الأربعاء ٠٤ ديسمبر ٢٠٢٤
تستهويني صور الوطن القديمة، تلك اللقطات للناس وهم في حياتهم اليومية، صور الصغار والنساء والشوارع البسيطة والشاطئ النقي، وبيوت العريش المتناثرة. صور كلما تأملتها أكثر يزداد جمال الحاضر، وتتألق ألوانه، وتبرق تفاصيله بجلالة.. أكثر. في الإمارات بالذات تبدو الصور هنا فارقة ومؤثرة كوننا لا نحكي عن ماضٍ سحيق، فخمسة عقود لا تعد فارقة في عمر الشعوب، ولكنها هنا في أرض زايد وراشد شكلت معجزة في عمر يشبه قرناً في دول أخرى. لا تأتي معجزة المكان الحقيقية في ذلك التغيير الذي حلّ بالأرض والعمار والزرع، وإنما بقدرة إنسان هذا المكان في إحداثه، في القدرة التي ظهرت عبر جيلين في تغير عقول، وتطوير أفكار، وتطويع تقاليد كانت ترسخت منذ قرون، وفي استجابة أهل المكان لهذا التحوّل. يميل بعضهم إلى التقليل من التطور العمراني، والإشارة إليه أنه لا يقدم دلالة على تطور الإنسان، وأن المهم والحقيقي لم يحدث، في حين أن أي تأمل صادق لتلك الصورة لا يمكن أن يؤمن بحدوثها إلا بوجود إنسان واعٍ ومقدر لموارده، ومبتكر وفاعل على إنتاج ذلك، ومن ثم قادر على حمايته وتكرار فعله. من لم يزر الإمارات، واكتفى بمشاهدة صورها الحديثة، لن يعرف قيمة الإنسان الذي سكن هذه الأرض قبل وبعد تأسيس الدولة الاتحادية، من وضع قدمه على هذه الأرض يعلم تماماً أن إرادة أبناء الإمارات، وإصرارهم…
الأربعاء ٣٠ أكتوبر ٢٠٢٤
هل يمكن لتفصيلة بسيطة تتمثل في كيس صغير كفيلة بإحداث فارق كبير في المكان؟! تأملت نفسي في لحظة سكون وابتسمت متعجبة من سلوكي، وأنا أقوم بطي كيس صغير في حقيبة يدي قبل مغادرتي المنزل، فلا حاجة لي الآن لهذا الكيس الذي لازمني لأسبوعين في رحلة إلى اليابان، فالأمر هنا مختلف تماماً!.في تلك البلاد البعيدة أنت وحدك عليك التصرف بالمخلفات بين يديك، إنها مسؤوليتك، ولهذا كان الكيس ينهي محطته الأخيرة في سلة المهملات في غرفتي بالفندق آخر اليوم؛ لأن الشوارع والطرقات خالية تماماً من سلات المهملات. المثير فعلاً أن الشوارع نظيفة تماماً فلا يجرؤ أحد على إلقاء ما بيديه في مكان كهذا، رغم أن ثقافة تناول الطعام أثناء السير موجودة بكثرة، غير أن الجميع يحمل مهملاته معه حتى عودته! لا يعرف الكثيرون أن السبب الحقيقي لاختفاء سلات المهملات في الشوارع يعود إلى مخاوف أمنية ظهرت في منتصف تسعينيات القرن الماضي، بعد هجوم لطائفة متطرفة استهدف مترو انفاق طوكيو، استخدمت فيه سلات المهملات في هجوم منسق لاخفاء غاز «السارين»، وهو غاز قاتل صناعي لا لون له، مما أودى بحياة 13 شخصاً وإصابة آخرين. ومنذ عام 1995 قررت السلطات اليابانية إزالة صناديق القمامة إلا من أماكن محدودة جداً تخضع لكاميرات مراقبة. تجاوب الشعب الياباني مع القرار بسلاسة، فهناك اعتزاز ثقافي شديد بمعايير النظافة…
