رضوان السيد
رضوان السيد
عميد الدراسات العليا بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية - أبوظبي

التأزم الديني والتأزم الثقافي في العالم العربي

آراء

اعتبر القادة العرب المشاركون في القمة بالكويت موضوع مكافحة الإرهاب أولا أو ثانيا ضمن الملفات «القليلة» التي جرى الاتفاق عليها وسط الخلافات الضخمة في موضوعات كثيرة. والعنف باسم الدين اليوم ليس كالأمس، بمعنى أنه يمكن تصنيفه باعتباره انشقاقا أو انشقاقات داخل الإسلام، ناجمة عن وعي معين من جهة يشرعن العنف وإحلال الدم، وعن سياسات استعمارية وإمبريالية فظيعة أخرجت بعض هؤلاء الشبان الحساسين عن طورهم، فنشروا عنفا باسم الإسلام، جعل من الدين الإسلامي مشكلة عالمية. نعم، ما عادت هذه الظاهرة بسيطة، فقد دخلت فيها عدة جهات إما لاتقاء الشر، أو لإعادة التوجيه والاستغلال. كما أن القائمين بها وعليها إنما فقدوا مثالياتهم العدمية تلك، ودخلوا أيضا في عوالم التجارة والصفقات. وبذلك تعقدت الأمور، وما عاد يمكن التمييز بين المتضررين والمستفيدين. وإنما يمكن القول إن الخاسرين الأكبرين هما الإسلام والعرب. أما الذين يشنون أفظع الحملات على الإرهاب، فمعظمهم مستفيد ومن هؤلاء الإيرانيون والروس. فالروس يستخدمون حجج الإرهاب للوقوف مع نظام بشار الأسد، ولتشديد القبضة على المسلمين في روسيا الاتحادية. أما الإيرانيون فيستفيدون بطريقتين أيضا: يطلقون ميليشياتهم الطائفية التي دربها الحرس الثوري للتخريب والقتل في العراق وسوريا ولبنان واليمن بحجة مواجهة التكفيريين – ويعيدون توجيه الجهاديين المزيفين باسم السنة بحيث يعملون في خدمتهم ويقتلون المسلمين الآخرين لأنهم يخالفونهم في الرأي والمنزع.

إن تعقد الملفات بشأن الإرهاب لا تعني أن هذه الملفات مصنوعة بالكامل. فالتأزم الديني موجود وقوي في المجتمعات الإسلامية. وهو ناجم كما سبق القول عن الضغوط التي تعرضت لها تلك المجتمعات في ظروف الحداثة والاستعمار والعولمة والأنظمة العسكرية والأمنية الحاكمة. وإنما استغلتها الدول الأخرى أو حاولت إعادة توجيهها بعد أن انفجرت عنفا عنيفا. ولا شك أن بين أسباب انفجارها عجز السلطات والمؤسسات الدينية الضعيفة والتابعة عن الضبط والاستيعاب. ولذا ففي الوقت الذي نكافح فيه الإرهاب، يكون علينا التفكير في كيفية إزالة التوتر أو التخفيف منه بعد المعالجة الأمنية لتلافي أسبابه، وتلافي ظهور أجيال جديدة. ويكون علينا أيضا التفكير بسرعة في كيفية إدارة الملف الديني في المستقبل، بعد أن ظهر الفشل في الطرائق السابقة، وانتشر العنف في المجتمعات والدول. وكنت قد وجهت النظر في عدة مداخلات إلى أهمية إعادة النظر في المؤسسات الدينية وأدوارها، باعتبارها تستطيع أداء مهمات جليلة في مجالات الرعاية والتوحيد وإعادة السكينة إلى المجتمعات. وإلى جانب هذين الأمرين الداخليين، يكون علينا التفكير بجدية في أمر داخلي – خارجي يهرب كثيرون منه حتى لا يزيدوا الأمور توترا باعتقادهم. إن الهجمة الإيرانية باسم المذهب والطائفة، صارت سببا في استثارة انقسامات هائلة، وبخاصة أنها تمارس القتل علنا في لبنان وسوريا والعراق واليمن، وضد السنة بالذات. وهذا الواقع يحتاج إلى مكافحة بطريقتين: المحادثات الاستراتيجية مع إيران بشأن العلاقات. ثم إعادة ترتيب أمور العيش بين الشيعة والسنة ضمن الجامعة العربية، بعد أن انتشرت الروح الميليشياوية المسلحة وغير المسلحة، كما انتشرت الحدود والأسوار بين الناس وبخاصة الشباب. هناك تربية خاصة يتلقاها أتباع ولاية الفقيه. كما يتعرض الشباب السنة أو قسم منهم لتربية متشددة تحيل الشيعة إلى أعداء. إن إيران تريد تحويل بلداننا إلى مناطق نفوذ على حساب وحدتها واستقرارها. ورد شباب «السلفية الجهادية» في موجتها الثانية بالطريقة الطائفية والمذهبية ذاتها غير مفيد ويزيد الأمر سوءا. إنما قبل الجهادية وبعدها لا بد من الحفاظ على وحدة بلداننا ومجتمعاتنا واستقرارها، شاء الإيرانيون أم أبوا!

