الأربعاء ٠٨ مارس ٢٠١٧
ماذا لو لم تكن ثمة نقطة بعد آخر جملة في رواية طويلة؟ سؤال طفولي توارد إلى ذهني بعد قراءات متنوعة، فالنقطة ختامية، تُنهي الحكاية لتسكت الجميع، ورغم أن الروائي ألبرتو مانغويل يقول: «النقطة تُنهي آلامنا» لكنني أراها دائرة صغيرة مظلمة تقف بعد جملة طويلة قد غرقنا في تفاصيلها، تمنينا حينها أن نستمر في ذلك الغرق اللذيذ، لكن السيدة نقطة تتسيد فجأة لتحسم كل شيء، حينها ننفصل عن زمن الرواية ومكانها الذي كان، لتصبح النقطة قمعية في حكاياتنا، تأخذنا بحضورها الكريم والناعم نحو الصمت قائلة: ها قد أغلقتُ باب الرواية، لقد جلست لترسخ مكانها بعد آلاف المفردات، وتتشبث دون حراك فتتلاشى أصواتنا الحائرة حيث لا عودة إلى ما كنا فيه، نستفيق حينها كقراء، بعد أن كنا نعتقد أن الروائي لم يعد قادرًا على إكمال روايته التي أخذت تنهي نفسها، وأنه شعر بالإنهاك فاستعان بالنقطة لحفظ ما تبقى من معنى. كل علامات الترقيم تأخذ أدوارها وتتكرر، تتعجب وتستفهم، تتناثر الفواصل بين الجمل وتربطها ببعض، نسيج واحد، علامات تتعاون ولا تنقسم بين كل ما يقال، إلا أن الجميع يأبى أن يقف بعد الجملة الأخيرة في الكتاب، سوى تلك النقطة، لا أحد غيرها يتربع على عرش النهاية. يا لهذه الحبة الصغيرة التي يصبح الجميع في حضرتها أبكماً، نقطة تأبى أن ترفعنا أو تضمنا، بل…
الخميس ٢٢ ديسمبر ٢٠١٦
لم تصمد لغة في تاريخ اللغات بأشكالها كما صمدت اللغة المكتوبة التي قاومت كل التحديات وكرّست وجودها الفاعل، ولعل من أبرز أسباب رسوخها واكتسابها صفة الديمومة هو التدوين الذي يُنعش روحها ويبعث فيها القدرة على البقاء، رغم موجات الاندثار التي جعلت بعضها يستسلم – ولو مرحليًا – تحت ضربات معول الزمن، ومع ذلك غابت لغات مكتوبة في غياهب الزمن، حتى بات من البديهيات النظر في شأن اللغات أنْ لا ضمان في بقاء أية لغة على قيد البقاء. وفي استقراءٍ بسيط لي بشؤون اللغات الميتة، والتي كانت مكرسة على مساحات شاسعة من جغرافية الأرض لأقوام وحضارات، ألاحظ أن لا بقاء للغة المكتوبة مهما كانت مدعمة الوجود، وكمثال أذهب إلى الأبجدية السومرية التي كانت لغة الدين والحياة في جنوب بلاد الرافدين وسواحل الخليج من دلمون وفيلكا وغيرها.. امتدت حدود الخمسة آلاف عام، هذه الأبجدية العريقة أضعفتها اللغة الأكدية التي مُزجتْ بها، ومن ثم البابلية فالآشورية حتى طمست حضورها اللغة الآرامية المتعلقة بالديانة المسيحية، لتختفي السومرية من لغة الحياة، ولم يشفع لها الدين أو التدوين. وبعيدًا عن حكاية تاريخ اللغات القديمة، نقترب مدققين في واقع الأمر بما يخص اللغات الحديثة كالفرنسية التي كانت لغة العالم المتحضر في القرن السابع عشر وحتى القرن التاسع عشر، أخذت تنحسر أمام لغة السوق والتجارة المتداولة في القرن…
الخميس ١٦ يونيو ٢٠١٦