الأربعاء ١٦ أكتوبر ٢٠٢٤
في حين وجد البعض التغيرات التكنولوجية الأخيرة في «النظارات الذكية» قفزة فارقة ومثيرة في التطور التقني، وجدته تراجعاً أخلاقياً واختراقاً أمنياً يعد الأشد خطورة على السلامة الشخصية من أي اختراع سابق، وتبدو الكلمات السابقة أفضل الصيغ التي يمكنني بها وصف ما ستؤول به الحال مع انتشار استخدام هذه النظارات، التي تقوم بالتعرف على الوجوه وتحديد هوية أصحابها ومن ثم استجلاب بياناتهم بسهولة واستغلالها، وهذا كله من دون استخدام اليد وفي لحظات، يحدث هذا فقط عند مطابقة صورة -وللأسف- قد تكون أنت من منحتهم إياها!!، لم أجد غضاضة -على الرغم من امتعاض البعض- من نشر صور رحلاتي على موقع فيس بوك مذ عرفته منذ سنوات بعيدة، وكنت أجد في الأمر منفعة تشبه الاحتفاظ بألبوم ذكريات رقمي، لا تهترئ صوره مع الزمن ولا يشغل مساحة في خزانتي، ويسهل استرجاعه في أي مكان ووقت. كان الأمر ممتعاً جداً، من صورة مختارة في كاميرا الجوال إلى الموقع، ومع عبارة بسيطة ورابط للمكان يتم توثيق اللحظة للأبد، وكان الأمر يزداد لطفاً عندما يرفق أصدقاء صفحتي -المحدودون جداً- دعواتهم بالمتعة والسعادة. ولكن منذ عقد ويزيد توقفت عن ذلك لأسباب مختلفة، غير أن لا واحد منها له علاقة بحماية خصوصيتي!، هذه حقيقة، لم أفكر يوماً أن موضوع الخصوصية يمكن أن ينتهك بسبب صور كهذه إطلاقاً. كانت مفردة…
الأربعاء ٠٩ أكتوبر ٢٠٢٤
أن تعلم بأمر ما لا يعني أنك تعرفه، ومعرفة النفس فعل يختلف عن العلم بها، إنها مرحلة لاحقة يصل لها الإنسان الذي عَلِم، وقد لا يصل، إذ يتوقف ذلك على قدرته على العلم بنفسه، وهذا يعني علمه بأن له ذاتاً وعليه تلمّسها.. كيف هي؟ ما نقاط قوتها، كيف هي مواطن ضعفها؟ ما هدفها؟ والكثير غيرها من الأسئلة التي يكون طرحها دلالة على العلم بوجود الذات. أما معرفة الذات فهي تلحق من فعل على مجمل الإجابات المترتبة على تلك الاستفهامات، فالإنسان يعيش مع ذاته طوال الوقت معتمداً على الألفة التي أحدثها الزمن ومعتقداً بها كقناعة للإدراك والمعرفة، بينما يأتي طرح سؤال عام وبسيط أمامك عن النفس، ومن ثم مفاجأتنا بالعجز عن الإجابة بسهولة، دليلاً دامغاً على أن الألفة مع النفس لم تكن كافية لمعرفتها! ومن أشكال معرفة الذات القبض على مواطن الضعف، وهو أمر صعب جداً يعتقد الكثيرون بسهولته، وهذا غير حقيقي أبداً، فالأمر يتطلب قدراً كبيراً من الصدق والأمانة والشفافية، وهو أشبه بالتحليل الشخصي عبر تفكيكها إلى أجزاء منفصلة ومحاولة القبض على كل جزء على حدة، ومن ثم تسميته. حتى الآن لم نصل إلى إدراك الذات، لأن هذه المرتبة تحتاج إلى قدر أكبر من سمات وصفات الصدق والأمانة، مضافاً إليها الكثير من القسوة والحزم، لأن إدراك الذات يعني أن تكون…
الأربعاء ١٨ سبتمبر ٢٠٢٤
