الأربعاء ٢٤ أغسطس ٢٠١٦
قبل نحو ربع قرن وصلت مجلة «نيويوركر»، أهم، وربما أجمل، مجلة أسبوعية في تاريخ أميركا، إلى مأزق نهائي حيال الصدور. إما أن تخفِّض من تكاليفها، وبالتالي أن تحطّ من مستواها، وإما التوقف. وكان هناك حل واحد هو أن تعوّض الشركة الناشرة الخسائر من دخول المطبوعات الشعبية الرابحة. لكن لا بحث إطلاقًا في قضية المستوى، لأنه مبرّر الوجود منذ العدد الأول قبل نحو القرن. لا تزال «نيويوركر» تصدر على أرقى ما في صحافة العالم من تحقيقات وأبحاث وقصائد وقصص وكاريكاتير ونقد أدبي وسينمائي وتلفزيوني. لا شبيه لها في الصحافة العربية أو الإنجليزية أو الفرنسية أو الإسبانية. لأنه ليس من السهل، وربما ليس من الممكن، العثور على جميع هذه الطاقات والمواهب كل أسبوع في مكان واحد. لكن الهدف من التحدث عن هذا المثال الآن هو ما تواجهه الصحافة الراقية في كل مكان: هل الحل بالإغلاق، أم بخفض المستوى، أم بالدعم من مصادر راقية ومستقلة؟ الحل الأمثل بالنسبة إليّ، إذا كان ممكنًا، أو محتملاً، هو الدعم المستقل. لكن إذا توافر الدعم، فهل يمكن أن يكون مستقلاً؟ وإذا لم يكن مستقلاً، يبقى الإغلاق أضمن وأنبل. المسألة مطروحة، بالدرجة الأولى والأخيرة، على الصحافة نفسها. ليس هناك من يستطيع أن يقرر لها، أو عنها، نوعية الوجود والبقاء الذي ترتضيه. وليس لها أن تتذرّع، مثل الأطفال، مرة…
الثلاثاء ٢١ يونيو ٢٠١٦
تملأ الكتب رفوف المكتبات حول «الربيع العربي» بجميع اللغات.. كيف بدأ، ولماذا تحول إلى كوابيس متنقلة وحروب متوالدة. وعن «المؤامرة» ومَن خلفها ومَن أمامها. وعن «التوغل والتوحش»، باعتبارها ظاهرة غريبة علينا صدرت إلينا في صناديق خفية عن طريق مخابرات العالم. أكتفي بقراءة العناوين وأمشي. وأتذكر دومًا أوكتافيو باث، عبقري المكسيك، وحكاية الفلاح الذي سمع ببغاء يتكلم، فتقدم منه وانحنى معتذرًا: «سامحني يا صاحب السعادة، كنت أظنك طائرًا». يا حضرات، كان عنوان الربيع العربي وكتابه في منتهى الوضوح: طارق بن محمد البوعزيزي يحرق نفسه اعتراضًا على الفقر الماضي والآتي وانعدام المستقبل. الناس المرتاحة لا تنزل إلى الشوارع. الرجال الذين لا يشعرون بالمهانة في حياتهم لا يخرجون إلى الساحات. الذي اعترض هو الإنسان الذي تأمل 50 عامًا من النظام العربي، ووجد دولاً تعرض عليه الكرامة البشرية في اليافطات التي أعمته قراءتها وأكاذيبها وخواؤها وعدم خجلها بالكذب. معظم لاجئي المدافن البحرية الجماعية هم لاجئو فقر وليسوا لاجئي أمن. كانوا ممنوعين من السفر إلا بتأشيرة خروج، فلما رأوا التأشيرة جماعية، لم يعد أحد يريد البقاء حيث هو. ذل المكان ولا ذل الزمان. ذل الغريب وليس ذل القريب. يأتون إلى بلدان فيها أرصفة، ووسائل نقل بشرية، وفرص عمل، وفرص حياة، وأطباء ومستشفيات ينام الناس في أسرتها، لا على أبوابها. يصلون إلى بلدان، الدولة تعمل فيها…
الخميس ٢٦ مايو ٢٠١٦