يجتنون محاصيلهم كل موسم، غلال صفراء نضرة لا مثيل لها، تدس الشمس ضوءها بمحبة في الحصيد، لتستريح «غليلة» كلها شبعاً وارتواءً. زراعة القمح في قرية «غليلة» برأس الخيمة سمةٌ لاسمها، فهي الغلة التي تأخذ في معناها الكفاف، ومن ثم الفرح والانفراج.. وبالمقابل، وفي معنى آخر، فإن «غلة» هي اللوعة والهيام والجوى.. لِمَ لا؟.. والعريس في غليلة كي يثبت محبته لعروسه، عليه أن يجري منطلقاً ولمسافة لا بأس بها في يوم عرسه، كي يثبت لها مدى عدوه وسرعته وصحته وكمال عشقه. تواجه «غليلة» وجه البحر الذي لا شواطئ له، لذلك لا ترسو عليه السفن.. وتنام في دعة على صدر الجبل (جيس)، وهو أعلى قمة في الإمارات، وتطل على سهلها الجميل الذي صنعه أهلها بأنفسهم، وانتهضوا به، فقبل المطر يقومون بتنظيف طرق مياه الأمطار من الحصى، ينثرون البذور في طريق المياه، ويخفونها في التربة كي لا تأكلها الطيور، تتألق شلالات المطر وتهبط عليها بحب من أعلى الجبل لتجري في وديانها منسابة صانعةً السهول، وتنبت الغلة مع الوقت، وتكتمل البسيطة عند وادي غليلة، وتستمر في حصادها بأمان عاماً بعد عام، فالصخر قد احتواها، وضمها، ولن يخذلها، وإن خذلها المطر ولم يأتِ فإنهم يستمرون في زرع الوادي، فحلو مياهها في جوف آبارها الكريمة. في غليلة التي تزرع البُر، وتحصد الغلة الذهبية بفرح في مواسمها،…
الخميس ٠٢ يونيو ٢٠١٦
يكتب الراوي رواياته الملهمة والعميقة على امتداد سنيِّ حياته، ثم يضع أمام القارئ سيرته الذاتية، وبالطبع هي سيرة ليست كمثل سِيَر ذائعي الصيت والشهرة من نجوم السينما والرياضة وملوك ورؤساء دول ومناضلين، الذين لا كتب في حياتهم بقدر الأنشطة والحراك والتجارب، بينما الراوي هنا يحرّر سيرته وذاته كتابياً بحقيقتها المتناهية لا المتخيلة التي يعرفها العالم عنه. والسؤال هو: هل سيتجنب هذا الراوي كتابة مذكراته أم سيخطها وينمنمها أمامنا لتتجلّى صورته الشهيرة كما يجب، أم سيتكئ على «الأنا» المختلفة والمتميزة؟ يبوح معظم الرواة بمكنوناتهم، ويستدعون أحداث طفولتهم التي جعلت منهم أدباء، ويخرجون بحياتهم الشخصية إلى العلن، معترفين بكل شيء، ليتوغلوا في زمنهم ويفيضوا في آلامهم وأفراحهم. لكن بعضهم أراد أن يغير أسلوب سرده الذاتي، كما فعل أورهان باموق في سيرته «إسطنبول، الذكريات والمدينة»، ففيها أخرج «الأنا» وربطها بمدينته الخليط بكل شيء، ورَصفَ أفراد عائلته فرداً فرداً يحبكهم بأحداث بلده وبنفسه، لتخرج السيرة غنية، بتاريخ مدينة وعائلة والأنا للراوي، خاصة أنه نقد وحكم على الفنون من رسم وسينما وشعر ومشاهدات البسفور والدين والحب والشتاء، شابكاً إياهم بما حدث له ولأسرته ولقلمه، من حقيقة وزيف، ليبين «أناه» الواعية ويعانقها في بطولةٍ مطلقة. أما الروائي اللاتيني ماريو فارغاس يوسا، حاصد الجوائز المهمة، فإنه ربط سيرته الروائية بعشاق القلم، وبالقارئ الراغب في الكتابة، فتحول في…
الخميس ٢٨ أبريل ٢٠١٦