انشغلت خلال اليومين الماضيين بعالم مختلف تماماً، فوجدتني غارقة مستمتعة بمعارف عميقة لم أسبر أغوارها من قبل. فتحت عنوان «التراث البحري الخليجي المشترك»، عقد المؤتمر الخليجي الثاني عشر للتراث والتاريخ الشفهي في منارة السعديات في العاصمة أبوظبي، وبصراحة، وعلى غير ما عهدت من فعاليات المؤتمرات المختلفة، بلغ عمق أوراق العمل مبلغه، لدرجة توقعت فيها أن أمواج البحر القريبة من المنارة في مدينة السعديات تموج سعادة بهذه الفعالية المميزة، أما رائحته الحية فقد كانت حاضرة، بل أراهن أن كثيرين امتلأت رئاتهم بهجة بها. خلال يومين، وعبر أوراق بحثية حية -رغم ضربها في تاريخ المنطقة العميق- عُرضت من خبراء ومتخصصين من دول الخليج العربي قدموا بإرثهم يحملونه فخراً وشغفاً وعشقاً، وأيضاً بحثاً وتمحيصاً ونقداً وتحليلاً، وهذا ما جعل جلسات المؤتمر حقيقة تداعب حواسنا جميعها، فسمعنا مطارق النجارة والحرفيين على أخشاب البوم بمختلف أنواعه التي تناسب كل جزء من السفينة. سمعنا آهات البحارة بأهازيجهم التي كانوا ينشدونها تشجيعاً وترويحاً عن أنفسهم. تابعنا معهم النجوم التي استدلوا بها إلى «مغاصاتهم»، وتحسسنا لآلئهم التي جنوها من أعماق البحر، وتتبعنا خطوط بيعها. وسعدنا بصيدهم الذي ابتكروا له وسائل باهرة، وفجعنا حزناً مع النساء على السيف أمام العلم المنكوس على السفينة العائدة مُخبراً بفقدان أحد أفرادها. حول البحر وفيه عاشت أجيال وأجيال توالت على السيف ونهلت من…
الأربعاء ٢٨ أغسطس ٢٠٢٤
البعض يمتلك مقدرات مثيرة في تحوير الكلام وتوجيهه إلى مناطق بعيدة جداً لا تمت بصلة إلى أصل الحديث، فيجد الشخص المقابل نفسه وقد أسقط في يده، مضطراً للرد والدفاع بحيرة وندم عن أمور لم يطرحها أساساً! وهذا يحدث كثيراً للأسف في النقاشات الاجتماعية التي تغلب فيها العواطف ويغيب المنطق، مما يتسبب بتحييد النقاش عن هدفه الأساسي وإعاقة التواصل، وعادة ما يكون سببها عدم الانتباه. المثير أني وجدتها أيضاً في أماكن لا يصح فيها عدم الانتباه، كمناقشات العمل وحوارات المثقفين، وسجالات مواقع التواصل الاجتماعي، ووجدت أيضاً أنها تستخدم بذكاء ممنهج، وبأطروحات مدروسة بهدف الاحتيال الفكري لكسب حوار أو إحراج خصم في سبيل تحقيق دوافع مختلفة وشتى، ويسمى هذا النهج في تحوير الكلام (مغالطة رجل القش). ورجل القش هو ذلك الهيكل على هيئة رجل محشو بالقش يستخدم لإخافة الطيور وإبعادها عن الزرع، أطلقه أهل المنطق على من يقوم بإعطاء انطباع برد منطقي وقوي على حجة خصمه، في حين أن ما رد عليه لم يطرحه الخصم أساساً. وعادة ما يتم الرد عليه هو أمر هش واضح الضعف فيسهل إيجاد أخطائه وتبيان ضعفه. في علم المنطق هناك عدد من «المغالطات» - خمسون مغالطة تقريباً - يجب أن يدركها الدارس، كونه علماً يقوم القواعد والطرق التي تنظم وتحدد مناهج التفكير والاستدلال السليم، ووجود هذه المغالطات…
