حازم صاغية
حازم صاغية
كاتب وصحفي لبناني

تخبُّط أوباما… أم تخبُّط المرحلة؟

السبت ٠٩ نوفمبر ٢٠١٣

في انتظار أن تتضح نتائج زيارة وزير الخارجيّة الأميركي لمصر والسعودية، بات من المتفق عليه أن اهتمام رئيسه باراك أوباما بالداخل الوطنيّ يفوق كثيراً عنايته بالخارج الدوليّ. لكنّ الإشارات تتكاثر إلى أن المسألة باتت تتعدّى ذلك: فما نراه، وعلى أكثر من صعيد، هو حركة تراجُع تعصف بالعلاقات الخارجية للولايات المتحدة مع بعض أوثق حلفائها، من دون أن يطرأ أي تحسن على الأداء الداخلي لإدارة أوباما. فقد سبق أن أُعلن من قبل عن تبني واشنطن سياسة اقتصادية فحواها تذليل الأزمة المالية عبر إنشاءات ومشاريع كبرى تقيم بنى تحتية، أو تجدد القائم منها، فيما تخلق فرص العمل المطلوبة. وغنيّ عن القول إن اقتراحاً كهذا ينبع من صميم العلاج الكينزيّ الكلاسيكي للأزمات، حيث تتوافر فرص العمل فيما يصار إلى إرساء أبنية صلبة للتقدم والنمو. لكنّ جهد الإدارة توقف على هذه الجبهة موجّهاً كل زخمه إلى برنامج الرعاية الصحية أو «أوباما كير». وهنا أيضاً، وكما بات معروفاً، لم يظهر شيء ملموس يمكن عدّه نصراً. وجاءت أزمة إغلاق الإدارة الأميركية مكاتبها وكفّ يد الحكومة الفيدرالية عن الإنفاق لترسم الحدود البعيدة لإخفاق أوباما الداخلي. على أيّة حال، بقيت السياسة الخارجية مسرح الفشل الأكثر صخباً. فقد جاءت فضيحة التنصّت لتسيء، دفعة واحدة، إلى علاقات أميركا مع حليفات أساسيّات كألمانيا وفرنسا وإسبانيا، ناهيك عن بلدان أبعد كالبرازيل والمكسيك.…

النزوح السوريّ: لا شعوب ولا قضايا

السبت ٢٦ أكتوبر ٢٠١٣

عندما حلّت نكبة فلسطين في 1948، وراح مئات آلاف الفلسطينيّين ينزحون نحو بلدان الجوار، أبدى معظم الشعوب والبلدان المستقبِلة طريقتين في الاستقبال: من ناحية، تعهّدٌ بعد تعهّدٍ بتحرير فلسطين وإعادتها إلى «الإخوة» الفلسطينيّين وإعادتهم إليها، ومن ناحية أخرى، إخضاع أولئك «الإخوة» النازحين لشروط حياة سيّئة ومُذلّة يتخلّلها، بين وقت وآخر، قمع مفتوح. السلوك كان يفضخ اللغة، ويشي بأنّ الأمر لا علاقة له بأيّة «أخوّة» أو أيّة قضيّة مدّعاة. ففلسطين، على صعيد اللغة، قوّت جماعات أهليّة في البلدان المستقبِلة على جماعات أخرى، وأخافت جماعات ضعيفة من جماعات غيرها في أوطان نسيجها ضعيف أو هشّ. لهذا كان مطلوباً أن تفسح لها اللغة السياسيّة مكاناً فسيحاً وراسخاً، تبنّياً أو رفضاً، قبل أن تضع الأنظمة العسكريّة الوليدة اليد عليها فتمضي في استخدامها وتوظيفها. أمّا في ما خصّ السلوك، فاشتغلت عوامل أخرى أشدّ التصاقاً بحقائق الحياة. هنا اندرجت، فضلاً عن المخاوف العصبيّة الضيّقة، ثقافة أبرشيّة كارهة للغريب يتشارك الجميع فيها، ومواقف تتّصل بالعمل والسكن وشروط الحياة التي تميل دائماً قطاعات من السكّان المحليّين إلى تحميل قصورها ونواقصها للغريب. في اللغة، كان الفلسطينيّون إخوةً قضيّتهم قضيّتنا القوميّة والمقدّسة. في السلوك، كانوا غرباء، فيما القضيّة الفعليّة الاستفادة من قضيّتهم حين تبدو مفيدة، وإشاحة النظر عنها حين تبدو ضارّة. شيءٌ كهذا يحدث اليوم في لبنان، لا في البيئة…

