الإثنين ١٦ أغسطس ٢٠٢١
ألم تكن أقوى قوة استخبارية في العالم، وتعرف ماذا سيحصل في أفغانستان بمجرد الإعلان عن نية أميركا في الخروج منها؟ ألم تكن تتخيل المشهد الذي سيبدأ في رسم نفسه فوق تلك الخريطة الوعرة في طبيعتها الصخرية، وطبيعتها البشرية، وطبيعتها السياسية؟ وجدت أميركا نفسها بين خيارين: البقاء في أفغانستان، ضد رغبة أكثرية الأميركيين وأكثرية الأفغانيين وأكثرية العقلاء في العالم. أو أن تخرج وتتحمل تبعات الانسحاب التي هي عادة، أصعب بكثير من تبعات الاحتلال. في الدخول أو الخروج، الأثمان الأخلاقية والإنسانية والعسكرية والمعنوية، التي تدفعها أميركا، باهظة جداً. لا هي نزهة في الإياب. أما الثمن الأغلى فيدفعه في الحالتين، «المتعاونون» أو «الخونة» الذين تعاملوا مع المحتل. وهؤلاء هم طبقة من المواطنين الذين لا حول لهم ولا قوة، خاسرون إن قبلوا هذا الفريق أو ذلك. منبوذون هنا الآن أو لاحقاً هناك، وهاربون من المنتصرين، في هذا الاتجاه أو المعاكس. في لؤم ودم بارد، يكرر التاريخ نفسه. الأميركيون يواصلون المفاوضات مع «طالبان» في قطر، ويبدأون الانسحاب من سفارتهم في كابل. ولم تعد «طالبان» تستخدم السلاح في حملتها الضارية، وإنما السلاح الأشد ضراوة: انهيار معنويات الخصم والمسارعة إلى رفع رايات الاستسلام. لقد انتهى الأمر، والعالم يرى أمامه المشاهد الأخيرة ولا يصدق. إنهم على أبواب كابل. تلك الأبواب التي تبدلت عليها الوجوه والرعايا والقادمون والهاربون. وماذا…
السبت ٠٧ أغسطس ٢٠٢١
يعلن الصيف في باريس ولندن عادة عن الطبقات الغنية حديثاً في البلدان الأخرى. عندما جئنا للعاصمة البريطانية أواخر السبعينات، كان عرب الخليج، بثيابهم التقليدية، يملأون الهايد بارك وساحة البيكاديللي وفنادق سلون ستريت. وبعد سنوات طافت لندن بالروس، قامات ضخمة للرجال، وقامات ساحرة للنساء. ثم أطلت قوافل آسيا: الصينيون الجدد، واليابانيون الضاحكون أبداً مثل إعلانات معجون الأسنان، ثم وصل آخر المزدهرين الكوريون الجنوبيون، فيما جيرانهم في الشمال منهمكون في إطلاق الصواريخ. كنت تعرف العرب من لباسهم، أو من سيارات أبنائهم، والروس تعرفهم من وريثات كاترين العظمى التي جاء بها القيصر من ألمانيا لتطوير الجنس الإمبراطوري. لكن كيف لك أن تميز الإخوة القادمين من الصين واليابان وسنغافورة وتايوان وسائر سكان القارة؟ وليس هنا من سيارات عربية تطلق صوت محركاتها عند منتصف الليل عند تقاطع نايتسبريدج ولا من قامات روسية من سلالة كاترين، عظيمة الروس؟ وجوه متشابهة، لها عيون موحدة القياس، وأجسام ناحلة موحدة القوام، وانحناءة واحدة كأن الإمبراطور آتٍ ليلقي على الجميع السلام. لا ضرورة لأن تعرف شيئاً ولا أحداً. هؤلاء الآسيويون لا يتعرفون على أحد ولا يخالطون أحداً. ومثل اللبنانيين يكونون في لندن ويبحثون عن صحن حمص. أو مثل المصريين يسكنون في الدورشستر ويطلبون للفطور صحن فول. وعاش الراحل الشقي محمود السعدني في لندن فترة طويلة من دون أن يغير شيئاً…