فيما كان الإتحاد السوفياتي منغلًقا على نفسه٬ خلف ما سمي “الستار الحديدي”٬ ملأت أميركا العالم بالأفلام والممثلين٬ يرّوجون لـ”نهجنا في الحياة”. الشيوعية السوفياتية لم تسقط بالمدافع والصواريخ٬ بل بـ”طريقة الحياة”. اكتشف الأميركيون في الحرب الباردة أن “القوة الناعمة” أكثر فعالية أحياًنا من حروبهم العسكرية حول العالم. بعض المفكرين قال إن القوة الناعمة هي التي غيرت المجتمع الأميركي من الداخل أيًضا٬ أو بالأحرى “القوة الناغمة”. أغنية مايكل جاكسون “أسود وأبيض” بيع منها نصف مليار شريط. كلماتها تقول: “ليس مهًما أن تكون أسود أو أبيض”. فأنت أولاً إنسان. ثم امرأة أو رجل. ثم أسود أو أبيض. يقول الكاتب المصري إبراهيم الجارحي٬ في دفاعه عن نظرية خسوف القومية العربية من دون مد مصري: “كان عبد الناصر يتكلم من فوق برج مشيد من أصوات أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم حافظ٬ ومن موسيقى محمد فوزي والموجي وبليغ حمدي والطويل وغيرهم٬ وأشعار صلاح جاهين وأمل دنقل والأبنودي وغيرهم٬ ومن سينما صلاح أبو سيف٬ وأدب نجيب محفوظ ويوسف إدريس٬ ومسرح المهندس ومدبولي٬ وغير ذلك كله من الأدوات التي غزا بها محيطه الإقليمّي”. سواء كنت تؤيد هذه النظرية أم لا٬ لا يمكننا أن نقارن أثر القوة المصرية الناعمة في تلك المرحلة بالأثر الذي تركته القوة العسكرية في اليمن. أو إذا أخذنا بلًدا صغيًرا مثل لبنان٬ نجد أن…
الأربعاء ١٨ مايو ٢٠١٦
عاد إلى مصر النقاش حول هويتها: مصرية أم عربية؟ والجدل أحيانًا على أرقى مستوى، وأحيانًا من غير مستوى. وأقول: «عاد»، لأنه لم يتوقف. أو كلما توقف، عاد من جديد. بدأ في الذاكرة المعاصرة في الثلاثينات، ثم تكرر في الخمسينات والستينات، ثم بعد النكسة، ثم بعد كامب ديفيد، ثم بعد عودة مصر إلى الجامعة - والجامعة إليها. مع كل أزمة نفسية تضرب مصر، تُطرح القضية من جديد. وأزمات مصر لا تنتهي. ونقدها الذاتي بحر عارم. وفي كل مرحلة، يعيد المصريون النظر فيما جرى. والآن، كل مصر منقسمة حول حادث دخول الأمن إلى نقابة الصحفيين. البعض لا يرضى، كالعادة، بأقل من استقالة وزير الداخلية. والسيدة صفية مصطفى أمين تقف في الجانب الآخر لتقول إن الحرية للشعب، وليست للصحافة، وإن مصر تدفع اليوم من رغيفها ودمها ويومها ثمن الماضي الثقيل بفراغه وخوائه. وإذ تخوض مصر معركة المصرية والعروبة، وحرب سيناء، وحرب الأنفاق، وحرب النقابة، وحرب عكاشة، وحرب الكمائن في حلوان، تُعلن «داعش»، للمرة الأولى، عن وجودها بطريقتها وأسلوبها، فتصغر حجم الحروب الأخرى، والمخاوف الأخرى. وتذكر صفية مصطفى أمين بأن «أم الدنيا» التي كانت أغنى الدول، أصبحت تبحث عن المساعدات. وتتحدث الصحافة عن هزال رواتب الشرطة والخيانات في صفوفها. ومصر في فوران، فيما المطلوب - أمس واليوم وغدًا - عمل وعلم. وسواء كانت عربية…
الإثنين ٠٢ مايو ٢٠١٦