الأربعاء ٢١ أغسطس ٢٠٢٤
تفرض تلك النقاط الثلاث نفسها والتي تستخدم للإشارة إلى العلاقة المنطقية في الرياضيات (بما أن) و(إذاً)، ويقصد بها وجوب المقدمات للحصول على النتائج، أجدها أمامي تتراقص تارة على شكل وجه ضاحك وتارة يبكي كلما وجدت أماً أو أباً يخبر عن ردود أبنائهم عندما يحاولون توجيههم لأمور معينة. عندما يطلب من ولده مثلاً أن يجتهد في دراسته، لكي يستطيع أن يكمل حياته معتمداً على نفسه، فيخبرك أنه لا يحتاج إلى ذلك، فالأمر بسيط بوجود بطاقة السحب الآلي. أو أن تخبرك ابنتك عندما تحاولين إقناعها بتعلم طريق لإعداد الطعام لنفسها فتتساءل لماذا.. وأين الـ «دليفري». وحالي كذلك فلا أعلم هل أضحك أم أبكي على ما ابتلينا به من اضطرار للتعامل مع عقول انتهجت تلك الطريقة نبراساً لتفكيرٍ غير منطقي. فالحصول على المال لا يستوجب التعب في جمعه، والحصول على الرشاقة لا يستوجب جهداً لصقل الجسم، والحصول على الشهرة لا يستوجب سعياً للنجاح، وهكذا الأمر في متوالية غير المستوجبات لحدوث التحقق. لقد أدى غياب المنطق وضياع التراتبية والمقدمات الضرورية إلى قفز جيل كامل على المستلزمات، وأصبح انتظار النتائج وكأنها مسلمات أمراً حتمياً، وستسقط لا محالة من السماء من دون بذل جهد! ولا أدري إلى أي مدى نحن مدركون لخطورة هذه المسألة على مستقبلنا. في مقطع فيديو يبرر فيه لاعب كرة القدم البرتغالي «كريستيانو…
الأربعاء ١٩ يونيو ٢٠٢٤
كثيراً ما كنت أنزعج عندما اضطر إلى استرجاع «حدث ما» مع آخرين شهدوه معي في الوقت نفسه، وذلك لتباين ما نسترجعه بدرجات كبيرة حد الاختلاف أحياناً، وطالما شغلني هذا الأمر، وملأني شكاً في مصداقية الآخرين، ودائماً ما كانت أمامي تفسيرات متعددة تدور جلها في تعمد الآخرين تغيير مجريات الحدث لنوايا مختلفة. بقيت على حالي هذه حتى قرأت عن نظرية علمية حاول علماء النفس تفسيرها عبر دراسات مستفيضة حول الذاكرة، تضمنت تجارب متعددة في إطار زمني بسيط. في البداية علينا أن نعرف أن «عملية التذكر» لا تعني استرجاع ما تم تصويره صوتاً وصورة عبر كاميرا رقمية تسجل الواقع الفعلي، وإنما هي مجموع عمليات يقوم بها الدماغ، تبدأ بالإدراك، ومن ثم التخزين، وبعدها الاسترجاع، وهي عمليات يشوبها الكثير من التأثيرات التي لا تجعلها متشابهة بين من يقومون بها، وهنا تأتي النظرية لتقول لنا: إنه وقبل الإدراك هناك ما يسمى بالخبرة السابقة، والتي ستؤثر حتماً في شكل الإدراك، أي ما ستلتقيه الحواس وتخزنه، والتي تعمل أيضاً بمستويات مختلفة من الدقة في معظم الأوقات. وهذا يعني أن بيئتي وخبراتي السابقة، وكذلك حاجاتي ومصالحي ستجعل إدراكي للأمر (الواقعة) يختلف عن إدراك آخرين شهدوها، والذين بطبيعة الحال تعمل حواسهم بشكل مختلف ومتباين، إذ ذاكراتنا متباينة جداً، تلتقط ما حولها بطريقة انتقائية، وتعمل من دون تدخل مسبق…