السبت ٢٤ يوليو ٢٠٢١
أمتع ما يروى من القصص في العالم، حكايات النجاح. أو العصاميين. أو «صانعي الذات»، كما يقول الغربيون. وإن الرئيس رفيق الحريري يعترض على تسميته بالعصامي، بعدما أصبح أغنى رجل في تاريخ لبنان، عائداً من الرياض، حيث بدأ العمل بستمائة ريال في الشهر. سبب اعتراضه «المتوتر» أحياناً، أن «العصامية» تلغي دور الوالدين وأفضالهما والبر بهما. وهو كان يفاخر بأن والده كان يعمل في صيدا، قطاف برتقال في بساتينها الكثيرة. وكان رفيق، مساعده في المواسم. وشاري البساتين فيما بعد، لا يريد أن ينكر على والده قدسية الأبوة الشقية. تجد فيضاً من حكايات النجاح في الجزيرة العربية، التي كانت في مرحلة سابقة، رمز المحل وأصبحت، فيما بعد، موطن الازدهار، وأرض الذهب، وملاذ الملايين من قاصدي وطالبي الكفاية. وكما يحدث في النفوس الصغيرة في أي مكان، قامت فئة من المتخلفين تقول «إن النفط نقمة لا نعمة». كنا نتناقش مرة في إحدى الحلقات الصغيرة، عندما اختلف الدكتور عثمان الرواف مع أحد الحاضرين اختلافاً حاداً. وبما أنه خالص الأدب والتهذيب، ولا يسلط لساناً على أحد، فقد التفت نحوي بكل جدية وقال: «أعرني هويتك اللبنانية بضع دقائق لكي ألقن هذا الرجل درساً لا ينساه». وقد نبهني بذلك إلى السلاح السري الذي أحمله. ومن يومها، كلما قال صديق عربي أو لبناني، سقى الله أيام العدس والبصل مع الزيتون،…
الأربعاء ١٤ يوليو ٢٠٢١
هناك دول لا تعرف الهدوء في تاريخها، لأن قدرها جعلها على مفترقات الأمم وشهوات الغالبين، إما لأسباب جغرافية، أو طمعاً في ثرواتها. لكن أفغانستان بلد جبلي صخري معقد وصعب وفقير، ومع ذلك، قامت فيه ومن أجله حربان شنتهما أقوى دولتين في التاريخ: حرب الاتحاد السوفياتي من أجل الحؤول دون هزيمة الشيوعية، وحرب الولايات المتحدة من أجل المد المتطرف، مرة معه، مرة ضده. في الحالتين، هزمت الطائرات والمقاتلات، أعتى قوة غربية وأقوى قوة شرقية، والقبائل البدائية تقرئكم السلام. وبعد أيام يخرج الأميركيون وعلى أفواههم سؤال واحد: لماذا جئنا، ولماذا جاء السوفيات، وهل تستحق بضعة صخور في كابل حربان استمرتا نصف قرن، وانتهتا قبل أن تعرف الدوائر العسكرية في موسكو أو واشنطن، خريطة عبور ممر خيبر؟ طبعاً قرار جو بايدن لا نقاش فيه. فلو استمرت الحرب 20 عاماً آخر لظلت النتائج كما هي، سوف تدفع أميركا مائة مليار دولار للحصول على قطعة أرض صخرية في الجبال، لا تساوي عملياً ألف دولار بالعملة المحلية أو بالعملة اللبنانية. لا أحد يعرف تماماً حجم المليارات التي أحرقتها أميركا في أكثر بلاد الأرض وعورةً وفقراً. لكن الجميع يعرفون، أن البشرية شهدت هزيمة الأقمار الأميركية والجحافل السوفياتية في أكثر الحروب عبثية: مجموعة رعاة معتادين البرد والجوع، يكسرون الاستراتيجيا والعلم وأكبر قاصفة في الدنيا، كانت أول شيء حمله…
