التحول نحو اقتصاد المعرفة: الإمارات نموذجاً – ضحى فاضل

أخبار

لطالما ركزت النظرية الاقتصادية الكلاسيكية منذ ظهورها في القرن الثامن عشر الميلادي على رأس المال (Capital) والعمل (Labor) كعاملين رئيسيين يحددان مستوى الناتج الاقتصادي. ولكن بعد الحرب العالمية الثانية برزت النظرية النيوكلاسيكية التي أعطت أهمية أكبر للتقدم التكنولوجي والمعرفي كإحدى العوامل التي تدعم النمو الاقتصادي إلى جانب عوامل الانتاج التقليدية (رأس المال والعمل). وقد تعاظم دور المعرفة والابتكار في العقود الأخيرة في دعم النمو الاقتصادي وتعزيز تنافسية الدول. واليوم، أصبح هناك شبه إجماع على أهمية تكثيف الاستثمار في المعرفة عالية الجودة أو بناء ما أصبح يعرف بـ”اقتصاد المعرفة” Knowledge-based Economy كالسبيل الأمثل لزيادة التنافسية واستدامة النمو في عالم اليوم الموسوم بدرجة عالية من العولمة واندماج الأسواق.

 لكن على الرغم من كثرة ترديد مصطلح “اقتصاد المعرفة”، مازالت هناك حالة من الغموض واللبس التي تعيق الكثيرين عن فهم المعنى الذي ينطوي عليه هذا المصطلح ومتطلبات تحقيقه على أرض الواقع. في هذا المقال، أحاول إزالة شيء من هذا اللبس من خلال توضيح مفهوم “اقتصاد المعرفة” كما جاء في أدبيات البنك الدولي وغيرها من الأدبيات. كما أنظر في المحاور الرئيسة التي يقوم عليها اقتصاد المعرفة. و أخيرًا، أقدم لمحة سريعة عن موقع دولة الإمارات في سلم اقتصاد المعرفة وعن أهمية مبادرات مثل مبادرة “الحكومة الذكية” و”المدينة الذكية” ومبادرات دعم الابتكار في تعزيز سعي الدولة للتحول نحو اقتصاد المعرفة كما حددته رؤية الإمارات 2021.

مفهوم “اقتصاد المعرفة” ومتطلبات تحقيقه

يُعرّف اقتصاد المعرفة على أنه الاقتصاد الذي يقوم على تجميع وإنتاج وتوزيع وتوظيف المعلومات والمعرفة (Knowledge) باستخدام رأس مال بشري عالي المهارة وتقنيات متقدمة لدعم تحقيق النمو والتنمية الاقتصادية. أي أن المعرفة والابتكار هي الأساس والقوة الدافعة التي تحرك النمو الاقتصادي وتدعم تنافيسة الاقتصاد. وفي حين نجحت كثير من الاقتصادات المتقدمة في ترسيخ مواقعها كاقتصادات تقوم على المعرفة (وإن بدرجات متفاوتة)، ما زالت معظم الدول العربية (باستثناء بعض دول مجلس التعاون الخليجي) بعيدة عن الإنضمام إلى هذا النادي رفيع المستوى نظرًا لافتقارها أو سوء إدارتها للموارد اللازمة لتحقيق متطلبات هذا النوع من التحول في نموذجها الاقتصادي، كما أن غياب الرؤية الاستراتيجية بعيدة المدى ساهم في تعميق المشكلة.

يضع البنك الدولي أربع مرتكزات رئيسة لبناء واستدامة اقتصاد المعرفة هي:١)  المنظومة الاقتصادية والمؤسسية، ٢) التعليم والتدريب، ٣) منظومة الابتكار و ٤) البنية التحتية للمعلومات والاتصال (ICT).

أولاً، يمكن للمنظومة الاقتصادية والمؤسسية أن تدعم التحول نحو “اقتصاد المعرفة” من خلال توفير بيئة الأعمال المناسبة التي تقل فيها البيروقراطية وتطبق فيها أعلى معايير الحوكمة والتي تقدم الحوافز التي تمكن ريادة الأعمال وتدعم نمو المشاريع الصغيرة والمتوسطة وتشجع على المنافسة وتحمي حقوق الملكية الفكرية.

