الأربعاء ٢٩ مايو ٢٠١٩
قبل خمسة عشر عاماً، وتحديداً في شهر رمضان، شهدت بنفسي، حزن الناس، من كل الجنسيات في الإمارات، على رحيل رجل عظيم، أسس دولة، على أسس متينة، وبنى إنساناً، كما يليق بناء البشر، وكانت محبة الناس له صادقة، وفي الحديث: أنتم شهود الله في أرضه. كان حزن الناس على وفاة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، صادقاً لا مراء فيه. لأحدثكم عن وطني، المملكة العربية السعودية، لا أحسب أن أحداً يمر عليه ذكر زايد، غفر الله له، دون أن يعلن دون مواربة، تقديره لشخصيته، ومحبته لرجل صدق في محبة الناس، فبادلوه صدقه صدقاً، في التقدير والإجلال والمحبة. في الحادي عشر من فبراير 2019، كان الأمير تركي الفيصل، السفير السعودي السابق، بلندن، فواشنطن، يحاضر في وزارة الخارجية الإماراتية بأبوظبي، فنقل الأمير أن الشيخ زايد، كان في آخر أيام حياته، في اللقاءات التي جمعتهما، يوصي أبناءه من بعده، بتوثيق العلاقات مع السعودية، قائلاً، بنص حديث الأمير: «السعودية هي عزوتكم إذا جار الزمن». كان وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية الدكتور أنور قرقاش، حاضراً المحاضرة، فعلق في تويتر على نقل الأمير عن الراحل الكبير: «هي قناعات راسخة، تتجدد، وتتعزز». الحقيقة أن السعوديين يحبون الشيخ زايد، قبل أن يسمعوا بكلمته هذه، ومن سمعها، علم أنه أحسن الظن برجل عظيم، وازدادت قناعته بمشاعره. كان رحمه…
الأربعاء ٢٧ فبراير ٢٠١٩
حين تقف على شباك شراء التذاكر في قاعات السينما، ترى تباين اختيارات وأذواق الناس، بعضهم يهوى أفلام الرعب، وآخر يفضل الحركة والإثارة، والبعض لا يستمتع إلا حين يعثر على فيلم تاريخي متشعب. ثمة من لا يحب أفلام الإثارة، وينفر من أفلام الرعب، لكن، يكاد الجميع يتفقون على محبتهم للأفلام الكوميدية. لماذا؟! لأنها ترسم الضحكة، على الوجوه. نعم الضحك... إنها السلعة الأغلى في العالم. من أصعب المهام أن تملك القدرة على رسم ضحكة، من خلال التلفزيون أو السينما أو المسرح، ولذلك فإن الفنان الكوميدي، ليس الأشهر فقط، وإنما الأكثر أجراً، لأن الإنسان قد يجامل ضاحكاً في وليمة، ولكن في السينما أو المسرح لن تجد من يضحك للمجاملة، إنه يصرف من ماله، لأجل شراء ضحكة، باذخة، ماتعة. أكثر الأفلام حضوراً في السينما، الحب، والضحك، لأنها من أساسيات السعادة في الحياة، فمن دون حب وقدرة على الابتسامة تصبح الحياة جامدة خاملة، ويكون الإنسان كآلة صماء بكماء، بلا مشاعر ولا أمل. ولكن ما تعريف الضحكة؟! بالعودة لمن كتب عنها من المنظرين، يمكن اعتبارها، إدراك حالة من التناقض، تجعل الصورة المدركة ذهنياً، موضعاً يدفع الإنسان نحو الضحك. فالواقعة الدافعة للضحك، تكون ضمن إدراكات الإنسان، وأمثلته، لذلك تعتبر النكتة في كل مجتمع أحد عوامل شرح خيال الناس، وبيان اهتماماتهم، ومستوى وعيهم، ودرجة سخريتهم. النكتة تشرح الفرز…
