي، وحدويّة، نافية لما تواضع عليه سايكس وبيكو. صعود «داعش»، هذا الحدث الذي شهده العام 2013 الفائت، ولا يزال يئنّ تحت وطأته العام 2014 الجاري، عرف ما يشبهه قبل ستين عاماً، حين استولى «حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ» على السلطة في العراق وسوريّة بفاصل شهر واحد فحسب (8 شباط/ فبراير و8 آذار/ مارس). طبعاً، الفوارق بين حزب «البعث» ومنظّمة «داعش» كبيرة ونوعيّة. فالأوّل وصل إلى السلطة عبر الانقلاب العسكريّ وكان يقول بالعروبة إيديولوجيّةً له، أمّا الثانية فتسمّي نفسها مشروعاً جهاديّاً وتقول بالإسلام مرجعاً إيديولوجيّاً وحيداً حاكماً لها. مع هذا، فالبعث حكم البلدين في 1963، و «داعش» تحاول اليوم قضم البلدين، أو سنّتهما على الأقلّ، مهدّدةً غير السنّة فيهما في وجودهم ذاته. والبلدان المعنيّان، في الحالتين، هما العراق وسوريّة اللذان حاول البعث النظريّ توحيدهما، وتعاملهما اليوم «داعش» بوصفهما بلداً واحداً. ومثلما وصل البعث إلى السلطة في البلدين بالعنف والقهر، تحاول «داعش» بالعنف والقهر الإمساك بما تيسّر منهما. لكنّ البعث يومذاك كان، في جانب منه، اعتراضاً على التيّار القوميّ العريض الذي مثّلته الناصريّة، بينما…
الثلاثاء ٢٤ ديسمبر ٢٠١٣
يُلاحظ، منذ فترة لم تعد قصيرة، أنّ ثمّة تسويقاً واسعاً لما يتعرّض له المسيحيّون في سوريّة، على أيدي أطراف محسوبة، في صورة أو أخرى، على الثورة السوريّة. ولا يخلو التسويق هذا من التذكير بما حلّ بالمسيحيّين في العراق، أو بتراجع وزنهم وحجمهم في لبنان. لكنّ الأدوات السياسيّة والإعلاميّة التي تتولّى الخلط والترويج هذين، وترفع وتيرة المشاعر والغرائز الطائفيّة، يفتقر الكثير منها إلى كلّ حساسيّة حيال المسيحيّين أو الأقليّات الأخرى، فضلاً عن أنّ الكثير منها ضالع في الأعمال التي انتهت بالأقلّيات الدينيّة والإثنيّة إلى ما تعانيه راهناً. يكفي استرجاع السخرية، إن لم يكن العداء المسلّح، لفكرة لبنان كوطن للأقليّات وكضمانة لها. مع هذا، هناك مشكلة أقليّات جدّيّة، ومشكلة جدّيّة تتّصل بالمسيحيّين ووضعهم الراهن في سوريّة والمنطقة. وهذا ما لا ينفيه القول إنّ الأكثريّة السنّيّة تعاني أيضاً، بل إنّها تعاني أكثر ممّا تعانيه الأقلّيّات. ونعرف أنّ تلك الحجّة القديمة التي استُخدمت للتخفيف من حجم المحرقة اليهوديّة، والقائلة إنّ عشرات الملايين من غير اليهود قد قُتلوا أيضاً، صارت حجّة على أصحابها اللاساميّين. ذاك أنّ الذين يُقتلون بسبب دينهم أو إثنيّتهم ليسوا كمن يُقتلون في المعارك أو من جرّاء اضطهاد سياسيّ أو إيديولوجيّ يُنزله بهم نظام غاشم. يضاعف حجم مسألة الأقلّيّات صعود التكفيريّين الحاليّ والمتفاقم. فإذا صحّ أنّ «النصرة» و «داعش» وأضرابهما تشكّل خطراً…
السبت ١٤ ديسمبر ٢٠١٣