«الإخوان» العرب بلا نموذج

الثلاثاء ٢٢ أكتوبر ٢٠١٣

في حركة متخمة بالإيديولوجيا كجماعة «الإخوان المسلمين»، يصعب احتمال هذا الإدقاع في النموذج والجاذبيّة. وإذا جاز تقبّل الاكتفاء بالعصر الذهبيّ للإسلام الأوّل نموذجاً لـ «الإخوان المسلمين»، فهذا ما لم يعد كافياً بعد الإمساك بسلطة هنا والاقتراب من سلطة هناك. ذاك أنّ المطلوب، والحال هذه، تقديم نموذج صغير يبرهن أنّ النموذج الأصليّ الكبير، كائناً ما كان تعقّله وتأويله، لا يزال صالحاً ليومنا هذا. لقد بدا، مع ثورات «الربيع العربيّ»، وما رافقها من انفجار في الحضور الإسلاميّ، أنّ تركيا «العدالة والتنمية» ستكون مصدراً لنموذج محتمل. هكذا تفاءل بعضنا بما يبدو اليوم على قدر كبير من التسرّع. وكان ما يحمل على اعتبار الأمر تسرّعاً أنّ التعويل على النموذج التركيّ كان يترافق مع تهاوي أحد أبرز أعمدته، أي نظريّة داوود أوغلو في تصفير المشاكل. لقد كان من المستحيل الإعجاب بتصفير المشاكل في عين اللحظة التي تتفجّر فيها المشاكل طالعة من تحت الأرض. بعد ذاك كرّت السبحة سريعاً وإذا بتركيّا «الإخوانيّة» تبدي من علامات التصدّع، في ساحة «تقسيم» وسواها، ما ينزع عنها هذا الترشّح للمهمّة الجليلة. وربّما جاز القول إنّ تهاوي النموذج، لدى الإسلاميّين العرب، لا «الإخوان» وحدهم، بدأ في السودان. فنظام عمر البشير الذي كسر الأرقام القياسيّة في الفشل على الأصعدة جميعاً، تحوّل، في غضون سنوات، من مفخرة «إخوانيّة» وإسلاميّة إلى موضوع للتنصّل، إن…

مأساة الثورة، مأساة سورية

السبت ١٩ أكتوبر ٢٠١٣

تفترض الثورة، أية ثورة، أنها بإطاحتها النظام القائم تطيح وضعاً شاملاً كاملاً. ذاك أن النظام مصدر ذاك الوضع، صانعه ومهندسه. وكلما كانت السلطة أكثر استبدادية، وأشد دمجاً لمستويات الوجود الاجتماعي وإمساكاً بها، كان الوضع الذي يخضع للتغيير أشد اتساعاً وعمقاً. في هذا المعنى لم تشذ الثورة السورية عن ذاك المبدأ العام، هي التي واجهت نظاماً شبه توتاليتاري يستولي عنوة على معظم مصادر الحياة وتجديدها. الآن، بل منذ أشهر، بدأ يتغير هذا الوضع. فلأسباب عدة، داخلية وخارجية، تناولها كتاب ومحللون سوريون وغير سوريين، لم يستقر الوضع على هيئة ثورة تقضم السلطة والأرض مقابل نظام يخسر سلطته ويفقد أرضه. لقد حل، في المقابل، تعدد وتنازع في مراكز النفوذ وفي السيادة على الأرض، ما بين السلطة و «الجيش الحر» والقوى الإسلامية المتطرفة، وهي كثيرة ومتضاربة، والأطراف الكردية. هكذا غدت الثورة تواجه، في وقت واحد، قوة النظام الأمنية الموروثة عن الأمس، وضعفه المجتمعي، وبالتالي السياسي والأمني، الناشئ راهناً. وقد يجوز القول، في هذه الحدود، إن الثورة لم تعد ثورة حين كف النظام عن أن يكون نظاماً يستحوذ وحده على صناعة الواقع والوقائع. وصورة كهذه تغير جذرياً وجوهرياً في طبيعة الثورة وفي المهمات المطروحة عليها، إذ تضعها في مواجهة كل تلك القوى التي تتقاسم السلطة والأرض، لا في مواجهة النظام وحده. لا بل حتى لو…