للجامعات فضاءٌ آخر، مكتنزة رفوفها بالمصادر العلمية والبحثية والنقدية، تتسع أركانها بالأطروحات الداعمة والموثقة، تجوب سماء آدابها طيور الخيال والأدب واللغة، يتناقل دارسوها مواد ثقافية مختلفة، مزدانة بعناوين ذات خصوصية، ينقبون ويبحثون ويتأملون برحابة وسعة، ليتخرجوا بملامح أكثر نضجاً، بعد أن توغلوا في ميدان «تخصص التخصص»، هنا يشرق العنوان، وتتطور حقائق بعد أوهام، تنهض النظرية الجديدة، ندرك حينها أن رؤية المراقَبَة والمُشَاهَدَة الحذقة هي ما تؤدي إلى عطاء بعد كفاف، تحت مسمى «أكاديمي». بعد تقديم د. مريم خلفان السويدي لمنتدى للغة العربية الذي انعقد يوم الأحد الفائت، وقفتُ - ولأول مرة - أمام محكمة أكاديمية في جامعة الإمارات العربية المتحدة، وأمام الأستاذين: الناقد الدكتور الرشيد بوشعير، من قسم اللغة العربية وآدابها، والدكتور حمد بن صراي من قسم التاريخ والآثار، وبحضور العميد والأساتذة والطالبات، لتتحول المحاكمة إلى متعة باعثة ورغبة تستجيب للاستجواب في مُنتدى اللغة العربية الأول بقسم اللغة العربية بجامعة الإمارات، تحت عنوان «الرواية والتاريخ»، ورواية سلطنة هرمز نموذجاً للنقاش. تناول د. حمد بن صراي كاشفاً عن وجه الصحة والخطأ التاريخي في الكتاب، حاصر ما تضمنته الرواية في سياج الأحداث التي بانت فيها كموضوع بملامح تاريخية، وليس التاريخ بحد ذاته. بدا لي ذلك الماضي بتفاصيله وأسمائه وحكاياته كيف يشغلنا الآن؟ وكيف نكتبه؟ والأهم، كيف نقرأه؟ وهكذا حتى دشن الأدب الإنساني…
الخميس ٣١ مارس ٢٠١٦
تمعنت في شخصيتين ساخرتين، لا تنتهي إسقاطاتهما في أدبهما المكتوب، إذ تتداخل العلاقة الجمالية والجنونية في تصرفاتهما، كما تتداخل بين الأدب والحياة. الشخصية الأولى هي «جحا»، الذي عاش في العصر الأموي كما هو موثق، أو ربما قبل ذلك العصر.. ويدعى أبوالغصن دُجين بن ثابت الفزاري، لُقب بجحا، وأصل الاسم من جَاحَ بوجهه.. وهو في التراث العربي شخصية ظريفة ومعروفة، لكنه اشتهر بالبله أو الحمق، رغم دهاء تصرفه؛ والسبب هو أسلوبه الساخر، كأنه يتعمد إظهار حمقه لا إظهار ذكائه في الموقف المطلوب.. يقلب المعنى إلى عكس ما يقصده، فيختلط النقد بالضحك، ليعالج أمراً عظيماً كأنه لا شيء، بلا موعظة أو خطابة. • لم نحتفِ بجحا في أدبنا كما ينبغي، أو كما اعتنت الأمم الأخرى بشخصياتها الساخرة، من خلال إبرازها بشتى الطرق: أدباً وتعليماً وخيالاً ودراسة. وباعتقادي أننا لم نحتفِ بجحا في أدبنا كما ينبغي، أو كما اعتنت الأمم الأخرى بشخصياتها الساخرة، من خلال إبرازها بشتى الطرق: أدباً وتعليماً وخيالاً ودراسة. في المقابل؛ شخصية «دون كيخوته»، الإسباني الأبله والأحمق والمجنون والعبقري، إذ وصفوه بالكثير من الألقاب، بعد أن قرأ الكثير من كتب الفروسية ليخرج من داره مجنوناً متحمساً لصعود حصانه الهزيل مع «سانشو» الحلاق وحماره، منطلقاً إلى عالم الرعي، يحارب الأشرار بنبل الفرسان في العصور الوسطى، الذين انتهوا ولم يعد لهم وجود!…
السبت ١٩ مارس ٢٠١٦