الأحد ١١ يوليو ٢٠٢١
قيل «ربّ أخٍ لك لم تلده أمك»، لأن العمر يضعنا في مودات أعلى من الصداقة وأقل من صلة الرحم. وتتضمن هذه المرتبة من العلاقات جميع أشكال المودة، وتتعمق مع العمر، ولا ترتبط بزمان أو مكان أو أي شرط. والفارق المهم بينها وبين أخوة الرحم، أنها اختيارية لا قدرية، وخاضعة للتجارب، ومقوّاة بامتحانات الصمود. لي في الحياة أخوة كثيرون. جميعهم أفضل مني في حفظ المودات. وهم من هويات كثيرة، ومن بلدان كثيرة، ومن طباع مختلفة وانتماءات متعددة وصفات عدّة، يضبطها جميعاً موقف واحد من مستوى القيَم. ولا يهم إطلاقاً اختلاف المشاعر السياسية أو الوطنية أو القومية أو الاجتماعية. إذا كان لها من وجود، لأنها دائماً أدنى أهمية من المودة نفسها. في جدة، قبل أيام، جاء إلى طاولتي في مطعم الفندق رجل وقور يعرِّف نفسه بجديّة خالصة: أخوك الذي لم تعرفه بعد، سليمان السعيد! وفهمت من الاسم فوراً أنه أخو الدكتور عبد الرحمن وأحمد. وأمضينا ذلك المساء نتحدث في قضايانا كلها. وكأنما «أبو حمد» ترك بيروت للتو، وكأنني وصلت من القصيم قبل دقائق. لم تكن هناك أي غربة أو ظلال غربة بين رجل قادم من قلب المملكة وآخر قادم من قلب لبنان. وغالباً ما نلتقي، أبا محمد (عبد الرحمن) وأبا خالد (أحمد)، في نيويورك أو لندن أو القاهرة أو بيروت، أو الرياض،…
الخميس ٢٤ يونيو ٢٠٢١
لا بأس إن أنا كررت على الدوام أنني أعرف هذه المنطقة منذ عام 1963. ليس ذلك من باب عادات المسنين في أنهم ينسون ما قد قالوا وكتبوا وكرروا، بل بداعي الافتراض أن جيلاً آخر قد بزغ، وأنه من المحتمل أن يكون من قرّاء هذه الزاوية، ولأن لكل مقام مقالاً، كما قالت العرب، فلا بد من المقارنة. والمقال الأول كان من الطائف صيف 1963. عشية القمة العربية الأولى من ذلك الزمان. وكانت لا تزال للقمم وعودها، وللأمة أحلامها، ولا هدّتها هزيمة ولا أهدرت كرامتها حروب الإخوة والأشقاء، إضافة إلى الأعمام والأخوال، كما قال عنترة، وفي الإمكان أن تضيف إليهم اليوم، الأحفاد وما يليهم. أذكر وأتذكر دوماً صيف 1963، كشاهد شخصي ومهني. بين الذين كتبوا عن توارد السنين وتكاثف التقدم، لعلني الصحافي الأكثر متابعة. ولعلني بين الصحافيين العرب ما يسميه الغربيون Senior بكل لياقة واحترام للتقدم في السن، فيما يصر إخوانك على «المخضرم»، أي من ولد في الجاهلية وأدرك بالإسلام. ولم نعثر منذ ذلك الوقت على عبارة خالية من الخضرمة، وصافية، ورائقة، وحسنة الوقع، وخالية من آثار الجاهلية. كل هذا الثبت من أجل أن أقول إن ما يجري ويتحقق على مدى هذا الأفق الوسيع، يعني لي غير ما يعني لسواي. والتميّز الوحيد هو السن. أو الخضرمة. وهو أن من عرف الكويت والطائف…
الأربعاء ١٦ يونيو ٢٠٢١