توضع القوانين، أو تصدر الأحكام، أو يبنى التحكيم عادة بناء على سابقة ماضية. لا أعتقد أن ثمة سابقة في التاريخ للقرار الروسي بالمحافظة على الهدنة في اللاذقية وضواحي دمشق؛ حيث هدوء نسبي، وتركها مشتعلة في زلازل حلب. وتقضي الأصول الأدبية واللياقة الصحافية في هذه الجريدة، ألا نستخدم كلمة «وقاحة»، فيأذن لي الزميل رئيس التحرير: سابقة بسابقة. وقاحة قبيحة ليست أسوأ منها سوى الطلب الأميركي من الرفيق بوتين، السهر على الهدنة حيث أمكن! ربما أيضا حلب إذا تكرمتم أيها الزعيم الإنساني الكبير. في مثل هذه الكوارث والفواجع أيها السيد أوباما، لا تناشد الدول «الشريك المفوض». تناشد الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وتدعو إلى اجتماع طارئ، وليستخدم بوتين الفيتو ومعه الصين، فماذا بقي من سوريا منذ الفيتو الأول؟ ومن بقي من السوريين؟ على الأقل في إمكان السيد أوباما التظاهر بأنه مطلع على ما جرى في سوريا، وأنه يتجرأ ويطلب من قسيسه جون كيري أن يطلب من الحائط الإسمنتي لافروف تخفيف معدل القتل والدمار والرماد وردم الأطفال في حلب من الدقيقة إلى الساعة، أو أن يقنعه بمشاهدة نشرة الأخبار. أما أن يعقدا مؤتمرًا صحافيًا مشتركًا آخر، فحلوا عنا جميعكم، أنتم و«القلق» التافه الذي تمنون الأيتام به، وأنتم والدعوة السخيفة المريضة إلى التهدئة فوق ركام سوريا، وفوق جثث وجروح مليونين ونصف مليون بشري، مكفنين بالفيتو…
الأحد ١٧ أبريل ٢٠١٦
في مقاله الأسبوعي الثلاثاء الماضي أخذ الأستاذ غسان الإمام على الوحدة الأوروبية مجموعة مآخذ، بينها أنها تتحدث 28 لغة مختلفة. وهذه في الحقيقة عقبة أساسية أمام المتحدات. ويعزو البعض نجاح الفيدرالية الأميركية، أولاً، إلى أن ولاياتها تستخدم لغة واحدة، وثانيًا، أن هذه اللغة هي الإنجليزية. لغة العالم الأولى. لكن لو أردنا أن نوحد لغة أوروبا فماذا نختار لها؟ الجواب السريع هو طبعًا الإنجليزية، التي يتفاهم بها الأوروبيون في مراسلاتهم وفي تنقلهم، في أي حال. لكن هل نلغي الفرنسية وأربعة قرون من الفكر والآداب؟ هل نلغي الألمانية والآثار الفلسفية والعلمية؟ هل تهمل أوروبا الإسبانية لغة أميركا الجنوبية والوسطى، فيما عدا البرازيل؟ ماذا عن الإيطالية وجمالاتها الموروثة؟ وماذا عن اليونانية، أم الحضارة الأوروبية، مع أن مهدها هو اليوم في حالة رثة؟ قد يكون الحل في اعتماد لغة رسمية واحدة، وترك كل بلد للغته الأم. وفي هذه الحال، الإنجليزية، لكن ماذا عن كرامة ألمانيا سند أوروبا الأول؟ هل سنرغم المستشارة ميركل على مراسلة فرنسوا هولاند بالإنجليزية؟ إن مشكلة أوروبا هنا هي غناها الحضاري، وليس العكس. وحتى اللغات الثانوية، كما في بلجيكا، ترفض الانزواء. وإذا ما وقع الانفصال هناك، كما هو متوقع، فسوف تكون لغتا البلاد هما السلاح، لأن الفرنسية والفلامنكية تمثلان هويتين مختلفتين ومتناقضتين. ووفقًا لـ«النيويورك تايمز» بأن الانفصال أصبح وشيكًا مع تصاعد…