ثانيًا، يعتبر التعليم النوعي عالي الجودة حجر الزاوية الرئيسي في بناء اقتصاد المعرفة. وهنا يجب التركيز على مواصلة تحسين مخرجات التعليم وسد الفجوة التي تفصل بين احتياجات سوق العمل وما تنتجه مؤسسات التعليم العالي مع إعطاء اهتمام أكبر للتخصصات العلمية (مثل الهندسة والرياضيات والعلوم والتكنولوجيا) والتعليم المهني. كما يجب إصلاح أنظمة التعليم الحالية بحيث تغرس لدى الطالب مهارات التفكير الإبداعي وحل المشكلات وتشجع على الابتكار.

ثالثًا، مواصلة تحديث وتوسيع البنية التحتية للاتصال والتكنولوجيا بحيث تسهل نقل ومعالجة ونشر المعرفة بين مختلف شرائح المجتمع، وبما يفيد في دعم التواصل مع الأفراد والمؤسسات الخارجيين كذلك.

رابعًا، دعم منظومة الابتكار من خلال تشجيع برامج البحث والتطوير والمؤسسات التي تضطلع بها مثل الجامعات والمراكز البحثية والمؤسسات الاستشارية والشركات وغيرها من المؤسسات.

إن التركيز على تطوير هذه المحاور وزيادة الاستثمار فيها من شأنه أن يدعم تحول أي اقتصاد إلى اقتصاد قائم على المعرفة وبالتالي زيادة انتاجيته وخلق مزيد من الوظائف وكذلك تعزيز استدامة النمو فيه و زيادة تنافسيته الإقليمية والعالمية. تجدر الإشارة هنا إلى أن اقتصادات مثل هونج كونج وسنغافورة وكوريا وفنلندا وغيرها من الاقتصادات المتقدمة نجحت في التحول نحو نموذج اقتصاد المعرفة من خلال وضع استراتيجيات وخطط قصيرة وبعيدة المدى أخذت في الاعتبار تلك المحاور الأربعة وما يندرج تحتها من مؤشرات فرعية.

تحول الإمارات نحو “اقتصاد المعرفة”

احتلت الإمارات الترتيب الثاني والأربعين في مؤشر اقتصاد المعرفة لعام 2012 متقدمة بذلك على جميع الاقتصادات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لكنها تستطيع المنافسة على مراكز أعلى في هذا المؤشر خصوصًا بعد تنفيذ المبادرات التي أعلنتها مؤخرًا والخاصة بالتحول نحو “الحكومة الذكية” و”المدينة الذكية” وكذلك خطط تطوير القطاع التعليمي التي تم وضع ملامحها الرئيسية بعد جلسة عصف ذهني اشتركت فيها شريحة واسعة من المجتمع.

فيما يتعلق بتطوير المنظومة الاقتصادية والمؤسسية في الدولة، فقد أظهر كل من مؤشر البنك الدولي وتقرير التنافسية العالمي نتائج جيدة حول أداء مؤسسات الدولة ومدى تطور الإطار التظيمي فيها. لكن العمل على مواصلة تحديث القوانين والتشريعات سيعمل حتمًا على دعم طموح الإمارات في ترسيخ موقعها كاقتصاد قائم على المعرفة.

علي صعيد التعليم، تقع الإمارات حاليًا في المركز الخامس عشر عالميًا من حيث جودة التعليم بحسب تقرير التنافسية العالمي 2013/2014 كما تحتل الترتيب التاسع عشر في مؤشر جودة تعليم الرياضيات والعلوم بينما تحوز هونج كونج وسنغافورة وكوريا على مراكز متقدمة في هذا المؤشر. إن مواصلة تطوير القطاع التعليمي والتركيز على التخصصات المطلوبة في سوق العمل خصوصًا في القطاعات التي تستلزم مهارات فنية عالية مثل الصناعات الفنية المتخصصة والصناعات الثقيلة والتقنيات الحيوية وغيرها من التخصصات العلمية ستسهم في تعزيز موقع الإمارات كاقتصاد قائم على المعرفة.

أما عن تطور البنية التحتية للاتصال والتكنولوجيا، فقد بدأ استثمار دولة الإمارات في تطوير بنيتها التحتية منذ عدة عقود. واليوم تعتبر الدولة من أكثر دول المنطقة تقدمًا من حيث وفرة وسائل التكنولوجيا الحديثة حيث تأتي في الترتيب الثامن على مستوى العالم في هذا المؤشر (بحسب تقرير التنافسية العالمي 2013/2014). كما تحل الإمارات في الترتيب الرابع عشر من حيث نسبة مستخدمي الإنترنت إلى إجمالي عدد السكان.