الأدب لغة العالم، وإن اختلفت اللغات وتباينت اشتغالاتها شعراً ورواية وقصة، اشتغالات تستقي روحها من صدق المشاعر ونبلها، من أمانة الرسالة التي تنطق بها ورقيها وسمو هدفها الإنساني، ومن كل ما يمتُّ بصِلة للجمال بتجلياته المختلفة. نعم هو الأدب.. ترجمان القلوب الذي يقوّمنا بعد انحناء، ويكتبنا بعد انمحاء، ويطهّرنا مما يشوب أرواحَنا من هوس المادة وصخبها اللامتناهي، به نبصر المخبوء خلف سماوات قلوبنا الطافحة بالمعاني، به يعود المرءُ إلى صوابه بعد سفره في متن كتاب فيه من عبق المعنى ما فيه! فيا له من فعل راقٍ، وَيَا له طير يحلّ بنا في فضاءات ليس ثمة أجمل منها. ومن بوابة الأدب ندخل دنيا الأديب الذي هو نسيجٌ وحده، بتناقضاته، بجنونه وتعقّله، بتمرّده المحمود لأنه تمردٌ معرفي، لا هتك فيه أو جرح، وإن وجدنا مبدعاً عبّر ونَقَدَ فتعبيره مصقولٌ ورزين.. فما الذي يعنينا حقاً سوى الصدق؟ الصدق الذي يقوم عليه أدب الأديب ذاته، وهي مزيّةٌ لها دورها الفاعل في وصول المادة الأدبية المترجمة بكل ما فيها من مشاعر وأحاسيس إلى الآخر، ذلك أن الصدق مادة الروح التي تشترك فيها الإنسانية جمعاء متجاوزة حدود اللون والقومية والدين والانتماء. في تاريخ الإمارات البعيد وقبل أن تنعم إماراتنا بمنجز الاتحاد العظيم وتتشكل باقة زهر واحدة يمتد عبقها حتى أقصى ما في القلوب من محبة؛ كان…
السبت ١٢ مارس ٢٠١٦
يتطلع مؤسسو الصالونات الأدبية عبر ما ينظمونه من نشاطات إلى زيادة منسوب الجمال في هذا العالم الذي للكلمة النبيلة دور في بنائه، فهي الحامل للفكر بتجلياته، واللغة بتمظهراتها الرائقة.. نشاطات تقوم على احتضان المواهب وتقديمها في جلسات يكون النقاش والأخذ بالرأي والرأي الآخر مادة استمرارها وبقائها على قيد الثقافة. نعم.. بالنقاش والنقد وتبادل الآراء تكتسب هذه النشاطات ديمومتها، إذ المجتمعات التي تُغيّب النقد هي مجتمعات سطحية، النقد البنّاء وحده من يجعلها تمتلك العين البصيرة والخبيرة والعارفة بنفسها، والنقد من ثم ليس انتقاصاً أو إهانة، بقدر ما هو فعل تقويمي، فلن نصل إلى الأفضل دون نقد ودون سجال ونقاش يكوّن منهجنا في هذه الصالونات وصولاً للتكوين الثقافي الأمثل. في السنوات الماضية نشأت صالونات أدبية راقية بدولة الإمارات، كصالون الملتقى الأدبي، الذي أسّسته أسماء المطوع في عام 1999 بجهود شخصية دافعها حب الثقافة والأدب، ولقد أُدرج هذا الصالون في لائحة «اليونسكو»، مكتسباً الصفة الرسمية، ما يعد نجاحاً باهراً. وقد ظل الصالون يعقد جلساته منذ 17 عاماً، بواقع جلسة كل أسبوعين، تم من خلالها منح الكثير من المؤلفين فرصة تقديم تجاربهم بمختلف أشكالها. ومما يلفت النظر أيضاً «صالون الأدب الروسي» الذي أسسه أخيراً الكاتبان مروان البلوشي ومحمد حسن المرزوقي، ورغم أنه لايزال فتيّاً لم يكمل العامين، غير أنه ناقش الكثير من القصص القصيرة…
الخميس ١٨ فبراير ٢٠١٦