الأحد ١٠ أبريل ٢٠١٦
يقول وزير خارجية فرنسوا ميتران، أوبير فيدرين، إن العالم قد أخفق بعد نحو قرن على قيام الأمم المتحدة في إنشاء شيء يسمى بـ«الأسرة الدولية»، فما نحن إلا في بابل مستدامة، كما يرى المفكر والدبلوماسي الفرنسي. ما من شيء يسير كما ينبغي، لا الوحدة الأوروبية، ولا التعاون الدولي. وأما الولايات المتحدة التي تغطرست حول العالم في ربع القرن الماضي، فإنها قد أحدثت بانكفائها، اختلالاً كالذي أحدثته في تدخلاتها. يركز فيدرين على حالة الوهن المنتشر في أوروبا، ولذلك، لا يتنبه إلى نقاط التفجّر الأخرى. ليس في العالم العربي، حيث الانفجار الكبير يتسع بلا توقّف، وإنما الآن أيضًا في جنوب القوقاز، حيث تشتعل من جديد الحرب بين أرمينيا وأذربيجان، مهددة بالامتداد إلى سائر المنطقة. ولا يخفى على أحد أن الصراع في ناغورني قره باغ، أو قره باغ العليا، إنما هو أيضًا صراع بالواسطة بين روسيا وتركيا، اللتين تتصارعان، بالواسطة أيضًا، فوق الحلبة السورية. وكانت الجبهة هناك قد هدأت بعد الانفجار أواخر الثمانينات حول المنطقة المتنازع عليها بين أرمينيا وأذربيجان، وأدّى آنذاك إلى مقتل 20.000 شخص، وتشريد أكثر من مليون. فقط بعدها، في عام 1994، وقّع البلدان اتفاق هدنة - وليس معاهدة سلام. ومنذ 1994 إلى الآن زاد طبعًا تسلّح الدولتين على نحو مخيف. والمتغير الآخر هو زيادة الالتزامات الروسية نحو البلدين معًا. وثمة…
الخميس ٣١ مارس ٢٠١٦
عندما كنت صغيراً (منذ زمن بعيد) كان ساعي البريد يأتي في الصيف إلى القرية مرتين في الأسبوع، على حصان رمادي، أشيب ومُتعب. في الشتاء لم يكن يأتي، لا أحد تقريباً في القرية، ولا ضرورة للبريد. وعندما أصبحت فتى، صار الساعي نفسه يأتي، أيضاً مرتين في الأسبوع، ولكن على دراجة بخارية يبدو أنه اشتراها مستعملة. يوم البريد، في الصيف، كان مفرحاً مثل يوم العطلة. تصل الصحف إلى مشتركيها متأخرة قليلاً، ولا أهمية اطلاقاً لذلك. وتصل أحياناً الرسائل إلى الوالهين في زمن الصبا. وهناك الرسائل التي لا تصل، لا في اليوم الأول ولا في الثاني، لا على الحصان الرمادي الساكن مثل عمره، ولا على الدراجة البخارية الصاخبة الساخطة الخارقة هدوء القرى وصمتها الطويل. عندما سافرت وأنا في العشرين، كانت أول رحلة لي إلى مركز البريد. فجأة، رأيتني وحيداً مثل سائر البشر في المدن الكبرى، وليس لي من أخاطبه سوى الأصدقاء. وجلست أكتب الرسائل، ثم أحملها إلى مكتب البريد. وسرعان ما صار وجهي أليفاً هناك. وزياراتي. فالموظفون اعتادوا على أن الغرباء في بداياتهم، تكون الرسائل صلتهم الوحيدة بالعالم. وربما أحياناً مصادفة في مقهى. الباقي زيارات صامتة إلى المكتبات العامة وجولات بلا نهاية في الحدائق. وكان لك أن تسأل، كل يوم، عاملة «الاستقبال» في النزل القديم: «هل من بريد اليوم يا مدام مولان؟». وكانت…
الإثنين ٢٨ مارس ٢٠١٦