الأربعاء ١٢ يونيو ٢٠٢٤
إنه قارئي الأول والوحيد الذي سيرافقني أينما حللت باسمه الذي يلاحق اسمي، سيبقى رفيقي بوقار، ليخبرني دوماً أنه يدعمني حتى لو لم ألتفت، فأنا متأكدة من أن «أبي» خلفي. هكذا عهدته دوماً، أدرك تماماً كيف يتحدث عني، وماذا يخبر كل من يقابلهم عما أفعله، أعلم أن أحداً لن يتحدث عني كما فعل، سأبقى متأكدة من أنني كلما تذكرت منجزاً لي سأشعر بغيابه وفقده، وكلما قرأت شيئاً سأتذكر أنه أول من ابتهج بتأتآتي، وكلما كتبت سأفتقد احتفاله بسطوري الأولى! أحاول منذ شهر الهروب من الكتابة، كأني أتداوى بتجنبها، أنشغل بكل شيء يلهيني عن النظر إلى تلك المساحة البيضاء التي تجبرني على التفكير بما أشعر به، أتملص من وجعي.. أحاول تجاوزه.. بلا فائدة. لا أمانع في التعاطي مع أي شيء.. فقط مشاعري بأوجاعها لا أود الاقتراب منها، فكيف بكتابتها وعرضها؟! الآن أجد نفسي مجبرة على استيعاب هذه السرعة التي ذهبت بها الأمور، منذ دوي سيارة الإسعاف وحتى نحيب شقيقتي، وهي تخبرني برحيل والدي.. ومازلت غير مستوعبة حقيقة ذلك الغياب. الغياب الثقيل.. الضيف الذي سيأتي لا محالة مهما تجاهلته وانشغلت عنه، سيأتي بثقل ظله جاثماً عليك، مجتراً كل الماضي بتفاصيله الدقيقة وكأنها حدثت للتو. إنه «الغياب» الذي يحضر بقسوة أمامنا على عتبات الحياة، فتجده يبتسم لك باستهزاء لأنك انشغلت بكل شيء تقريباً، وتعلقت…
الأربعاء ١٧ أبريل ٢٠٢٤
يقول «ايكهارت تول»، أحد أشهر فلاسفة العصر الحالي، إن في حقل الطاقة الخاص بكل واحد فينا، يوجد «ألم عاطفي» متوارث. هذا الألم يجمع جزءاً من الآلام التي عاشها والدانا أو مجتمعنا، أو حتى العرق أو الجنس الذي ننتمي إليه. وهو ألم ناتج عن مشاعر ندم أو إحساس بالظلم أو شعور بالذنب.. إلخ، ورغم موت أصحاب هذه المشاعر إلا أن مشاعرهم التي ورثناها تظل كامنة فينا، بل ومستنفرة طوال الوقت تنتظر المؤثرات المحيطة لكي تتغذى عليها لتنمو وتبقى، ولتصبح فيما بعد قادرة على الانتقال إلى الآخرين، كالأبناء أو المحيطين بنا.. بلا أدنى ذنب لنا، وبطبيعة الحال ما نورثه للآخرين بلا ذنب لهم. يؤكد الفيلسوف الألماني أن كل ما يستطيعه الإنسان أمام تلك الكتلة الموروثة، أن «يتوقف عن تغذيتها بأفكار وعواطف سلبية جديدة تضخمها، فتقلب حياته وحياة من حوله إلى تعاسة»، ولكن هل يمكن حقاً أن يحدث ذلك؟ إن «كتلة الألم» سريعاً ما تجد غذاءها من التجارب المؤلمة التي يمر بها الإنسان جبراً منذ طفولته، وخصوصاً أن الوعي في هذه المرحلة يكون في أضعف حالاته ما يزيد من شراهة «الكتلة». وعندما نكبر، تكبر معنا «كتلنا» التي تجد في الطبيعة الإنسانية النازعة دوماً إلى تأبيد الذكريات والمكوث طويلاً في الماضي، مجالاً حيوياً للبقاء، وكل تجربة مؤلمة تمر علينا تشكل غذاء مناسباً لها قبل…