تقارب أميركيّ – إيرانيّ؟

السبت ٠٥ أكتوبر ٢٠١٣

مدهشٌ مدى الفرح الممانع بـ «الاختراق» الذي شهدته العلاقات الأميركيّة – الإيرانيّة، أو في تسمية أخرى أشدّ صراحة وإشهاراً: «التقارب الأميركيّ – الإيرانيّ». وهذا من قبيل تباهي الصلعاء بشعر جارتها، لكنّه، فوق ذلك، ينطوي على نسيان أنّ أميركا... «عدوّ». المهمّ، إذاً، أن تنتقل هذه الأميركا إلى صفّ إيران، والباقي تفاصيل. ومن يدري، فقد نشهد غداً، أو بعد غد، إشارة أو إشارتين إسرائيليّتين توحيان للممانعين أنّ الدولة العبريّة نفسها تمارس «التقارب» مع إيران. وهذا، في حال حصوله، يمكن أن يرتقي بالفرح إلى مصاف اللذّة. إنّ في هذا شيئاً من عقليّة القبائل والعصبيّات التي تغلّب على كلّ مبدأٍ مبدأَ انتصارها على قبائل وعصبيّات مقابلة، وكفى المؤمنين الإيديولوجيا ومعاداة الإمبرياليّة والصهيونيّة! على أنّ ذلك كلّه لا يعدو كونه اصطهاجاً بزواج فيل من نملة. وما التشبيهان اللذان انتشرا بعد تلك المكالمة الهاتفيّة بين باراك أوباما وحسن روحاني سوى دليل على الجهل، لا بأميركا وإيران وحدهما، بل أيضاً بالصين وروسيّا. فقد شُبّهت تلك المكالمة بزيارة ريتشارد نيكسون إلى الصين الشيوعيّة وانفتاحه عليها، كما شُبّهت بالانعطافة الإيجابيّة التي أقدم عليها رونالد ريغان حيال روسيّا السوفياتيّة في عهد ميخائيل غورباتشوف. وقد فات أصحابَ التشبيهين هذين أنّ الصين آنذاك، في 1972، كانت قد خرجت من حرب حدوديّة مع الاتّحاد السوفياتيّ في 1969، ومذّاك وهي تتبع سياسة مناهضة لموسكو،…

طريق السودان الصعب!

الثلاثاء ٠١ أكتوبر ٢٠١٣

إذا ما كُتب للاحتجاجات الشعبيّة أن تتواصل في السودان، بتنا أمام احتمال تجربة ثوريّة جديدة مرشّحة لتجاوز العنوان الاقتصاديّ (أسعار المحروقات) إلى طرح مسألة السلطة. وهذا، على ما يبدو، ما لا تفعل سلطة عمر البشير إلاّ الدفع باتّجاهه، أكان ذلك من خلال القمع وتكميم الأصوات والصحف، أم من خلال اللغة السقيمة نفسها عن الإرهاب والمؤامرة. يحصل ذلك في مرحلة بدا معها أنّ «الربيع العربيّ» قد توقّف وأكمل دورته. والتوقيت «المتأخّر» هذا قد يساعد على التزوّد بجملة من الدروس تُستفاد من التجارب السابقة، متيحاً، من ثمّ، طاقة على التحليل والتوقّع لم تتوفّر لتلك التجارب التي لم يخل انفجارها من حسّ المفاجأة والدهشة. في هذا المعنى يمكن الـقول إنّ الـسودان، الـذي وضـعـه الـتـقـسـيـم الـسـابق أمـام انـعطاف نوعيّ كبير، سوف تضعه الثورة المحتملة، هي الأخرى، أمام انعطاف لا يقلّ نوعـيّة. وهنا أيضاً تتعايش الحماسة للحرّيّة والرغبة في سقوط حكم كامل الفشل، شعبه مفقر ومهان ورئيسه مطلوب من المحكمة الجنائيّة الدوليّة، مع الخوف ممّا قد ينفجر مع انفجار الحرّيّة ممّا يكبته راهناً صندوق باندورا السودانيّ. ولا بأس في هذا المجال من إيراد المخاوف الكثيرة التي يتصدّرها أنّ سودان اليوم يفتقر إلى وحدة القوى السياسيّة التي سبق أن أسقطت الديكتاتوريّتين العسكريّتين لإبراهيم عبّود في 1964 وجعفر نميري في 1985. ذاك أنّ تدمير تلك القوى كان…

