التغريدة الجنوبية من ييل الأمريكية (2) : مشاهدات المستعرب العربي !

أخبار

– بعد ظهيرة يوم الأربعاء التاسع و العشرين من أوغست / آب ٢٠١٢ ، طرق البروفيسور ديمتري غوتاس باب حجرة القراءة الخاصة بقسم الدراسات العربية و الإسلامية في الطابق الخامس لمبنى ستيرلينغ ميموريال لايبرري ، المكتبة التي تكمل عمّا قليلٍ عامها الرابع و الثمانين مشكّـلةً أقدم و أضخم مكتبات جامعة ييل و ثاني  أكثر المكتبات الأكاديمية في أمريكا الشمالية ثراءً بمصادر المعلومات .

– تتوسط الحجرة صورة شخصية محاطة بإطار كلاسيكي ذي لونٍ بني مذهب . صاحب الصورة يمثل الأب المؤسس لتقاليد قسم الدراسات العربية و الإسلامية في ييل : فرانز روزنتال ، مترجم مقدمة ابن خلدون ، أو ” شيخنا ” كما يحب أن يدعوه ديمتري غوتاس ، شيخي أنا و بقية زميلات و زملاء القسم الذين لا يتجاوزون سبعة طلاب يتوزعون على ثلاث قارات ، ينتمون إلى ثلاث ديانات ، يتكلمون أكثر من سبع لغات ، و يـُـطلـَـقُ عليهم لقبٌ واحد : ” المستعربون الجدد ” .

– شهدت الحجرة اللقاء الأسبوعي لمادة (مدخل إلى الدراسات العربية و الإسلامية ) التي تــقَــدَّم للمنضمين حديثاً إلى برنامج الدراسات العليا بهدف تزويدهم بنظرة بانورامية عن الثقافة العربية / الإسلامية : لحظاتها التأسيسية ، شخصياتها المحورية ، و أفكارها المركزية ، انطلاقاً من وجهة نظر تقاليد البحث العلمي الغربي التي لا تكف عن التحول الداخلي الخلاق اعتماداً على آليات نقدية تنظر إلى تاريخ العلم بوصفه تاريخ أخطاء العلم ، على حد وصف فيلسوف المعرفة و الخيال الشعري ، الظاهراتي الفرنسي غاستون باشلار .

– كثيراً ما يكرر البروفيسور غوتاس أن الرؤيتين الأكاديميتين الغربية و العربية تقتربان من الاتفاق على أساس مشترك للمنهجية البحثية ، في ضوئه يتبدى التراث العربي إسهام حضارة عظيمة لكنها بشرية الطابع . لها من تاريخ البشر سمته الزمنية بإكراهاتها و تحيزاتها و تركيبيتها التي تستعصي على الرؤى التعميمية . لها أداة لغوية عربية ، أساساً ، نشطت إبداعاً و تأويلاً و ترجمةً ، لتؤدي دوراً محورياً في حركة الثقافة العالمية في ما يسميه تحيز المصطلح الغربي : العالم الوسيط .

– يعتبر غوتاس عراب البحث في حركة الترجمة العربية التي نشطت في بدايات العصر العباسي ، و كتابه المترجم إلى العربية بهذا الخصوص يحفر بعمق و شمولية في دوافع هذه الحركة و آثارها , يدفعه اهتمام كبير بتحولات الفلسفة اليونانية في السياق العربي/الإسلامي مستفيداً من كون اليونانية لغته الأم و مرتكزاً على الآليات الفيلولوجية في تحقيق النصوص و استيعابها .