جاء اختطاف رزان زيتونة وسميرة الخليل ووائل حمادة وناظم حمادي ردّاً من الطور الراهن للثورة السوريّة على طورها الأوّل. فالناشطون الأربعة الذين يُقدّر أنّ خاطفهم "جيش الإسلام"، ابن البارحة، كانوا، منذ اندلاع الثورة، يتفانون في خدمتها بوصفها تطوّراً مدنيّاً وسلميّاً ضخماً، كما في التعريف بها إعلاميّاً وثقافيّاً. وعلى طريق الانتقال من ذاك الطور إلى هذا، خُطف مدنيّون علويّون وشيعة لبنانيّون وأسقفان وراهبات مسيحيّون وصحافيّون أجانب والأب باولو. كما تنامت على الجنبات ظاهرات تجمع بين الارتزاق الشلليّ الرثّ والراديكاليّة الدينيّة العُصابيّة، وهي راحت تنتقل تدريجاً من الهوامش إلى المتن. أمّا جسر الانتقال من طور إلى طور فكانت التشكيلات العسكريّة، وأبرزها "الجيش السوريّ الحرّ"، التي أنتجتها عسكرة دُفعت الثورة دفعاً إلى اعتمادها. فوحده الذي يستجيب دعوة المسيح بأن يحوّل الخدّ الأيسر لمن يضربه على الأيمن هو من لا يتعسكر في ظلّ قمع من عيار وحشيّ مارسته السلطة السوريّة ولا تزال. وكما بات معروفاً، لم تكتف الأخيرة بهذه المساهمة في تسميم أعدائها، فأضافت إليها اعتقال ناشطي التنسيقيّات وإطلاق سراح إرهابيّين تكفيريّين من سجونها، أي تعطيل رموز الطور الثوريّ الأوّل وتعظيم رموز الدور الحاليّ. وليس قليل الدلالة أنّ "الجيش الحرّ" نفسه راح يقضمه إسلاميّون مقاتلون بعضهم خرج من جسده ذاته، وبعضهم من خارجه أو من الخارج. وهذا، في عمومه، يرقى إلى محنة باتت تئنّ…
الثلاثاء ١٠ ديسمبر ٢٠١٣
رحيل نيلسون مانديلا غدا حدثاً محلياً في معظم بلدان المعمورة، ونادراً جداً ما يرقى خبر يتصل بفرد من الأفراد إلى خبر بهذه العالمية، خصوصاً أن الراحل لم يكن، عند رحيله، حاكماً وصانع قرار يتأثر به آخرون. الأمر الذي لا يخلو من بُعد وجداني مؤثر، لا يخلو كذلك من إجماع مزعج لا تحظى بمثله إلا الرموز الدينية. حتى العنصريون انضموا إلى القافلة العريضة التي تكرم مانديلا!، فيما نشأ تنازع عليه بين المَضارب الأيديولوجية التي ينسبه كل منها إليه على نحو حصري. لكن الإجماع المزعج هذا يخفي دلالات لا يختصرها التزييف أو الدجل أو الاحتكار، ذاك أن الحداثة جعلت العنصري يخجل بكونه عنصرياً، ومن دون أن تخف عنصريته أو تتراجع، بات مستعداً للاحتفال بهزائم العنصرية. وبالمثل غدا التمدن المسلَّم بفضائله رادعاً دون التغني بالنزعات العنفية، مثلما غدا دافعاً إلى تمجيد رموز النزعات السلمية، حتى لو كان الممجِّد هو نفسه عنيفاً. عند هذه المسارات المتداخلة والملتبسة يقع مانديلا وتَرِكَته، إلا أنه يقع أيضاً في مسار غني من الانتقال والتحول العالميين، فهو في بداياته انتسب إلى نهج بالغ التطرف لا يتردد في مد المقاومة إلى إرهاب. يومها كان المعسكر الاشتراكي وحلفاؤه هم الذين يتعاطفون معه ومع ما يمثل، تماماً كما كان الشيوعيون البيض في جنوب إفريقيا هم البيض الوحيدون الذين يؤيدون نضاله. أما الغرب،…
السبت ٠٧ ديسمبر ٢٠١٣