كان ألفريد هيتشكوك سيد أفلام التشويق، في القرن الماضي، بلا منازع، بل إن اسمه تحول إلى صفة، أو نعت، لجميع الأفلام في هذا الحقل. ولا تزال كلمة هيتشكوك إلى اليوم تعني الخوف والرعب والمفاجأة والبطل غير المتوقع. واليوم نعرف من السيرة التي وضعها إدوارد وايت أن الذي حرك عبقرية المخرج البريطاني هو الخوف من كل شيء: الشرطة، الغرباء، قيادة السيارات، العزلة، الحشود، المرتفعات، الماء، والخلافات من أي نوع كان. ولد هيتشكوك عام 1899 في أحد أحياء إيست إند، القطاع الشرقي البائس من عاصمة الإمبراطورية البريطانية. أما مكان الولادة فكان في الطابق الثاني من دكّان بين السمك والبطاطا التي يملكها والده. ترك المدرسة مبكراً في الخامسة عشرة، لكنه أراد لنفسه مستقبلاً في الفنون، فأخذ يتابع دروساً مسائية في جامعة لندن، وجاءه الحظ لاحقاً في الصداقة التي أقامها مع أمير الوسامة في هوليوود غاري غرانت. وإذا كان غرانت فائض الوسامة بقامته الطويلة النحيلة وشعره الأسود اللامع، فإن هيتشكوك كان يشكو من السمنة والصلع ومن شفة سُفلى نافرة إلى الأمام، لعل الأول كان يحتاح إلى الوسامة من أجل التمثيل، أما المخرج فلم يكن في حاجة إليها، حتى في مطاردة النساء، أو في اختيار جميع بطلات أفلامه، من الشقراوات السامقات القوام. أمضى هيتشكوك النصف الأول من عمله في بريطانيا، والنصف الثاني في الولايات المتحدة،…
الأربعاء ٠٩ يونيو ٢٠٢١
أقرأ دائماً عن الطيور لأنها عالم غريب يحيط بنا. لا نعرف عنه شيئاً. وأيضاً من أجل أن أحسن التصرف مع بعض الضيوف اللطفاء الذين يثابرون على زيارة الحديقة. زيارات خفيفة، سريعة، ودائماً ملحنة ومغناة. وفي أحيان كثيرة لغايات واضحة: تناول الفطور أو الغداء على شجرة «أكيدنيا» أو رمان، أو بعض الحبوب المنزلية. وقد ألفت العصافير أمان الحديقة، فصارت تبني أعشاشها في أغصان الشجر، حاملة القش، على الأرجح، من حقل قريب. لا يأتينا سوى ثلاثة إلى أربعة أنواع من هذا الخلق المفرح، ولا نعرفها بأسمائها، بل بأصواتها. الصغير منها، ألحان ألحان وألوان ألوان. والكبير منها مكفهر ملهي بالبحث عن زاد وبذور. غير أن العلماء أحصوا حتى الآن 11000 نوع من الطيور، كثير منها أكثر ذكاء من الإنسان. ومعظمها طيور مهاجرة، تلاحق الشمس والدفء في الشتاء، ولها ذاكرة عجيبة في معرفة الأمكنة التي خزنت فيها بذورها، وتذكر «محطاتها» البرية في الذهاب وفي الإياب. أنواع كثيرة من الطيور أصبحت تتحاشى التحليق في أجواء لبنان، حيث يخرج عليها اللبنانيون برشاشات الكلاشينكوف للتمتع بقتلها، مع أن لحمها لا يؤكل. وكنت أعتقد أنها عادة لبنانية حصرياً، لكنني قرأت أنها توحش عالمي، خصوصاً في حوض المتوسط، وخصوصاً مصر ولبنان ومالطا وقبرص. كل عام يذهب ضحية هذه الهواية السادية 500 مليون طير. تعرف الطيور خرائط عالمها أكثر من…
الخميس ٢٧ مايو ٢٠٢١