الأربعاء ٢١ فبراير ٢٠٢٤
كتبت كثيراً عن المشاعر الإنسانية والسلوك التابع لها سواء من صاحب المشاعر أو ردات فعل من حوله بشأنها. وهو ما أجده باستمرار أعجب ما يمكن أن يستوقفني في الحياة، فذلك الطيف الذي يتحرك في صدورنا بهدوء وراء كل ما نشهده من تقدم أو تخلف.. إبداع أو خراب. وقناعتي راسخة بأن السر الكوني يكمن في تلك المشاعر الخفية التي تنمو في غفلة من صاحبها لتكبر وتتغذى وتتحول إلى سلوك يؤثر على الكون برمته لا على صاحبه فقط؛ ولذا تتركز نظرتي إلى الكثير من المواقف حولي على نقطة المشاعر التي يتخطاها الأغلب! هذا الأسبوع استوقفني مشهد في غاية الغرابة، تحدثت بشأنه أكثر من مرة مع أشخاص مختلفين ثقافياً لعلي أسمع أمراً مغايراً لم أستوضحه يعيدني لتقويم رأيي، وأردت أن أطرحه هنا لعله يصلني ما يغير موقفي. وصلني «فيديو كليب» قصير لأحدهم يتحدث هاتفياً مع رجل دين عن زوجته، ويخبره عما فعله بهذه المرأة التي قضى معها 21 عاماً، وكانت حياته طيبة إلى أن قرر أن يتزوج بأخرى، فرفضت الزوجة ذلك وأخبرته أنها لن تقبل بشريكة، وعليه أن يطلقها إذا مضى في قراره، فطلب منها أن تبرئه من حقوقها، فرفضت، فقام بطردها من منزلها، وأخذ كل ما لديها بحجة رغبته في تعجيزها وجبرها على قبول زواجه الثاني! القصة عادية جداً وقد تتكرر…
الأربعاء ٢٤ يناير ٢٠٢٤
لعل من أكثر العبارات التي تغيظني رغم واقعيتها تلك التي تقول: «الإلهام موجود طوال الوقت حولنا.. فقط ينتظر من يكتشفه». الحقيقة أن البحث عن الإلهام ديدن كل مبدع مهما كانت نوعية الإبداع الذي ينتجه، وهو أمر في حدوثه صعب للغاية ومرهق يشبه المخاض الطويل، ولكنه يستحق العناء، فعادة ما تكون النتيجة الوليدة مبهرة لأولئك الجادين الذين يجاهدون أنفسهم بإصرار ولا يستسلمون بسهولة. عن نفسي ورغم سنوات الكتابة الطويلة أعيش فترات أعاني منها غياب الإلهام، ولهذا أجدني أشعر بالحنق الشديد من تلك العبارة التي أوردتها سابقاً، إذ كيف يكون الشيء حولي ولا أجده؟ وكيف أجده في أوقات ما بهذا الزخم! الإلهام ذاك الشعور الذي يتيح لك الرؤية الشاملة لما وراء أشياء كنت تراها بسيطة، والمبدع هو ذلك الشخص الذي ترجم هذه الرؤية الشاملة إلى شيء جديد لا تراه العين العابرة لذات الشيء. وعادة ما يكون غير متوقع، ولهذا فالبحث في أجوبة لأسئلة لا يسألها الناس عادة باعتبارها مسلّمات، يعد أحد مفاتيح الإلهام. ومن مفاتيح الإلهام أيضاً النظر للأشياء العادية بطريقة فيها انبهار، بمعنى أن لا تستسلم لعاديتها وابحث عن الجميل والمثير في الأحاديث والأفعال وحتى في السكون، في الأشكال والألوان والأصوات والروائح؛ كلها نوافذ لإشراقات عظيمة قابلة للتحقق. التأمل في أحوال الناس أحد أقوى منافذ الإلهام للكاتب على وجه الخصوص، ولهذا…