أوجه التقاطع الروسية – الإيرانية

السبت ٢٨ سبتمبر ٢٠١٣

وراء الموقف السياسيّ الراهن الذي يجمع بين روسيا البوتينية وإيران الخمينية من سوريا وثورتها، بل من جملة بلدان وأمور أخرى، يكمن شبَه نادراً ما يشير إليه المراقبون والمعلقون. والشبه هذا إنّما يتعلّق بمسألة النماذج السياسية بوصفها امتداداً للموقف من بلدان الغرب الديمقراطي وتعبيراً عنه. فما المقصود تحديداً بمسألة النماذج السياسية هذه؟ إذا ما راجعنا تاريخ القرن العشرين، أو محطّاته الأبرز ذات المضمون الأيديولوجي، وجدنا أن النموذج الغربي السائد في الولايات المتحدة الأميركية وبلدان أوروبا الغربية، والمعروف بالديمقراطي الليبرالي، إنما تعرض لتحديات ثلاثة كبرى قدم كل واحد منها نفسه بوصفه الحامل لنموذج سياسي بديل: لقد كان التحدي الأول هو ذاك الشيوعي الذي تمكن من الوصول إلى السلطة بعد ثورة أكتوبر 1917 في روسيا القيصرية. ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية امتد هذا النموذج إلى الصين التي انتصرت ثورتها في 1949، بعدما كان الجيش الروسي الأحمر قد حمل النموذج إياه إلى سائر بلدان أوروبا الشرقية والوسطى. والتحدي الكبير الثاني كان ذاك الفاشي الذي حقق انتصاره الأول في النصف الأول من العشرينيات باستيلاء بنيتو موسوليني على إيطاليا، من خلال مسيرة الزحف على روما الشهيرة، ثمّ توّج هذا التحدي نفسه في الانتصار الانتخابي الذي أحرزه أدولف هتلر وحزبه القومي الاجتماعي في ألمانيا عام 1933. وكان التحدي الثالث في إيران بانتصار الثورة الإسلامية الخمينية في 1979.…

الثورة السوريّة وأميركا: سوء فهم قاتل

الثلاثاء ٢٤ سبتمبر ٢٠١٣

إذا وضعنا التفاصيل الصغيرة جانباً، ومعها المناشدات الإنسانيّة والأخلاقيّة التي تتجاهلها سياسات كبرى ضعيفة الإنسانيّة والأخلاقيّة، تراءى أنّ قدراً من سوء الفهم العميق يفصل بين الثورة السوريّة والولايات المتّحدة الأميركيّة، أو بالأحرى، أنّ صورة كلّ منهما عند الأخرى لا تشبه صورتها الفعليّة. فمفاد المناشدات التي تخرج من المعارضة السوريّة للولايات المتّحدة، أو الانتقادات التي توجّهها إليها لعدم استجابتها تلك المناشدات، هو الرغبة في انزياح بوشيّ عن الأوباميّة. وهذا ما يعني، شئنا أم أبينا، أنّ نجاح الثورة السوريّة، وثورات أخرى غيرها، مرهون بسياسة أميركيّة أكثر تدخّليّة ومبادرة. فحين يضعف «بوليس العالم»، الذي لا يريد أوباما أن يكونه، تقوى الأنظمة البوليسيّة من كلّ نوع. الإقرار بتلك الحقيقة يقوّي حجّة خصوم الثورة السوريّة الذين «يتّهمونها» بالهوى الأميركيّ، مع أنّ ذاك الهوى لم ينتج هوى يقابله ولا معونات تترتّب عليه. وهو أيضاً يُضعف حجّة بعض مؤيّدي الثورة من مواقع «يساريّة» أو مناهضة للولايات المتّحدة. بيد أنّ ما هو أهمّ من هذا وذاك أنّ «خطاب» الثورة يبقى في المحطّة الرماديّة حيال إعلان تلك الرغبة، وكثيراً ما يعلن نقيضها، خصوصاً حين يتعلّق الأمر بمسائل غير سوريّة، عراقيّة أو فلسطينيّة. هنا، تفعل الرواسب الإيديولوجيّة فعلها الكابح. وبدوره، لا يبدو الانزياح البوشيّ وارداً في الولايات المتّحدة (وأوروبا الغربيّة) حيث تستند الأوباميّة إلى مزاج شعبيّ صاعد أكثر انعزاليّة وعزوفاً،…