الثلاثاء ٢٦ فبراير ٢٠١٩
... ولا أصعب من توصيف الكرم، لمن لم يره بقلبه، إلا التعذر لمن تعلم أن مرضه الكرم، وأن تلفه العطاء، وعلة نفسِه أن تقصر يده عن معروف لمن يستحق. سألني صديق ذات نقاش: أضروري أن يمر الشاعر بالفقر أو الأسى ليستطيع بلغته حمل الشعور وإن لم يجربه؟! لا أدّعي أني أحمل جواباً شافياً، لكني استشهدت بالكريم الذي لم يرَ الفقر يوماً، لكن إحساسه بحاجة المحتاج وتلبيته لحاجته، عوضت مرارة المرور بالتجربة، ولا أزعم سبقاً، فقد جعل الله في محكم تنزيله، العين البصيرة للحاجة تكريماً لمبصرها عن الجهل، فقال تعالى: «يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف»، فوصف الذي فات عليه تعفف الفقير بالجاهل، ونقيض الجهل العلم، ولعمري إن معرفة حاجة السائل قبل سؤله، فطنة لا يُؤَتّاها إلا ذو علم بخبايا النفوس وحاجاتها. وقد يبدأ الشعراء قصائدهم بالشكوى والاعتذار، وهو قليل، لكن شاهداً واحداً يكفي، فكيف إذا كان مستفيضاً، يقال ويعاد! ومن حقوق الأبناء على الآباء، إرشادهم مبكراً إلى هذا النوع من الدراسة، التي لا تنتهي بأمر الانصراف، فالشعر ديوان العرب، وكتاب حياتهم، وفيه من الجمال، ما يمكن أن يكون مرشداً لحياة راقية. عاش صاحبُنا حياتَه مقنعاً أو متقنعاً، ولست مع القائلين بأن جماله سبب تقنّعه مدى الحياة، كما ذهب لذلك الأصفهاني في «الأغاني»، ولا بمصدقٍ أن كريماً، سليل ملك، وصاحب سيف، يخشى…
الأربعاء ٢٠ فبراير ٢٠١٩
للفنون سحرها في التقريب بين البشر، احتفالاً بشتاء طنطورة، (في العُلا غربي السعودية) وبرامجها الفنية، ارتدى الفنان الأوبرالي، بوتشيلي، الغترة والعقال، بينما وضع العازف والموسيقار، ياني، الشماغ على كتفيه، في تعبير عميق عن احترام الثقافة السعودية، واحتراماً للجمهور الذي رحب بهما، فردا التحية بمثلها. لطالما كانت الفنون عنصر اتصالٍ بين الشعوب والأفراد والحكومات، فالفنون مكمن الجمال، وهي من المشتركات الإنسانية، فلغة الجمال لا تحتاج إلى ترجمة، إذ تنساب بعذوبة للعقول والمشاعر. لقد حضرت الفنون على الدوام في العمل الدبلوماسي والسياسي، منذ عصور الإغريق، مروراً بشكسبير وآثاره، وحتى هذا اليوم. الفن يدني البعيد، ويذلل الصعب، ويفك المستغلق، فيندر أن تجد شخصاً من دولة، إلا ويعرف فناناً من دولة أخرى، يحفظ له أغنية، أو يعرف لوحة فنية شهيرة، رسمها فنان من دولة أخرى، وهنا تكمن قوة التأثير، وفعالية القوة الناعمة. والجمال ببساطة، كما يصفه الفيلسوف الألماني هيغل (1770-1831):«هو الصورة، بوصفها وحدة مباشرة للتصور، وحقيقته الواقعية، بقدر ما تكون هذه الوحدة حاضرة في تجليها الواقعي المحسوس، وبعبارةٍ أبسط: الجمال إنما يقوم في الوحدة بين التصور العقلي للشيء وبين وجوده الواقعي، بحيث يكون الشيء جميلاً إذا تطابق التصور العقلي مع التحقيق الفعلي في الوجود، أو بعبارةٍ أكثر بساطة، الجمال هو التطابق بين المفهوم العقلي وبين الوجود الفعلي. وتبعاً لهذا المبدأ، فإن الحياة المعطاة في…