حلت دولة الإمارات العربية المتحدة ضيف شرف على معرض الدار البيضاء للكتاب بالمملكة المغربية الشقيقة هذا العام، لدورها المحوري الفاعل في دعم الثقافة والمعرفة والفنون في العالم العربي، عبر إطلاقها العديد من المسابقات والجوائز التشجيعية، فضلاً عن دعمها المتواصل لحركة الطباعة ونشر الكتب والترجمة، كل هذا بهدف الإغناء الفكري، وبسط الحداثة، وإحياء التنوير، وإبراز التجديد. هذه المكانة لدولة الإمارات العربية المتحدة جعلتها تعبر الخليج العربي إلى شمال إفريقيا، وصولاً إلى الأطلسي، لتحل ضيفة في المغرب، تلك المملكة العريقة، التي أحبذ ذكرها شخصياً بالمملكة التاريخية المغربية، الأرض الغنية بكل شيء، عقولاً وأيدي عاملة وأحداثاً متكدسة وحقائق تاريخية وتراثاً عريقاً ومعماراً أصيلاً وأصواتاً تنبع من القلب، أصوات الأدب والحرف، بلد الشاعر محمد بنيس، والروائي محمد عزالدين التازي، ومحمد شكري، والطاهر بن جلون، والجميلة فاطمة المرنيسي. لن أستعرض هنا العلاقات التاريخية بين البلدين، والمترسخة في جميع مجالاتها، وسأقتصر في حديثي على مشاركتنا الأدبية في معرض الدار البيضاء للكتاب، المشاركة التي ضمّت أدباء إماراتيين من مشارب إبداعية مختلفة، تقع بين أدب الأطفال والكبار وفن خط، إبداعات مختلفة جعلت العلاقة بيننا ــ نحن القادمين من المشرق العربي ــ وبين الجمهور المغربي المثقف والمتفاعل تتبلور في مشهد ثقافي مميز، ذهبنا لنرتل السرد، وتسيل بيننا اللغة، وتتسع مساحة الحرف في قاعة امتلأت بحضور لافت، من نُقاد وكُتَّاب…
الخميس ٠١ مايو ٢٠١٤
قديماً كان يطلق المسْرَد على اللسان، تغير المسمى مع الوقت واتجه نحو المُثقب أي الخارز، ثم المخصف فالنعل فالناسج.. وهكذا على كل ما يتطلب جهداً ونسقاً. وحين نأتي إلى أصل كلمة السرد، نجد أنها تُقدمُ الشيء إلى شيء بنسق وتتابع، ليصوغ الروائي الأثر في معبد دفتره.. وقد تعوّد بعض القراء الجادين أن يطلق كلمة سرد على عملٍ روائي ويرحل، هكذا جزافاً إن لم تعجبه الرواية.. يدير ظهره ويقول: سرد.. لكن أليس السرد علماً؟ الخطاب السردي ليس سهلاً ليشكله الروائي، فلا بد أن يكون المنتج بالمستوى الفني المطلوب.. ربما كان السرد الأدبي من الفنون الأدبية غير المستساغة جماهيرياً عندنا، لكنه فن يُدرس وإن لم يعجب القارئ أو لم يتعود عليه. وهنا يأتي دور القارئ ليسأل نفسه؛ كيف يقرأ؟ هل يقرأ كمن يتصفح؟ أم يُجزئ الرواية تبعاً لوقته؟ أم ينحو إلى القراءة المتعجلة؟ وفي سرعته الفائقة هل يعير الرموز اهتماماً؟ وهل يفهم المعاني كما يجب؟ هل يفسر؟ هل يلتزم بمواضع الوقف؟ هل يربط بين المفردات ويمزجها بخياله؟ هل يغوص فعلاً في المادة المكتوبة؟ منذ القرن الثامن عشر فقط، خرجت الرواية إلى الحياة بوصفها فناً وكتابة موثقة، تصور مجتمعاً وتدرس السلوك الإنساني بنضال إيجابي لمكافحة السلبية.. لتأتي أحياناً بأسلوب طبيعي عقلاني، وأحياناً أخرى ككوميديا أو كعبث فلسفي هادف.. وهكذا حتى وصلت الآن إلى…
الخميس ٢٧ مارس ٢٠١٤