لبنان: الحرب الأهليّة التي لا تمضي

السبت ٢١ سبتمبر ٢٠١٣

هناك، بين الروائح العفنة الكثيرة في لبنان، رائحة تتأتّى عن موقف اللبنانيّين من الماضي، ماضي الحرب الأهليّة وماضيهم فيها. فهذا الأخير ليس فقط لا يمضي، بل هو يبقى مشروعاً أمثل للمستقبل. هكذا يراه الجميع كلٌّ من موقعه. يقال هذا الكلام وفي البال ثلاثة «احتفالات» أخيرة بذكرى أحداث ثلاثة تعاقبت في 1982: مقتل الرئيس المنتخب بشير الجميّل، ومذبحة مخيّمي صبرا وشاتيلا، وتأسيس «جبهة المقاومة الوطنيّة» ضدّ الاجتياح الإسرائيليّ. لقد كان اغتيال بشير حدثاً مؤلماً بالتأكيد، يندرج في الجهد المتواصل الذي رعاه النظام السوريّ للحؤول دون قيام سلطة مركزيّة في بيروت، ولتصفية القادة اللبنانيّين التي بدأت بكمال جنبلاط ووجدت تتويجها برفيق الحريري. لكنّ هذا لا يلغي أنّ بشير، مثله مثل سائر القادة اللبنانيّين، كان زعيماً طائفيّاً وميليشيويّاً، صعد إلى الرئاسة في الحرب الأهليّة وبسببها، ولم يتحقّق طموحه إلاّ بعد أن لوى الاجتياحُ الإسرائيليّ عنق الديموقراطيّة اللبنانيّة الهشّة. وهذا ما غاب عن بشيريّي 2013 الذين ظلّوا يتحدّثون كما لو أنّهم في 1982. وما من شكّ في أنّ مذبحة صبرا وشاتيلا كانت إحدى أبرز محطّات التلاقي، في التاريخ اللبنانيّ الحديث، بين وحشيّة القتل، وسفالة الاعتداء على المدنيّين بعد ترحيل مقاتليهم، واستعداد الحدّ الأقصى للتعاون مع الإسرائيليّين. لكنْ ما من شكّ أيضاً في أنّ تلك المذبحة توّجت مذابح كثيرة امتدّت لعامين، أنزلها لبنانيّون بلبنانيّين وفلسطينيّين،…

ضعف أوباما وضعف الثورة

السبت ١٤ سبتمبر ٢٠١٣

تجميد الضربة الأميركية جاء، كالعادة، مناسبة لإعلان انتصار. فوفق العقل اللامع الذي تتمتع به الممانعة، كل ما لا يميت ولا يهيل التراب فوق الجثة نصر مؤزر. التوقع توقع الذليل، والصراخ مرتفع جداً. مع ذلك مني النظام السوري بهزيمتين مادية ومعنوية مطنطنتين. فهو المالك والمخزن للسلاح الكيماوي الذي استخدم بعضه في الغوطتين، وهو المضطر تالياً إلى تسليمه صاغراً قبل تدميره الذي يصحبه تدمير آخر لكذبة «توازنه الاستراتيجي» مع إسرائيل. لكن النظام السوري سيكون أيضاً الخاضع لرقابة وتفتيش يشكلان، في أغلب الظن، خطوة أولى على طريق موته التي قد تطول وتتعرج. إنه الموت بعد إهانات كثيرة تضفي عليها صرخات المجد والانتصار نكهة المسخرة. لكن هذا لا يلغي أن الثورة السورية ليست الطرف المستفيد من الإضعاف الكبير الذي ألم بالنظام، وقد تنتهي الأمور إلى وضع لن يكون فيه أحد قادراً على الاستفادة من موته. ذاك أن المعركة السياسية الأخيرة التي نشبت بين «المجتمع الدولي» ونظام الأسد حيدت الشعب السوري وآلامه، تماماً بمقدار ما عجزت الثورة عن اختراق تلك المواجهة وعن إنشاء صلة عضوية بين معركتها ومعركة «المجتمع الدولي» ضد عدو مشترك. وفي القلب من هذه الصورة حل ضعفان: ضعف قيادة باراك أوباما (للأسف، الأمبريالية ضعيفة!) وضعف الثورة السورية. والحال أن الضعف الأول، بعد حروب العراق وأفغانستان وفي ظل الأزمة الاقتصادية، إنما يتغذى على…