– اعتماداً على دراسة وافية للنص الفلسفي العربي في مصادره الأولية و في ضوء علاقاته بالنصوص الفلسفية اليونانية و من ثم السريانية , يرفض غوتاس الصور النمطية التي أسسها بعض أعمدة الاستشراق القديم عن الثقافة العربية الفلسفية بوصفها مجرد تعليقات على هامش الفلسفة اليونانية . يرفض أيضاً اتجاه بعض المفكرين العرب المعاصرين إلى تقسيم الفلسفة العربية إلى مشرقية و مغربية تتفوق فيها الأخيرة على الأولى لابتعادها عن إشكالات المشرق الإسلامي في التوفيق بين الإيمان و البرهان . دراساته المطولة لابن سينا ، فيلسوف الحكمة المشرقية ، أوصلته إلى اعتباره ذروة إنتاج الفلسفة العربية ، و ليس ابن رشد كما تشير الفكرة الشائعة .

– اللغات التي يتقنها غوتاس مكنته من الوصول إلى نتائج غير مسبوقة . من هنا ، يشغل تعليم اللغات حيزاً معتبراً في برامج الدراسات العربية في الجامعات الأمريكية ، و أساس ذلك أن التنوع اللغوي لمصادر الباحث يمكنه من إحاطة أشمل بالموضوع و يصبغ رؤيته النقدية بلون عالمي ؛ فاللغات المتنوعة هي أنظمة تفكير متنوعة تصنع من المعلومة نفسها نقيضها المعرفي .

– على الدارسين الجدد غير المتقنين للفرنسية البدء بدراستها استعدادًا لتجاوز اختبار القراءة بوصفه متطلباً رئيسياً للبرنامج . بعد تجاوز الفرنسية يتعين بدء التحضير لاختبار الألمانية ؛ فثلاث لغات أوروبية بالكاد تفي بغرض مواكبة الحراك البحثي العالمي . مع الإنجليزية ، لغة الدراسة ، و العربية ، لغة المصادر الأولية ، يختار الدارس لغة شرقية ثانية تتواءم و اهتماماته البحثية . الخيارات تشمل الفارسية و التركية و كذلك العبرية .

– معظم الزملاء الغربيين يتقنون على الأقل أربع لغات قبل بدء البرنامج ، و الخامسة يبدأ تعلـُّـــمُـها في الفصل الدراسي الأول . استيعابهم للنص العربي ليس على درجة واحدة بطبيعة الحال ، و لكن الملاحَظ هو شبه الانعدام للرقيب الداخلي لدى الدارس الغربي ، ما يكسبه حرية عالية في اجتراح الأسئلة و اقتراح الإجابات أثناء قراءة النص العربي .

– نتيجةً لكون ذخيرته اللغوية العربية فيلولوجيةً مستمدةً من الثقافة العالمة العربية كما تفسرها القراءة الغربية ، يتمتع المستعرب بأفق توقع لا يتفق بالضرورة مع أفق توقع الدارس العربي . هذا الانفصال عن الواقع اللغوي العربي المتحول باستمرار يصبغ تأويلات الباحث الغربي بألوان الجدة و أحياناً الغرابة في مقابل طمأنينة المفاهيم لدى الباحث العربي ، و التي يحولها التقادم إلى عوائق معرفية .

– في أقسام الدراسات العربية و الإسلامية أنت تعايش بشكل يومي الطريقة التي يـُـشكـِّـلُ بها البحث العلمي الغربي رؤيته للثقافة العربية ، و يتيح لك الاحتكاكُ المباشر مع منتجيها فهمَ أسسِ و ميكانيزمات هذه الرؤية و الاستفادة من اختراقاتها المعرفية مع تفهم تحيز جهازها الاصطلاحي و اختلاف مصادر معرفتها اللغوية .

– لك أن تتصور كيف سيكون الأمر حين يشكل الابتعاث إلى هذه الأقسام جزءاً جوهرياً من استراتيجية تهدف إلى فهم الذات , بعيداً عن أوهام الاستثنائية التاريخية ، و إلى المثاقفة مع الآخر, بعيداً عن هموم الدعاية السياسية . بالبحث العلمي لا بالآيديولوجيا , سيقدم المستعرب العربي للقارئ الغربي في المستقبل نسخة جديدة من ترجمة مقدمة ابن خلدون !

خاص   لـــ (الهتلان بوست)