في الأدب الأوروبي القديم ذُكرتْ جزيرة صير بني ياس ولأول مرة عام 1590م، عن طريق تاجر بندقي جلب اللؤلؤ المميز منها ليدخله إلى أوروبا، بعد أن فَصّل في ذكرها وجمالها وحجمها، ومنذ ذاك حتى القرن السابع عشر، أكملت بريطانيا سيطرتها على هذه التجارة من قبل ضباط البحرية الإنجليزية. الخليج العربي مليء بالجزر، لكن ما يميز صير بني ياس أنها آسرة بغطائها النباتي الكثيف، وتجري فوقها المياه، وتقفز عليها آلاف الحيوانات الوادعة والمفترسة، وتحوم فوقها النسور والصقور.. جزيرة منعزلة وحرة، تمنحك الحرية التي ترتقي إلى الزهد. دخلت مجموعة من الرهبان الجزيرة حوالي العام 600 للميلاد، وهي في حالة تتويج من الشمس، وهمس دائم يلحنه هدير الموج وصدى الساحل، لتغري عزلتها الرهبان للسكون والسكن، وبناء دير سرياني شرقي صُمّم كالصحن، بأجنحة جانبية من هيكل ومدفن وبيت للصلاة ومذبح تحيط به مصليات. هؤلاء الرهبان أصحاب الطبيعة المنفصلة للمسيح، تنحوا من العالم جانباً ليسكنوا في الجزيرة زاهدين مطمئنين، فاعتزلوا للعبادة ونقشوا على جدران الكنيسة صلباناً بين الزهور، وما الزهور سوى النور، والنور بمعنى البياض، أليست زهر النبت نورهُ؟.. استنار الرهبان بجمال الجزيرة، فرسموا النخل فوق صخور الكنيسة، لينسجم رسمهم مع شموخ الرهبنة لا مع الترهب. كانت الجزيرة نقطة عبور بين الجزر الأخرى الباحثة عن اللؤلؤ، كما أنها متصلة مع المدن البعيدة كالبصرة والسند منذ…
الخميس ١٣ مارس ٢٠١٤
نقاد العالم حتى هذه اللحظة يرفضون الرواية التاريخية، متعللين أن التاريخ ثابت بلا خيال.. بل إن الواقعة قد انتهت، فما الذي يمكن إضافته في الرواية كحدثٍ منتهٍ! لكن هذه المادة التاريخية التي كُتبت كخبر بارد بين السطور في كتب التاريخ، ألا تحتاج خطاباً شاعرياً ملهماً لاستعادة تلك القيمة المنسية من المشاعر؟ ألا تستحق إعادتها كعبرة وكقيمة بتطلعات معاصرة؟ أرفض تقديس الماضي، لكن تفكيك الحوادث الماضية والمؤلمة وفهم تفاصيلها وتركيبها من جديد، ومن ثم إنشاء الخطاب الروائي حولها.. كل ذلك الاسترجاع يحتاج إلى خيال كبير لتخطي الحدود إلى الرحابة المفتوحة، وليصبح التاريخ رواية كالحلم تسحر القارئ، بل يضعه الروائي المستلهم في عالم لم يعشه وهو يقرأ. يتهم النقاد روائيي التاريخ بأنهم يلجؤون إلى مصادر ومرجعيات تاريخية ثم يخالفونها ولا يتبعونها، لذا فهم يسيؤون للتاريخ نفسه بل ويهينون الرواية، ليعتقد القارئ المتلقي بصحة النقل التاريخي، وتصبح الرواية مجرد وسيلة لبلوغ الهدف. ورغم أن الرواية الآن تطورت وأصبحت تحمل معاني سامية، لكن يخشى النقاد من ضعف الخيال الروائي الذي يعد العمود الفقري للرواية، وكذلك الخوف من أن يصبح السرد الفني كالخبر، وينزلق الكاتب في تلك القيود بين جوهر الرواية والحقيقة التاريخية. الإنسان يحتاج إلى إعادة التوضيح من جديد لفهم الماهيات التي يعيشها، عن طريق التاريخ والأدب اللذين بينهما ارتباط إنساني عظيم. يتساءل الفرد:…