سعود البلوي
سعود البلوي
كاتب سعودي

“أفغنة” العقل العربي

آراء

منذ اندلاع الثورة السورية، نسي العالم حروباً طاحنة، منها الحرب الأهلية اللبنانية “حرب الطوائف” التي بدأت في منتصف سبعينيات القرن الماضي وانتهت خلال اتفاق الطائف عام 1990، ومنها أيضاً حرب أفغانستان والسوفيت التي استمرت كذلك قرابة أحد عشر عاماً، ولكنها حين انتهت بدأت معارك ضارية بين الفصائل الأفغانية، ولم تنته رغم إنهاء “دولة طالبان” بعد دخول القوات الأميركية إلى أفغانستان، ووجود دولة جديدة اسمها جمهورية أفغانستان الإسلامية، خرجت من أتون الحرب تلعق جراحها النازفة.

لم يكن هذا النسيان مبرراً لولا أن الحرب في سورية صارت أكثر شراسة وتعقيداً من كل الحروب السابقة؛ بوجود أطراف إقليمية ودولية تعمل على الأرض السورية، ولكن الأخطر هو وجود الجماعات المقاتلة التي لا تُعرف لها ذمة ولا ضمير سوى القتل وإراقة الدماء.

إن “أفغنة” العقل العربي من خلال سورية اليوم هي نتاج وجود سلطة مستبدة حولتها إلى دولة بوليسية على مدى أربعين عاماً، واستفادت بعد اندلاع الثورة السورية من استقطاب “الجماعات الإرهابية” إلى الداخل السوري لتقنع العالم أنها تعاني خطر “الإرهاب”، مع أن هذه السلطة الاستبدادية هي مصدر الإرهاب والرهاب الشعبي الذي أصاب المواطن السوري اليوم.

وبخلاف الأطراف الدولية في المسألة السورية، هنالك أطراف أخرى دخلت على الخط محلياً، وهم أولئك المحرضون على القتال في سورية، ولو بحثنا لوجدناهم هم أنفسهم الذين حرّضوا على القتال في أفغانستان، ولكن الفارق في الأمر هو قراءتنا للتاريخ، فزماننا اليوم غير زمانهم بالأمس، حيث إن زيادة الوعي المجتمعي ووجود هامش لنقد الفكر الديني متزامن مع الثورة الهائلة في تقنيات الإعلام والاتصال؛ قد حجّما دور هؤلاء نسبياً، إلا أن الخطر ما زال مستمراً مع شديد الأسف.

بين كل فترة وأخرى نسمع ونقرأ خبر (نفير) أحد أبنائنا للـ”جهاد” في سورية، بفعل دعوات غير ذات ضمير تهدف إلى التضحية بهم لتحقيق أهداف أبعد ما تكون عن الإنسانية، بل إن هذه الدعوات التغريرية تفتك باستمرار بأرواح أبنائنا، اليوم مثلما فتكت بأرواح أبنائنا سابقاً في العراق، لكن أصحاب هذه الدعوات غير عابئين بما سيحصل لهم أو لوالديهم أو حتى لأطفالهم إذا كان لديهم أبناء، في الوقت الذي يكون لزاماً على جميع المؤثرين في الرأي العام ألا يسهموا في إرسال أبناء الوطن إلى التهلكة!

الجماعات المقاتلة تعيث اليوم قتلاً وتدميراً بكافة الأرض السورية، والمحرّضون يريدون تحقيق مكاسب، والدول المتنافسة تريد تحقيق مكاسب أيضاً بتوسيع نفوذها، غير أن المحصلة هي وجود بيئة إرهابية في المنطقة العربية، لن تبقَ فقط خارج الحدود بل ستكون كالقنبلة الموقوتة في داخل مجتمعات المنطقة ككل.

إن ما يحصل اليوم في سورية هو صراع سياسي، لا ديني، والضحية الأولى لهذا الصراع هو الشعب العربي السوري بكافة مكوناته وأطيافه، ويتحمل النظام السوري المسؤولية الكاملة في اندلاع فتيل الأزمة لا سيما أنه عمل بمبدأ “أنا ومن بعدي الطوفان”، وتتحمل الأطراف الدولية مسؤوليتها أيضاً في الخروج بحل سلمي للأزمة، غير أن السؤال الملحّ غير الواضح في القضية هو: من يتحمل “أفغنة” العقل العربي؟

يفترض أن نتعلم من الدروس، فقد مرّ العالم العربي والإسلامي بتجارب كارثية منذ القرون الماضية، كان نتيجتها غياب العقل وبالتالي غياب وجود الإنسان حقيقةً.. حروب وشعارات ارتدت علينا بالأمس القريب، فعانينا تبعاتها، حتى أصبح المستقبل مخيفاً في ظل استمرار الفكر الديني في إعادة إنتاج الإرهاب والتطرف بمرات تاريخية ودينية وطائفية وفقهية، نتيجتها قتل روح السلام في المستقبل، ومن ثمَّ العودة بنا إلى عقلية القرون البدائية.. حيث يتساهل فيها الإنسان في إزهاق روح أخيه الإنسان!

المصدر: الوطن أون لاين