إن هذا التأزم الديني الناجم عن الانشقاقات داخل الإسلام، والناجم عن الإثارة المذهبية التي دخلت فيها إيران، والناجم عن التدخلات الإقليمية والدولية الأخرى، لا ينبغي أن يلهينا عن التأزم الآخر، وهو الذي أسميه تأزما ثقافيا يتعلق بالهوية والانتماء والالتزام. فقد انصرف الإسلاميون نخبا وعامة عن الدولة الوطنية والدولة العربية، بحجة العلمانية ثم بحجة الجاهلية أو العمالة. أما المثقفون العرب الأوساط والكبار فقد أنفقوا عقودا في شتم الموروث الديني والثقافي، وعندما بدأت انهيارات الأنظمة الأمنية والعسكرية وقف قسم كبير منهم معها، واعتبر القسم الآخر أنه غير معني بشيء من هذا «التخلف» الشامل! نعم، ما اهتم المثقفون الكبار بالآلام والأوجاع والمذابح وتحطم البلدان. بل إن بعض كبارهم انحازوا إلى بشار الأسد وحسن نصر الله. ولا شك أن عددا من هؤلاء فعلوا ذلك بدوافع طائفية. فقد كانوا منضوين في تحالفات الأقليات الحاكمة ومناعم السلطات. والأقليات ليست دينية وإثنية فقط؛ بل هي أيضا آيديولوجية ومصلحية وجهوية وعنصرية ثقافية وسياسية. لكن الذي لا أفهمه انحيازات الناصريين المصريين لبشار الأسد ونصر الله، وبأي حجة؟ حجة الممانعة والمقاومة! ومقاومة ماذا؟ قتل الناس بالقصير ويبرود وأنحاء سوريا والعراق ولبنان! وهذا انحراف أخلاقي ونفسي، إن دل على شيء فهو يدل على تضاؤل اعتبارات الكرامة والحرية والإنسانية، فضلا بالطبع عن العربية والعروبة!

وهكذا فإن العرب يعانون أيضا من تأزم ثقافي، بل هم يعانون من تحلل ثقافي، وهوان عن النفس والآخرين. لقد رأيت منهم أناسا معجبين ببوتين أو ساخطين على أوباما، أو على المتطرفين في سوريا. لكنني ما وجدت أحدا من كبارهم ساخطا على بشار أو الإيرانيين. وحجتهم في ذلك أن الإيرانيين أقوياء وموحدون ومصممون فيحق لهم أن ينتصروا، بينما العرب منقسمون وضعفاء فحق عليهم أن ينهزموا.

ولندع هذه المظاهر والظواهر إلى ما تدل عليه. ما عادت الفكرة العربية قوية لا في التقدير ولا في التدبير. وإلا فكيف تجد إيران وتجد تركيا وتجد أميركا وتجد روسيا أنصارا وميليشيات يتحمسون لمصالحها كأنما هي مصالح العرب والمسلمين. ولا يكفي لتعليل ضياع الفكرة العربية التذكير بهزيمة عام 1967. فقد عاد العرب فانتصروا في حرب عام 1973. بيد أن «القوميات» لا تصنعها الانتصارات، ولا تنهيها الهزائم. وإنما يصنعها وعي النخب وعملها. وقد عملت النخب بالفعل في هذا المجال. بيد أن الصعوبات والمشكلات دفعت تلك النخب بعد الوصول للسلطة إلى إيثار المنافع القريبة، والدخول في الترتيبات الأمنية القريبة. فماتت الناصرية بموت جمال عبد الناصر، ومات البعثيون عند الوصول إلى السلطة في سوريا والعراق. وهؤلاء النخبويون القوميون هم الذين أنهوا النظرية القومية، لأنها ما عادت تركب على الأقليات!

قلنا إن التأزم ديني، والتأزم ثقافي عربي. وفي الحالتين لا بد من بذل جهود ضخمة لاستعادة الدين إلى أحضان المجتمعات. ولا بد من بذل جهود ضخمة لاستعادة العروبة إلى المسرح السياسي الشرق أوسطي. وكما أن الحكم الصالح والرشيد يسهل عمليات الإصلاح الديني. فكذلك تدفع مساعي توحيد الجامعة العربية، ومجلس التعاون الخليجي، هاتين المؤسستين، باتجاه استنهاض الانتماء العربي الذي يحاصره الإسرائيليون والإيرانيون والأتراك والروس بحجج وذرائع مختلفة: «ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور».

المصدر: الشرق الأوسط