الثلاثاء ١٩ فبراير ٢٠١٩
والحق أني لم أجد فراغاً العام الماضي، إلا هربت إلى مكتبتي، وأغلقت الباب. تارة أدخل في تعريفات التسامح، وحيناً أجدُني غارقاً في شروح أبي الطيب وتجارب الأقوام، ومن ثم شُغلت زمناً بالعفو، حتى وجدته مختلفاً عن التسامح، ومن ثم مرت الأيام، وخالفت نفسي، حتى آمنت بأن الزمن هو الفاصل بين الفضيلتين، فقد يكون العفو بعد حين، وقد يكون في التو والحين. ثم خطر لي أن التسامح، تجربة توصف بها المجتمعات، أكثر من العفو الذي يكون شخصياً بحتاً، وربما أدَّى اتصاف مجموع الأفراد بفضيلة العفو، إلى تطور المفهوم، كي يظهر مفهوم أخضر الأغصان زكي الرائحة، يدعى التسامح، وما زلت بين هذا وذاك حتى عزمت على تأليف كتاب في ذلك، ولعله يزيد من النقاش، ويضيف شيئاً نافعاً. وهذا الباب عجيب عجيب؛ فقد تعلمت دائماً عن الموضوعات التي بحثت فيها بعد صدور أي كتاب لي أكثر مما علمت قبل صدوره، ففي السير الذاتية - وجهدي فيها جهد المقل - وصلتني كثير الرسائل بعد أن طُبع العمل وخرج للنور عن المكتوب عنه، وعن البلدان فقد أكرمني اليمنيون بقصص وحب أكثر بعد «جوهرة الفحام»، وهأنذا أعترف بقصور اليد على أمل أن يكون كتابي القادم المطبوع قريباً دعوة مفتوحة لحوار المعاني في باب أحبه وانشغلت به كثيراً، باب التسامح أيها الكرام. وها هو أبو العتاهية يشاركني…
الأربعاء ١٣ فبراير ٢٠١٩
بعد إعلان «وثيقة الأخوة»، في الإمارات، بين البابا فرنسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية، من جهة، وشيخ الأزهر، الدكتور أحمد الطيب، من جهة أخرى، تصاعد الحديث عن جدوى الحوار. الأسئلة لم ترد من المتطرفين بالديانتين، بل من متحذلقين يفهمون الحوار بطرقه التقليدية القديمة. مع أن مفهوم الحوار تطور بعلم الاجتماع وجديد الفلسفة، إلا أن البعض لا زال يعتقد أن مهمة لقاء كالذي حدث بين البابا وشيخ الأزهر، وأثمر الوثيقة الآنفة، هو إنهاء قرون الصراع، وإرثها التاريخي، وكأنها لم تكن، وهو حلمٌ رومانسيٌ ممتنع الحدوث منطقياً. الوثيقة بمضمونها الإنساني، تخاطب العقلاء، والمؤسسات التربوية، والاجتماعية والدينية، وهي بداية لمشروع يحتاج استيعابه، لتضافر جهودٍ كبرى، من شتى الفعاليات والمؤسسات الإسلامية والمسيحية، على حد سواء. خلال القرن العشرين، تطوّرت أخلاقيات النقاش، فالفيلسوف الألماني، يورغن هابرماس (ولد1929)، وضع أطروحته حول أخلاقيات النقاش، وفعل التواصل العمومي، وشدد على ضرورة نشر الحوار العمومي، باعتباره من الأفعال الأخلاقية. مهمة الحوار ليست إنتاج حلٍ ثالث، ولا الرغبة بتحييد النزاع، وإنما جلوس طرفين لسماع بعضهما وهو يعد بحد ذاته فضيلة أخلاقية. حينما يجتمع طرفان مختلفان الأول (أ)، والثاني (ب)، ليتحاورا، فإن فعل الحوار ذاته، تواصل محمود، وممارسة لفضيلة إنسانية. ليس بالضرورة، أن يقنع (ب) (أ) برأيه، ولا العكس، فالثمرة، ليست فرضاً في المناقشة العمومية، وربط الحوار بالتوصل لنتيجة يتفق عليها الطرفان، فيه…
