سعود البلوي
سعود البلوي
كاتب سعودي

أين كانوا يكتبون؟

آراء

حصلت مؤخراً على كتاب جميل صادر في نسخته العربية عن “أبو ظبي للثقافة والتراث”، وكأنه يؤصل للفكرة التي ناقشتُها في مقالي خلال الأسبوع ما قبل الماضي المعنون بـ”شقتان في باريس”.

هذا الكتاب الجميل الذي يحمل عنوان جميلاً: (أين كانوا يكتبون- بيوت الكتّاب والأدباء في العالم)، صدر باللغة بالفرنسية للمؤلفة فرانسيسكا بريمولي- دروليرز، والمصوّرة إريكا لينارد، ويحكي الكتاب-بالكلمة والصورة- الأمكنة عاش فيها أشهر الأدباء والكتّاب العالميين في أواخر القرن الماضي، الذين عاشوا حالة الكتابة الخالدة، وفي هذا الصدد تؤكد المؤلفة أن البيت يلعب دوراً مهماً في حياة الكاتب “لأنه يتيح لصاحبه ترتيب ذكرياته وتسكين قلقه وتحريك أفكاره… فالبيت هو مرتع الإلهام، ويغدو بالنسبة إلى الكتّاب الذين يلامسون الخيال، مادة إبداع ورمزاً يلخّص مسيرتهم الأدبية والفنية”، وتقول إنهما تجولا في أرجاء أوروبا وأميركا للبحث عن “روحية المكان” التي انعكست على الكتّاب فألهمتهم، بالإضافة إلى أغراض الأديب، وتفاصيل حياته، وذكرياته التي تمت المحافظة عليها سواء أكان البيت قصراً فاخراً أو بيتاً متواضعاً.

يبدأ الكتاب ببيت الكاتبة الدنماركية (كارين بليكسون) الواقع بمحاذاة شاطئ كوبنهاجن، الذي يعود تاريخ بنائه إلى القرن السادس عشر، والذي ارتبطت به عاطفياً حتى بعد أن ارتحلت عنه إلى جنوب أفريقيا عقب انتحار والدها مستقرة في نيروبي، إلا أن الظروف الإنسانية والعاطفية الصعبة أجبرتها على العودة إلى بيت طفولتها-الذي تقطنه أمها وخالتها- فاختارت كارين العزلة بغرفة تحت سقف البيت ولم يكن رفيق لها سوى الكتابة إلى أن غادرت الحياة.

أما الشاعر الفرنسي جان كوكتو فتؤكد المؤلفة أنه وقع في غرامه من أول وهلة اختار فيها السكن فيه عام 1947، حيث ينتصب تمثالان لأبي الهول على جانبي المدخل الرئيس، وفي الداخل الكثير من التماثيل، وفي الطابق العلوي توجد مكتبته الضخمة المليئة بالكتب والأوراق والصور أيضاً التي من بينها صديقه (بيكاسو). كتب كوكتو في كتابه “صعوبة الوجود” إنه مثل كل المتسكعين كان لديه هوس الاستقرار والملكية، وقبل سكنه فيه كان يسكن شققاً كثيرة ضاقت بالكتب والتماثيل واللوحات. لم يكن لديه وقت معين للكتابة، لكن البيت كان ملهماً، كان قليلاً ما يكتب على مكتبه المكسو بجلد الفهد، إلا أنه كان يكتب في كل مكان منه، الحديقة وصالة الجلوس التي يملؤها بالكتب، إذ كانت الكتابة بالنسبة له أشبه بحالة ضغط خارجية، وكان يقول إن الموت بالنسبة له أشبه بتلبية دعوة للعشاء.. وقد لبى الدعوة فجأة عام 1963.

ويعرّج الكتاب على بيت الكاتب والدبلوماسي الإيطالي (كارلو دوسي) الذي كانت غرابة بيته متقاطعة مع غرابته سلوكاً وشكلاً، حيث أراد أن يحقق رغبته في الاندماج بالطبيعة، واعتبر بيته الفريد ثورة هندسية تحاكي حرية صاحب البيت في الكتابة والحياة؛ ولذلك انتهى بناء المنزل بعد 13 عاماً من الشروع فيه، وأقام به الكاتب دوسي وعائلته عام 1900 قبل انتهائه مكتفين بجناح واحد، وخصص الكاتب أعمدة فيه لكتابة أسماء أصدقائه الراحلين، إذ إن حبه للكلمات جعلها إحدى الجماليات التي تزين البيت، أما مكتبه الخاص فهو آية في التفرد والجمال، خبئت فيه كتابات كثيرة لم تنشر، والكاتب نفسه يقول: “رسمت أشياء كثيرة وجميلة وكبيرة ودوّنت أفكاراً كثيرة إلا أنني لم أحقق أي واحدة لذلك أطلب من زوجتي وابني وبناتي أن يكمّلوا ما قمت بتأسيسه، وأتمنى أن يخلدوا الكلمات التي وضعتها في مكتبي وأن يحفروها على أعمدة البيت المرمرية”.

أما الشاعر الأيرلندي (ديلان توماس) فقد قادته الظروف هو وزوجته إلى العيش في جزيرة لورجان حيث سكنا في كوخ على شاطئ البحر، ثم غادراه متسكعين في ضيافة أصدقائهما خلال الحرب، ثم عادا إلى لورجان حيث بيتهما الذي كان أساساً مبنى لصيانة الزوارق، واعتكف في مرآب خشبي ملحق بالمبنى وفيه كتب أعظم قصائده، لكن حياته كانت بائسة بسبب الإدمان، وهذا ما جعل عمره قصيراً حيث توفي قبل أن يبلغ الأربعين بعد رحلة في أميركا كانت حياته على حافة الضياع كانت طريقته الوحيدة للهرب إلى الإبداع.

إن مثل هذا الكتاب يمثل قيمة ثقافية وإنسانية لما يحويه من كلمة وصورة توثق حياة الكتّاب الأوروبيين في أواخر القرن الماضي، إذ حوى تفاصيل متعلقة بالبيت والسكنى لكتاب آخرين ومنهم: جابريال دانونزيو، لورنس دوريل، وليم فولكنر، جان جيونو، كينيت هامسون، إرنست همنجواي، هيرمان هيسه، سلمى لاجيرلوف، جوسيب توماسي دي لامبيديوسيا، بيتر لوتي، فيتا ساكفيل- ويست، مارك توين، فرجيينيا وولف، وليم ينلر ييتس، مارجريت يورسنار.

الذي أتمناه أن يولد مشروع مشابه في عالمنا العربي، فلدينا الكثير من المبدعين الذين لا نعرف عن بيوتهم وذكرياتهم أي شيء مع الأسف، وهذا يوحي أن وراء أكمة ثقافتنا ما وراءها!

المصدر: الوطن أون لاين