لعل الكنوز الأدبية الروسية هي الأغنى في العالم، كما يرى الحماسيون. ولكن هل يعقل أن يكون كنز أدبي هو الأهم، حتى لو كان خاليًا من هوميروس وشكسبير وغوته؟ قرأت في «موسكو تايمس» استفتاء بين الروس حول الأدباء الأكثر شعبية. وكان في اعتقادي أن الأكثرية سوف تقترع للشاعر الكسندر بوشكين والروائي فيودور دوستويفسكي. أخطأت. تقدم الكونت ليو تولستوي لائحة العشرة الأوائل بـ45 في المائة يليه دوستويفسكي بـ23 في المائة، ثم تشيخوف بـ18 في المائة، وحل بوشكين رابعًا بـ15 في المائة، ثم غوغول بـ13 في المائة، وميخائيل شولوخوف بـ12 في المائة، وبولكاغوف بـ11 في المائة، وتورجنيف بـ9 في المائة، وماكسيم غوركي 7 في المائة، ولير منتوف بـ6 في المائة. مفاجأة؟ تقريبًا، لا. الروس يعرفون آدابهم ويتفاعلون معها أكثر من أي شعب آخر. لكنني أعتقد أنه لو أجري الاستفتاء في فرنسا، أو بريطانيا، أو ألمانيا، لكان حل دوستويفسكي في المرتبة الأولى، متقدمًا تولستوي بالنسبة نفسها. لا تشرح «موسكو تايمس» الأسباب على الإطلاق. ولا تلحظ مثلاً أن ميخائيل شولوخوف (هادئا يمر الدون) عندما أُعطي نوبل الآداب قيل إن السبب هو مسايرة الاتحاد السوفياتي. في حين لا يرد في اللائحة، تحت أي نسبة، اثنان من حملة نوبل المعاديان للسوفيات، أي بوريس باسترناك (دكتور جيفاغو)، وألكسندر سولجنتسين أشهر المنشقين على الاتحاد السوفياتي في القرن الماضي. يقال…
الخميس ٢٤ مارس ٢٠١٦
دوَّن الرحالة والدبلوماسيون الأجانب، الأشياء البسيطة التي لا نعيرها اهتمامًا. المعتمد السياسي البريطاني في الكويت هارولد ديكسون (1929) سجل أدوات المطبخ في الخيام. الرحالة الدنماركي رونكاير دوّن بالتفصيل حركة السوق في الكويت أوائل القرن العشرين. البريطاني تيسيجر، سجل عادات البدو البسيطة، وتوقف عند الشيخ زايد يوم كان حاكمًا على العين، ليصف كيف يدعو جميع الناس إلى الغداء معه في «القلعة» هناك. إذا أردت أن ترسم صورة حياتية مفصلة للعالم العربي منذ القرن الثامن عشر، عليك بما ترك الأجانب من كتابات ورسائل ومذكرات. رسائل فلورانس نايتنغيل، مؤسِسة مهنة التمريض، إلى أهلها من مصر. ورسائل الروائي الفرنسي غوستاف فلوبير، من إسكندرية القرن التاسع عشر. لم يصف فلوبير خلال إقامته في مصر البيوت والشوارع فحسب، بل ذهب أيضًا إلى الأماكن الممنوعة ليكتب عنها. أدب الرحلات هو أدب التاريخ والجغرافيا والجمال والأسطورة والحياة. لولا الرحالة والكتّاب والمستكشفون والرسامون، لكان ثلاثة أرباع العالم، على الأقل، مجهولاً بلا أثر. طالما حلمت منذ أن انتقلنا إلى العيش في لندن، أن أجمع لوحات روبرتس وإدوارد لير عن الشرق، لكنها كانت أبعد من أحلامي بكثير. وذات مرة رأيت لوحة ضخمة وشهيرة لإدوارد لير معروضة في إحدى واجهات بوند ستريت، فذهبت إلى صديق مقتدر وقلت له هذه أجمل لوحة عن لبنان. لكنه لسبب عنده، لم يتحمس كثيرًا للفكرة. لا أعرف…