يقول المثل الإنجليزي: «العادات القديمة تموت في صعوبة». الطريقة التي يعامل بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، تشبه إلى حد بعيد معاملتهم أيام الحقبة السوفياتية. ومعظم دول أوروبا الشرقية تخلّت عن الأساليب القديمة، إلا نظام رئيس بيلاروسيا (روسيا البيضاء)، فما زال متمسكاً بأسلوب القمع المطلق، ولكنه تجاوز جميع أنداده ومنافسيه عندما أمر في 23 مايو (أيار) الحالي بهبوط طائرة آيرلندية مدنية إرغاماً في مطار عاصمته مينسك، لكي يعتقل أحد ركابها؛ المدوّن المعارض رومان بروتاسيفيتش ورفيقته. احتجت أوروبا. وزادت العقوبات على المنظومة الحاكمة في بيلاروسيا. ومنعت طائراتها من استخدام أجواء روسيا البيضاء بعد اليوم. وماذا بعد؟ مجموعة استنكارات من رؤساء الجوار وبلاد البلطيق. ومجموعة مواقف مماثلة لتلك التي صدرت يوم اعتقل المعارض الروسي أليكسي نافالني لحظة عودته إلى موسكو. المهم في كل ذلك أنه لا يحق للرئيس ألكسندر لوكاشينكو أن يدعي الريادة في هذا السلوك الأخلاقي: إجبار طائرة مدنية، مسافرة من بلد إلى آخر، على الهبوط في عاصمته تحت التهديد بالقصف، وإرسال طائرة «ميغ29» «لمرافقتها». جديد؛ أخونا ألكسندر على هذه الصنعة. نحن، في عام 1971، منذ نصف قرن على وجه الضبط، سجلنا اختراع الفكرة النبيلة. كانت آنذاك حقبة الضباط من رتبة ملازم. وما لبث الملازم أن أصبح عقيداً وزعيماً وقائداً ملهماً، وحاكماً مطلقاً لاثنين وأربعين عاماً. وكان طبيعياً أن تقوم «أخوية» طبيعية…
السبت ٢٢ مايو ٢٠٢١
مَن الذي خرج رابحاً من جولة القتال الأخيرة بين غزة وإسرائيل؟ على الأرض لا يصح القياس بمعيار الربح والخسارة. من ناحية استطاعت «حماس» أن تطلق 4 آلاف صاروخ على الداخل الإسرائيلي، ومن ناحية أخرى، ألحقت الآلة الجوية الإسرائيلية دماراً هائلاً بالقطاع وأهله. لكن على الصعيد السياسي ربحت «حماس» معركة الإعلام والتعاطف الدولي. هناك رابحون وخاسرون أيضاً في الميدان الدبلوماسي: عادت مصر إلى مقامها العربي التاريخي بعد الدور الذي لعبه الرئيس السيسي في ترتيب وقف إطلاق النار بعد 11 يوماً من العنف، وهو الدور الذي شكره عليه الرئيس جو بايدن. وجو بايدن خرج رابحاً بالضغط على إسرائيل من أجل الهدنة التي تحققت من خارج مجلس الأمن، أي من دون الحاجة إلى روسيا والصين. عادت مصر من خلال أدائها السياسي، وواجبها العربي، في إسعاف ضحايا غزة، وموقعها الأخوي في تخصيص 500 مليون دولار مساعدات للقطاع. والجميع يعرف أن الاقتصاد المصري ليس اقتصاد تبرع ومساعدات. كانت عودة الدور المصري قد بدأت تدريجياً منذ فترة، لكن حرب الصواريخ حسمت العودة مرة واحدة، وأعادت الأشياء إلى مواقعها، وذكّرت العرب بحجم الخطأ السياسي والاستراتيجي والقومي عندما قرروا «طرد» مصر، ليس فقط من الجامعة بل من حياتهم، غير مدركين مدى الأثر على مدى أهمية وفاعلية الدور المصري في وجودهم المعنوي والقومي. من أعداد الصواريخ يبدو بلا أي…
الأربعاء ١٩ مايو ٢٠٢١
