ريم الكمالي
ريم الكمالي
كاتبة في صحيفة البيان

أنوات الرُواة

آراء

يكتب الراوي رواياته الملهمة والعميقة على امتداد سنيِّ حياته، ثم يضع أمام القارئ سيرته الذاتية، وبالطبع هي سيرة ليست كمثل سِيَر ذائعي الصيت والشهرة من نجوم السينما والرياضة وملوك ورؤساء دول ومناضلين، الذين لا كتب في حياتهم بقدر الأنشطة والحراك والتجارب، بينما الراوي هنا يحرّر سيرته وذاته كتابياً بحقيقتها المتناهية لا المتخيلة التي يعرفها العالم عنه.

والسؤال هو: هل سيتجنب هذا الراوي كتابة مذكراته أم سيخطها وينمنمها أمامنا لتتجلّى صورته الشهيرة كما يجب، أم سيتكئ على «الأنا» المختلفة والمتميزة؟

يبوح معظم الرواة بمكنوناتهم، ويستدعون أحداث طفولتهم التي جعلت منهم أدباء، ويخرجون بحياتهم الشخصية إلى العلن، معترفين بكل شيء، ليتوغلوا في زمنهم ويفيضوا في آلامهم وأفراحهم.

لكن بعضهم أراد أن يغير أسلوب سرده الذاتي، كما فعل أورهان باموق في سيرته «إسطنبول، الذكريات والمدينة»، ففيها أخرج «الأنا» وربطها بمدينته الخليط بكل شيء، ورَصفَ أفراد عائلته فرداً فرداً يحبكهم بأحداث بلده وبنفسه، لتخرج السيرة غنية، بتاريخ مدينة وعائلة والأنا للراوي، خاصة أنه نقد وحكم على الفنون من رسم وسينما وشعر ومشاهدات البسفور والدين والحب والشتاء، شابكاً إياهم بما حدث له ولأسرته ولقلمه، من حقيقة وزيف، ليبين «أناه» الواعية ويعانقها في بطولةٍ مطلقة.

أما الروائي اللاتيني ماريو فارغاس يوسا، حاصد الجوائز المهمة، فإنه ربط سيرته الروائية بعشاق القلم، وبالقارئ الراغب في الكتابة، فتحول في سيرته إلى معلم ناصح، وألَّف «رسائل إلى روائي شاب» كتاباً جزيلاً، فيه يسهب بالحديث عن سرد المكان والزمان والقفزات والنقلات النوعية وأسلوب الإقناع.. فهل كان يهرب من «أناه» ليسمو بنفسه؟

لكن الشهير غابرييل غارثيا ماركيز، الذي أدهش العالم في ما روى، لم تكن سيرته الذاتية «عشتُ لأروي» مدهشة لأنها تشبه عالمه الروائي، واتضح أنه لم ينفصل عن نفسه، وظلت «الأنا» صادقة في كل زوايا قلبه، في حقيقته كما في خياله.

بينما الحاذق ميلان كونديرا لم يتطرق إلى أناه، وهذا متوقع لزهده وعمقه، وسوداويته، فقد كتب بدهاء عن الروايات العظيمة متأملاً الأنا في مؤلفيها، مُنظماً كتابه «فن الرواية.. تأملات»، جارياً خلف لغز الأنا في الرواة، وسردهم، يحلل ويتأمل، مقارباً الراوي بالشخوص، حتى بات مقتنعاً بأنه إذا لم يبتكر الروائي شخصية خيالية ويجعلها كائناً قصصياً فإن الأنا تصبح طاغية، وستختفي الرواية مع الوقت.

في عالمنا العربي لم نشهد مثل هذه الأعمال كثيراً، لكن الأمر لا يخلو، فالروائي جمال الغيطاني كتب سيرته الذاتية على شكل تجليات بديعة، وكذلك محمد شكري الذي استعرض سيرته وجوهره وحقيقته وعائلته المعدمة في رواية «الخبز الحافي»، قدمها بمرارة، وأفردها لنا خيالاً، وقد رحل ولم يظل له شيء من «الأنا».

الراوي لا يستطيع إلغاء ذكرياته وميوله وسلوكه وعُقَده حتى في روايته المتخيلة، أو كما قال دانتي: «إن الفن في كل ما يفعله الفاعل ويمارسه هو كشف صورته الخاصة».

لذا يقدم معظم الرواة سيرتهم للقارئ كي يقارن أدبهم الخيالي بذواتهم، فيما يتجنب القليل منهم فعل ذلك، كي لا يظهر الأنا.

المصدر: الإمارات اليوم