الأربعاء ٢٣ مارس ٢٠١٦
قال شاب تونسي لمراسل «نيويوركر» إن «داعش» سوف تحكم العالم اجمع بالعدل والانصاف، وتنشر السلم في جميع الأنحاء. لكن يبدو أنه حتى ذلك الحين، سوف تحرق الطيارين في الأقفاص، وتقطع رؤوس الرهائن على الشواطئ، وتسبي النساء، وتسخّر الأطفال، وتفجّر المطارات والقطارات والمترو. الرسالة في تفجيرات بروكسل كانت متعددة: أولاً، ضرب أوروبا في قلب عاصمتها. وثانياً، القول إن اعتقال منفذ انفجارات باريس مجرد صفر، لأن الإرهابيين النائمين سوف يستيقظون في اليوم التالي إلى ما هو أكثر همجية وعدمية. لم يعد ممكناً النظر إلى حرب الرعب إلا بمنظار كوني. فأول ما خطر لي حين سماع نبأ بروكسل، هو أن هذا تصويت آخر إلى جانب دونالد ترامب، وإرغام لفرنسا على تمديد حالة الطوارئ، والمزيد من رفع الأسوار عالياً في وجه اللاجئين. لدينا مجموعة مطالب ومظالم وشكاوى من الأنظمة العربية، وعهود الركود والتخلّف والفقر، وبدل أن نطلب حلها في بلداننا، نريد أن نحلها في أوروبا. وبدل أن نحمل مسؤوليات افشال نصف قرن، نريد أن يفشل الآخرون ايضاً. واسوأ معالم هذا النحر والانتحار الجماعيين، هو ردود فعل المتملقين ومتسولي الإطراء، الذين لا يرون أي خطأ إنساني في الدفاع عن العنف والقتل والسلوك الهمجي. هؤلاء يؤلبون على العرب جميع الناس. ويساهمون، مثل جزاري باريس وبروكسل ومدريد، في رسم صورة جماعية مقيتة، للملايين من الناس العاديين والعاقلين…
الأحد ٢٠ مارس ٢٠١٦
تحظر جمعية أطباء النفس الأميركية على أعضائها إعطاء الرأي في أي شخصية عامة، باعتبار أنه يساوي أحيانًا الحكم بالإعدام على إنسان لم تعالجه عن قرب ولم تصغِ إليه ولا تعرف عنه سوى ما يقال. طُرحت المسألة مجددًا بعد صدور أحكام عامة على دونالد ترامب وتصرفاته وأدائه المثير للسخرية والخوف والتقزز معًا. كثير مما يفعله ترامب يقع تحت باب «البروباغندا»، أي الدعاية الفاقعة مدحًا لنفسك وذمًا لخصومك. وبعض البروباغنديين يذهب إلى درجات قصوى في الكذب من دون التوقف عند أي رادع أو قاعدة، خصوصًا في الدول لاغية القوانين، كما في بعض العالم العربي. وإذا كان توفيق عكاشة قد شكّل ظاهرة مثيرة ومحيرة في رحلاته الذهنية غير المحدودة، فإن بعض القنوات «الجديّة» تحولت إلى مصانع يومية لتسفيه الحقائق ونشر الأفكار الهابطة، من دون أي محاسبة. وتحت ستار «حرية الرأي» تشن التلفزيونات حملات مدمرة خالية من أي ضابط أخلاقي. وحتى الصحف الكبرى تسمح لكتّابها، أو محرريها، بإطلاق النعوت الرخيصة ما دام الشخص المعني «لا يخيف»، خارج القانون أو داخله. وفي لبنان تلجأ القنوات على اختلاف مقاييسها في الحرية والقانون، إلى مقدمة سياسية لنشرات الأخبار، يقال فيها كل ما يقال وما لا يقال. ولعل قنوات لبنان هي الوحيدة في العالم التي لها «مقال افتتاحي» أسوة بالصحف المكتوبة. ولا تخضع هذه «الافتتاحيات» لمعايير ومفاهيم المقال…