درج، قبل سنوات قليلة، تعبير «قوّة فائضة» في وصف «حزب الله» وحاله قياساً بالمجتمع اللبنانيّ البالغ الضعف، فضلاً عن دولته الهزيلة. ويمكن الكلام الآن عن «انتصارات فائضة» أحرزها الحزب ذاته، أو زيّن لنفسه وللعالم أنّه أحرزها، ثمّ تصرّف بموجب ذلك. فليس قليلاً، مثلاً، أن يتولّى الأمين العام للحزب التعريف بطبيعة الحرب في سوريّة ومجرياتها، وكيف أنّها كُسبت، وكيف أنّ تدخّله وتدخّل حزبه كانا سبب كسبها وسقوط الرهان على انهيار النظام السوريّ. والحال أنّ الحزب يراكم، منذ 2005، انتصارات أو أوهام انتصارات يُشكّ في قدرته على هضمها، خصوصاً أنّ الكثير من تلك الانتصارات والأوهام نجم عن خسائر مُني بها حلفاء الحزب أنفسهم، لا أعداؤه. ففي 2005، ومع انسحاب الجيش والأمن السوريّين من لبنان، تحوّلت وظيفة ردع لبنان إلى السيّد نصرالله وحزبه. وقد ظهر غير طرف يتّهم الأخير بالضلوع في اغتيال رفيق الحريري، وهذا قبل أن يستدعي الحزب نفسه حرب 2006 لتحويل التركيز عن الموضوعات التي أطلقها اغتيال الحريري وإعادة الاعتبار للأجندة القديمة ذات الأولويّة الإقليميّة كما فُرضت على لبنان بقوّة «وحدة المسارين». وبنتيجة الحرب هذه، زعم الحزب لنفسه انتصاراً إلهيّاً غير مسبوق عُيّر به، علناً أو ضمناً، العرب والفلسطينيّون الذين سبق لجيوشهم ومقاوماتهم أن هُزمت أمام الدولة العبريّة. وعلى رغم احتفال الحليف السوريّ بالانتصار الإلهيّ في 2006، ظلّ من الصعب التكتّم…
السبت ٣٠ نوفمبر ٢٠١٣
يستند الحديث الرائج عن دور إقليميّ لإيران، مُقرّ به أميركيّاً ودوليّاً، وعن تحوّلها «شرطيّاً للخليج والشرق الأوسط»، إلى مرتكزات جدّيّة قدر ما يفتقر إلى مرتكزات أخرى. فنحن غالباً ما يفوتنا حجم التقاطع بين واشنطن وطهران، والذي يشمل تقاسم النفوذ في العراق وتأمين مستقبل أفغانستان والوقوف في وجه التطرّف السنّيّ. وحتّى في النقطة الإقليميّة الخلافيّة الأكبر، أي الموضوع الإسرائيليّ، فإنّ «النصر الإلهيّ» لأتباع إيران في 2006 ألغى الالتحام في مركز الالتحام الأبرز، فصارت الجبهة اللبنانيّة – الإسرائيليّة منذ القرار الدوليّ 1701 مثل الجبهة السوريّة – الإسرائيليّة منذ 1974. وأغلب الظنّ أنّ الولايات المتّحدة، فيما تنكفئ نسبيّاً عن المنطقة، يعوزها من يقوم بدور إقليميّ نشط وديناميكيّ أثبت الإيرانيّون أنّهم يملكون القوّة والبراعة المطلوبتين لأدائه، خصوصاً أنّ تولّي الإسرائيليّين له، وهم ليسوا عرباً ولا مسلمين، قد يتسبّب بإحراجات وإرباكات تفوق مغانمه وإنجازاته. فوق هذا، ليس من الصعب استبيان عاطفة ثقافيّة، أميركيّة وأوروبيّة، يمينيّة ويساريّة، تستسيغ الفرس أكثر من العرب، والشيعة أكثر من السنّة، لأسباب عدّة تضرب في تواريخ الأنظمة والمعارضات، والأكثريّات والأقليّات، وقابليّات الحراك والديناميّة مقابل المحافظة والحرص على المألوف. أمّا في السوابق التاريخيّة فنعرف أنّ شاه إيران كان بالضبط صاحب دور كهذا، وهو ما يصحّ جزئيّاً في حافظ الأسد إبّان فترات التقاطع العريض بينه وبين الولايات المتّحدة. ولنا، هنا، أن نتوقّف خصوصاً…