القاعدة العامة أن الناس في الدول الطبيعية تقرأ صحيفة واحدة، أحياناً مدى الحياة. الأكثر اهتماماً، يقرأون صحيفتين. اللبناني عليه أن يقرأ جميع الصحف لكي يقرأ جميع الآراء، لكي يعرف جميع النوازل، لكي يعرف مصير الجميع. والقارئ في أنحاء العالم يفتح صحيفته في حماسة وتفاؤل، في لبنان يفرد صفحاتها خائفاً، متوجساً ومذعوراً: ماذا حدث اليوم؟ من قال، وماذا قال - خصوصاً - يريد أن يقول. وكل شيء في لبنان متوقع: القول والقائلون والقوالون. وزير الخارجية، شربل وهبة، مفاجأة المفاجآت. قال معاليه؛ مسؤول الدبلوماسية اللبنانية في هذا الزمن، ما خلاصته أن السعودية والخليج أرسلوا إلى بلاده الدواعش، وكذلك إلى نينوى. وانتقد وهبة حياة «البدو»، ساخراً منها. يميز وهبة بين حياتنا وحياة «البدو». مثلاً: الدينار الكويتي يساوي 5.077.35 ليرة لبنانية متحضرة. مثلاً: نسبة البطالة في لبنان المتمدن 60 في المائة، عند بدو السعودية «صفر». مثلاً: 25.6 مليون مسافر في مطار دبي هذا العام بعد انخفاض الرحلات بنسبة 70 في المائة بسبب الوباء. معدل الرحلات الآن 2000 في اليوم. بدو. معالي شربل وهبة يعبر عن رأيه الشخصي، كما أعلن القصر الجمهوري تستّراً على الكلام الذي وصفته «إليسا» بالغباء. وهذه أول مرة ربما في التاريخ يقال عن وزير خارجية إنه يمثل نفسه. طبعاً اللبنانيون يعرفون ذلك ولا حاجة إلى تذكيرهم. وكلام وهبة لم يفاجئهم. ومنذ…
الأحد ١٦ مايو ٢٠٢١
كلما بدا أن القضية الفلسطينية قد خبت حول العالم، يأتي من يعيدها إلى الأذهان والضمائر. الشهيد كمال ناصر كان يقول في سخريته المعروفة: سوف تبقى القضية حية. اتكلوا على القومية الإسرائيلية. «التفوق» الإسرائيلي قادر على الغباء هو أيضاً. الشديد منه كذلك. ألهبت حكومة نتنياهو مشاعر المسلمين حول العالم وهم يستكملون رمضان ويدخلون العيد. ومِن أين؟ من القدس والمسجد الأقصى. وبذلك لم تتحد كالمعتاد الكرامة الفلسطينية، بل كرامة الفلسطينيين الأوائل الذين يُسمون بكل جلافة «عرب إسرائيل». وهكذا وقفت إسرائيل على حافة «حرب أهلية» في مدنها الرئيسية. بعد غياب طويل عادت المظاهرات المؤيدة للقضية إلى مدن أوروبا وأميركا. تذكر الضمير العالمي أن في الشرق الأوسط شعباً خُطفت أرضه وتُرك بلا دولة. وتذكر أن الاستيطان والترحيل وتدمير المنازل سياسة قائمة. ورأى العالم أن الأنظمة العربية ليست وحدها من يرمد بيوت الناس ويقصف السكان من الجو بأعداد مذهلة من الطائرات. قلب نتنياهو وحكومته «الطاولة» على الإسرائيليين أولاً. أوقف مسار «التطبيع» الذي بدا متسارعاً في الآونة الأخيرة، وبدد آمال المتفائلين بالسلام. وللمرة الأولى يتنبه العالم الخارجي إلى مسألة كان يحاول تجاهلها، هي الوجود العربي الكبير داخل فلسطين الأولى. فهؤلاء ليسوا مجرد نواب في الكنيست، بل هم أيضاً بشر وأرواح ومشاعر وكرامات ومقدسات ومحرمات. كان الثمن هائلاً ومريعاً في غزة كالمعتاد. وكان الرعب متعمداً في وضوح.…