حصاد الممانعة البائس

السبت ٣١ أغسطس ٢٠١٣

في التردّد والتمهّل الغربيّين، من انتظار تقرير المفتّشين إلى ما عبّر عنه تصويت مجلس العموم البريطانيّ، تقيم التجربة العراقيّة في مكان عميق. يصحّ هذا على عدم استيفاء الشروط التي تسمح بشنّ حرب مغطّاة قانونيّاً صحّته على النتائج التي انتهى إليها العراق بعد حرب 2003، حيث لم تقلع الديموقراطيّة فيما نشبت النزاعات المذهبيّة واستقرّت بلاد الرافدين في أحضان إيران. لقد فعلت ذاكرة العراق فعلها لجهة التوصّل إلى دروس وعِبَر يبقى من المبكر الجزم في تفاصيل التعلّم منها. هذا في ما خصّ أحد طرفي النزاع. أمّا الطرف المقابل، أي النظام السوريّ وجوقة الممانعين، فتُظهرهم التصريحات والإطلالات التلفزيونيّة على أنّهم لا يستندون إلى أيّة ذاكرة تاريخيّة يستمدّون المعاني منها. لا بل يلوح أنّ التعرّض لـ «العدوان»، وهو تعرّض جوهريّ لا يتغيّر، ولا يتغيّر المعتدون فيه ولا الضحايا، هو وحده تلك الخلفيّة «التاريخيّة» التي يُبنى عليها! فإذا حصل بعض الهبوط الاضطراريّ إلى الواقع، تمّ الاستشهاد بمحطّات هي إمّا هزائم مطنطنة (1967 عربيّاً أو 1982 لبنانيّاً) أو انتصارات مزعومة مطعون بصورتها النقيّة هذه (حرب السويس في 1956 أو حرب تمّوز في 2006). وما أزمة العلاقة بالماضي، بموقعنا منه وموقعه منّا، غير تعبير عن أزمة العلاقة بالحاضر، وفي القلب منه مسألة الحرب التي تكثّف تلك العلاقة. فإذا امتدّت الحيرة حيال الضربة الغربيّة بين إضعافها نظام الأسد…

المشرق العربيّ: العنف يغلب السياسة

السبت ١٧ أغسطس ٢٠١٣

مع اندلاع ثورات «الربيع العربيّ»، كان المؤمّل أن تغدو السياسة الثمرة الأكبر التي تنتجها الحرّيّة. لكنّ نظرة سريعة إلى مصر وسوريّة، وإلى العراق الذي عرف «ربيعه» في 2003، وجزئيّاً لبنان الذي يعيش تداعيات «الربيع» السوريّ، تقودنا إلى فرضيّة أخرى. ذاك أنّ العنف والكراهية اللذين ربّتهما العقود الفائتة نالا نصيباً من الحرّيّة يفوق ما نالته السياسة. لقد تحرّر أيضاً العنف والكراهية، ولدينا منهما الكثير المكبوت، بحيث ابتلعا كلّ سياسة. ففي مصر بدا مفاجئاً مدى إصرار «الإخوان المسلمين» على معاقبة الشعب بالأسلمة، ثمّ بدا مفاجئاً أكثر مدى الكره المكنون والمؤصّل حيال جماعة «الإخوان»، لا عند العسكر فحسب، بل أيضاً عند قطاعات عريضة من المدنيّين، العلمانيّين وأنصاف العلمانيّين. ووسط مذبحة قد تتلوها مذابح، اتّجه «الإخوان» أنفسهم، وقد باتوا الضحايا، إلى الثأر من مكروهيهم الأقباط بالاعتداء عليهم وإحراق كنائسهم! وفي سوريّة لم تعد جماعات «القاعدة» و «النصرة» تفصيلاً تستطيع الثورة أن تتجاوزه وتطوي صفحته. فهذه التنظيمات القاتلة ابتلعت جزءاً كبيراً من الثورة، وتهدّد راهناً بابتلاع الباقي. وحينما يُختطَف رجل كالأب باولو، يصير جائزاً القول إنّ المشاعر المناهضة للمسيحيّين، وللشيعة والعلويّين، بدأت تغلب كلّ المشاعر الأخرى الدائرة في فلك الثورة، بما فيها بناء سوريّة جديدة لجميع أبنائها. والحال، وكما يتبدّى في أعمال القتل المتمادي والعديم الرحمة في العراق، وفي جريمة التفجير الأخير في الضاحية الجنوبيّة…