 ومؤخرًا، جرى إطلاق عدة مبادرات حكومية منها مبادرة “الحكومة الذكية” التي تهدف إلى توفير الخدمات الحكومية على شكل تطبيقات للهواتف الذكية وكذلك مبادرة تحويل دبي إلى “مدينة ذكية” من خلال استراتيجية تتضمن ستة محاور أساسية و100 مبادرة في النقل والمواصلات والبنية التحتية والكهرباء والخدمات الاقتصادية والتخطيط العمراني بالإضافة لتحويل 1000 خدمة حكومية إلى خدمات ذكية خلال الثلاث سنوات القادمة. إن من شأن هذه المبادرات أن تعزز من ترتيب دبي والإمارات عمومًا في مؤشرات وسائل الاتصال والتكنولوجيا وتدعم طموحها للتحول نحو اقتصاد قائم على المعرفة.

أما عن تشجيع الابتكار، فإن دولة الإمارات تصنف حاليًا على أنها اقتصاد قائم على الابتكار(Innovation-driven) بحسب تقرير التنافسية العالمي حيث تحتل المركز التاسع والثلاثين على مؤشر “القدرة على الابتكار”. كما أنها تحتل الترتيب الرابع والثلاثين في مؤشر”جودة المؤسسات البحثية” والترتيب السادس والأربعين من حيث عدد “براءات الاختراع المسجلة”. إن العمل على دعم المؤسسات البحثية ورفدها بالتمويل اللازم للقيام بمشاريعها البحثية وكذلك العمل على تعزيز الشراكة بين مؤسسات القطاع الخاص والجامعات والمراكز البحثية سيكون لها بالغ الأثر في تعزيز روح الابتكار في المجتمع وتحسين موقع الإمارات على مؤشر الابتكار العالمي.

 وفي هذا السياق، قد جرى مؤخرًا إطلاق عدد من المبادرات الطموحة التي تهدف إلى خلق بيئة مشجعة على الإبداع والإبتكار منها على سبيل المثال المبادرة التي أطلقتها جامعة الإمارات والخاصة بإنشاء أول صندوق لدعم الإبتكارات والإبداعات الطلابية، وكذلك  إنشاء مدينة الابتكار التقني بكليات التقنية العليا لتكون مركزًا متكاملاً للتعليم والبحث ونقل التقنيات، ومهرجان أبوظبي للعلوم الذي أطلقته “لجنة أبوظبي لتطوير التكنولوجيا”، ومركز الابتكار والريادة بجامعة أبوظبي. حتمًا، سيكون لهذا النوع من المبادرات أثر إيجابي في دعم روح الابتكار في الدولة خاصة من جهة تعزيز دور الجامعات الطبيعي كحاضنة للأفكار الخلاقة والابتكارات.

الخاتـمـة

لقد وعت دولة الإمارات منذ وقت باكر لأهمية تحويل اقتصادها من اقتصاد ريعي Rentier Economy إلي اقتصاد  قائم على المعرفة Knowledge-based Economy لما لذلك من أهمية بالغة في زيادة تنافسيتها وتعزيز موقعها كمركز إقليمي وعالمي رائد في الأعمال وبالتالي جذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية إليها.

 وضعت دولة الإمارات ملامح اقتصاد المعرفة الذي تطمح لتحقيقه في خطتها الاستراتيجية “رؤية الإمارات 2021” والتي ركزت فيها على أهمية مواصلة تحسين رأس المال البشري والاستثمار في التعليم النوعي وكذلك مواصلة تطوير بيئة الأعمال لديها من خلال تحسين البيئة التنظيمية وتشجيع ريادة الأعمال وتشجيع بيئة الابتكار عبر التركيز على دعم مؤسسات البحث العلمي إضافة إلى مواصلة تطوير البنية التحتية للاتصالات والتكنولوجيا. وسيساهم العمل على تنفيذ “رؤية الإمارات 2021 التي غطت جميع محاور تطوير اقتصاد المعرفة في تعزيز موقع الإمارات في مؤشرات التنافسية العالمية الذي تتقدم فيه حاليًا على دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. لكن، بما أن طموح الدولة هو التنافس على المراكز الأولى عالميًا، فإن العمل لن يتوقف على جميع الصعد حتى يتحقق لها هذا الطموح المشروع!

 خاص لـ ( الهتلان بوست )