الثلاثاء ٠٨ يناير ٢٠١٩
يوماً ما ستتوقف الساعة عن الدوران، ولن يكون على هذه الأرض، من يدوّن أحداث الساعة الأخيرة من الزمن. ربما لا تكون ساعة، بل قد تكون دقيقة، أو أجزاء من الثانية. يومها، لن يملّ القارئ من نصوص نهاية العام، والبكاء على اللبن المسكوب، والوقت الذي هرب من أيدينا؛ الوقت الذي سيكون حينها، مضروباً في الصفر، ولا أحد يستطيع هزيمة الصفر في جدول الضرب! سيأخذ نهر الحياة مجراه، فليتوقف الباكي على الماضي، وليمسك بتلابيب وقته، ولينظر في ساعة يده، فإن شَعُر أنها تُسِّرع من إحساسه بالوقت، وتصيبه بالقلق، فليضع ساعة رملية على مكتبه، أو ليراقب الشمس وهي تشرق، أو القمر وهو يميل باتجاه رحلة أخرى. المهم أن نملك الزمن... ولن يملك الزمنَ أحد! ستبقى أبعد أمنياتنا، وضع الزمن في المسار الذي يخدم أحلامنا وأهدافنا. لست مثالياً، ولا عائداً من القمر، كي أُنَظِّر عليكم عن أهمية الوقت، لكني أنذر نفسي قبلكم، فقد مضى العام قبل فترة وجيزة، بأيامه وساعاته، وأكثر من خسره، الذين لا يعرفون ما يريدون من فكرة الوقت. أما عامنا هذا، فهو عام سعيد، لمن يضعون خططاً واضحة، ليكونوا على أهبة الاستعداد لتنفيذ ما خططوا له، وكأن تلك الخطط، تحفزهم للاستمتاع بشروق شمس يوم جديد، يتكون من 24 ساعة. لا بد من الإشارة، إلى مفهوم، قد لا يعجب بعضاً، وهو أني…
الأحد ٠٦ يناير ٢٠١٩
يخطئ تماماً، هؤلاء الذين ينسبون الفضل إلى أنفسهم في كل فرصة مواتية! لست وحدك مَن أحسن المشي طفلاً، وتقدم في دروب الحياة شيئاً فشيئاً. حين تلتفت إلى الخلف، كي تنطلق إلى تجربة جديدة، في أي اتجاه، سترى وجه أمك الحنون، وكفَّ أبيك الحانية، وحب زوجتك الطيبة ودعاءها، ولهفة أبنائك حين عودتك، وسؤال الأشقاء، وقلق الأصدقاء عليك. ولولا هؤلاء الذين يجلسون أمام الصفحة، وشاشة التلفاز، لكنت في غاية الوحدة، وأنت تكتب لنفسك، في جنبات ليل الشتاء الطويل. شغفت صغيراً بالقراءة، وبالتالي أحببت الكتابة والأسفار، عشت طويلاً مع كتب السير الذاتية، فكان لي أصدقاء أختلي بهم دائماً، حين أكون وحيداً. كنت محظوظاً، بالقدرة على بدء الحوار عن فكرة شغلتني، مع أول مَن ألتقي، وإن لم يكن قد سهر معي البارحة على ذات الكتاب. ممتنٌّ جداً للزملاء والمديرين، الذين أعطوني الفرصة شاباً يافعاً، يؤمن به رجل بعمر أبيه، فيرسله لتغطية حدث في مدينة لم يزرها من قبل. قابلت أبرز الرؤساء، والوزراء، والساسة، والرؤساء التنفيذيين، ورواد الأعمال الناجحين، والمثقفين، وأجزم أني كنت محظوظاً، شديد التعلق بالفرصة، والأمل، وأنا أسهر لإعداد مادة صحافية، وبعد ذلك التحضير لبرنامج «إضاءات»، الذي جعلني صوتاً وصورة، في كل بيت في عالمنا العربي. ما زلتُ أعترف بأن الإطراء على بحّة صوتي من شاب أو شابة ألتقيهم في صدفة جميلة يعيدني…
الأربعاء ٠٢ يناير ٢٠١٩
مع كل صباح، تُجهّز الطفلة أقلامها وأوراقها، تحمل حقيبتها مودعةً والدتها إلى المدرسة، لا تسأل عن ديانة صديقتها، وهي تركض معها داخلة صفها، قد تكون مسيحيةً، أو بوذية، أو مسلمة. الأطفال بفطرتهم السليمة، لا يأخذون الأمور بتلك الطريقة المشبعة بأحقاد التاريخ! البراءة بالتعاطي مع الآخر، انطلاقاً من أصله الخيِّر، هدفٌ شرعي من أصول الشريعة، وكان الله بعون المفتين. مع أفول كل عام، وفي فترات الأعياد المسيحية، تنهال الأسئلة عليهم، مما يوضح عمق حرج بعض المسلمين من هذه القصة، رغم اختلاط المسلمين بالمسيحيين، بكل مكان. بعض الفقهاء لايزال في عزلته، مستخدماً «إرث الأزمة الفقهي»، لفتاوى صُنعت في ظل صليل السيف، وبصدى قرعِ طبول الحرب، وبفتراتِ رشق الدم، ونتاج الأزمة ليس حُكماً أبدياً، يُحسن أن يعمم بنتيجته على عصور المسلمين كلها، حتى في فترات السلم. وبرغم بديهية جواز التهنئة للمسيحيين، ولغير المسلمين كلهم بالأعياد، بداهة لاجتماع المكون البشري والإنساني، لكن بعض التذكير بالأدلة والفتاوى يزيل الغشاوة، ويطمئن القلب الوجل، ويحقق المصلحة المدنية المرجوة. من ينسى حديث أسماء بنت أبي بكر، المروي بصحيحي البخاري ومسلم، حين قالت للنبي عليه السلام: «يارسول الله إن أمي قدمت علي وهي مُشركة، وهي راغبة –أي في صلتها والإهداء إليها-أجابها النبي: صلي أمك». هذا الحديث يؤصل للصلة بين المختلفين في الأديان، فهدف الشريعة تحقيق مُكنة الدين من الواقع،…
الثلاثاء ٢٥ ديسمبر ٢٠١٨
من يصدق أن الكاتب النرويجي جوستاين غاردر (ولد في 1952) كتب كتاباً للأطفال بعنوان: «هل من أحد هناك؟»! أعرف أن كثيرين سيغضبون لتجاهلي «عالم صوفي»، و«فتاة البرتقال» التي صدرت مطلع 2003، لكني سأرد عليهم بأن النرويجيين لم يقدروه حق قدره إلا برواية «سر الصبر»؛ والمقصود الحديث عن شجاعة الكاتب في مخاطبة القراء الأصغر سناً. ومن يدري، فربما كان غاردر من المؤمنين بقدرة خيال الطفل على التحليق بتفوقٍ واضحٍ على عقول البالغين والأكبر سناً، وهنا مربط فرسي اليوم: ما الذي يجعل جوستاين مؤمناً بقدرة الطفل على استيعاب نظرية التطور، والتاريخ الطبيعي للأرض، بل الولوج مبكراً إلى عالم أسرار الحياة؟! بينما يصطف الكثيرون في المجتمعات الصناعية للحصول على تذاكر سينمائية لمشاهدة أفلام الخيال العلمي مصطحبين أطفالهم، تُلقن المجتمعات التي لا تزال تعتمد على الذاكرة الجمعية بنيها قصيدة أو قصة تعزز من اندماجهم في مجموعاتهم البشرية. يرى الأب الواقف في صف فيلم الخيال العلمي أن خيال ابنه أو ابنته يتدرب الآن لفهم المستقبل، بينما يكرر الأب في المشهد الثاني على ابنه القصيدة التي يضمن بها استمرار القيمة التي تحملها القصيدة أو القصة، كي لا يبدو ابنه وحيداً حين يضحك الآخرون! أؤمن بقوة الخيال، وأدعو لتدريبه أياً كانت الطريقة، وما زلت أيضاً ذلك المؤمن بقدرة الشعر والرواية على تجاوز مرارات الواقع، بل وتفهمها، وأحياناً…
الثلاثاء ١١ سبتمبر ٢٠١٨
كان حواراً على الطائرة العائدة إلى دبي قبل عامين، كنت مرهقاً متعباً يرى طيف المخدة على سلم الطائرة، لم يكن ليبطل نيتي في نوم عميق، سوى غلاف كتاب أمام الراكب المجاور، لم يكن الحوار ليبدأ لولا فضولي الذي ورثته أولاً من الإعلام، وثانياً من شغفي بالكتب التي يحب الآخرون قراءتها في الطائرات، والمطارات، ووسائل النقل، ويصدف أن أرى بعض هذه الكتب في المراجعات، التي تنشرها الدوريات الغربية عن أكثر الكتب مبيعاً، وبطبيعة الحال تترجم للغتنا العربية بعد حين، فأكون كمن شهد السوق - بفضولي المعتاد - بقراءة أو بحديث صديق يشاطرني الفضول. امتد حوار الراكبين اللذين تعرف أحدهما الآن، حتى وصل صديقك المتعب إلى بيته، دون أي شعور بالملل و بدون دقيقة نوم واحدة على متن تلك الطائرة. تسحرني بدايات الأذكياء في جذبك من مقعدك بجملة واحدة، بدأ معي ستيفن - وهو اسم الراكب - الذي أنهى للتو قراءته الأولى لكتاب «العاقل: تاريخ موجز للبشرية»، بتهنئتي على مرور أكثر من 113 عاماً على اختراع الطائرة، هذه الفكرة التي تنقلنا الآن من لندن إلى دبي في سويعات، مضيفاً أن هذا المقعد المتحرك الذي تميله متعللاً بتعبك الآن، ما هو إلا تفصيلٌ صغيرٌ آخر من إبداع مخيلة أخرى، ومن ثم التفت إلى بكامل جسمه - لحظة الإقلاع - قائلاً: ما الذي نعرفه…
الثلاثاء ٠٤ سبتمبر ٢٠١٨
«لا تنسَ المظلة وانتبه من اكتئاب الشتاء»، كانت أولى وصايا أهل أوريغون - شمال غربي الولايات المتحدة الأميركية - حتى قبل وصولي إليها، لأطمر جهل لغتي! كنت أضحك من كل قلبي وأقول: ألا يدري هؤلاء أننا نصلي لقدوم المطر، نرحب به، بل ونستعد لقدومه، باختيار اتجاهاتنا في الصحراء، نوقد النار ونضع القهوة على النار في انتظار ضيف قادم من بعيد. وصلت إلى تلك المدينة - حيث تمطر نحو 11 شهراً ـ وكنت أظنني وجدت ضالتي، حتى مضت بضعة أشهر، فبدأت علاقتي مع الشتاء والمطر بالاضطراب! المطر الذي كنا ننتظره في نجد أصبح حاضراً حضوراً طاغياً، ولا أقول عنه شيئاً كي لا يغضب أصدقائي الذين يتركون مكاتبهم ليسمعوا أنشودة المطر كلما طرق المطر نافذة البيت! فجأة، اعتدت البلل، وليالي الشتاء الطويلة، كانت تجربة جديدة لرجل ارتبط الشتاء عنده بالخروج من المدينة والذهاب للبحث عن الصحراء التي لا يحتفل بالمطر مثلها في نجد! فجأة، خلت شوارع أوريغون ليلاً من المارة، أضواء خافتة من شرفات البيوت، والباقون بعد السابعة مساء إما باحثون عن مشرب دافئ، أو متململون يبحثون عن أقصر طريق للبيت. كانت تلك أول مصافحتي لاكتئاب الشتاء، حيث يدخل الناس في التخمة والكحول وساعات النوم الطويلة، مع غياب عن العمل أو سفر باتجاه الشمس، واليوم تزداد الدراسات التي تتحدث عن معدلات الانتحار…