عماد المديفر
عماد المديفر
كاتب سعودي

الدبلوماسية الرقمية .. القوة الناعمة الجديدة

آراء

تأتي هذه المقالة استكمالا لسابقتها حول “المعرفات الوهمية، والحروب الرقمية”، تلك الحروب المعنية، بالدرجة الرئيسة، بالسيطرة على العقول والقلوب، على الإنسان، كيف يفكر، وماذا يفعل، وسيفعل، أكثر من كونها حروبا لعمليات التجسس المباشر، أو التخريب للبرمجيات وخلافه، وإن كانت هذه الأخيرة داخلة ضمنها، لكن ما يعنينا في هذا المقام هو ما ركزت عليه هيلاري كلينتون في كتابها الأخير “خيارات صعبة” بوصفها لهذه الحروب الرقمية الموجهة للتحكم في الوعي الشعبي في الدول الأجنبية، وتسيير الرأي العام فيها بما يخدم الأجندة الأمريكية بأنها “دبلوماسية رقمية”!

و”الدبلوماسية الرقمية” مصطلح، أصنفه بأنه دعائي للتغطية والتلطيف على الاسم الحقيقي العدائي، المرعب، والأكثر مناسبة للفعل المقصود، ألا وهو “الحرب الرقمية”. وقد يسأل أحدهم: لماذا تسميها حربا، فيما تراها هيلاري أنها نوع من أنواع العمل الدبلوماسي؟!

الحقيقة أن “الحرب” ليست سوى أداة من أدوات السياسة تماما كما هي “الدبلوماسية”. والحرب أنواع، فهناك الحرب العسكرية المتعارف عليها – وهي بالمناسبة نوعان: حرب عسكرية عنيفة، وحرب عسكرية غير عنيفة، كالإعلان عن صفقات التسليح، والمناورات العسكرية المعلنة، والتجارب الصاروخية وخلافها-، وهناك الحروب التجارية، أو الحرب الاقتصادية، والحرب الدعائية، والحرب الأيديولوجية – وإن كان بعض الباحثين يصنفها ضمن الحرب الدعائية – وغيرها، إلا أننا في هذا القرن الحادي والعشرين أصبح لدينا نوع جديد من الحروب، يدعى بـ”الحرب الرقمية” أو الـ “Digital War”!

هذه “الحرب الرقمية” أستطيع أن أقسمها إلى قسمين اثنين: الأول/ تلك التي تستهدف البرمجيات والتطبيقات وقواعد البيانات وشبكات الاتصالات والأجهزة الحاسوبية، بما فيها أجهزة وأنظمة الملاحة، والطاقة، والمياه، والمصارف وغيرها. والتعامل مع هذه الحرب تعامل تقني، هندسي، برمجي، رياضي، بحت.

أما القسم الثاني – وهو الأخطر- فهو الذي يستهدف الوعي الإنساني، يستهدف الإدراك البشري، يستهدف الرأي العام الشعبي .. وهذا النوع كان في ما مضى “دعائي” بحت، تحت ما يسمى بحقل “الإعلام السياسي” .. أما اليوم، فقد أضحى تخصصا مزيجا بين “الدعاية” أو الـ”Propaganda”، وعلوم الحاسب والمعلومات “Computer and Information Since” – وهو ما حدا بي للجمع بين هذين التخصصين: (علوم الحاسب والمعلومات) في درجة البكالوريوس، و(الدعاية السياسية والإعلام) في درجة الماجستير-.

وكنت قد تطرقت الأسبوع الماضي إلى ما قامت وتقوم به وزارة الخارجية الأمريكية من تخطيط، وتبن، وتنفيذ، لعدد من الدورات التدريبية التقنية لمن تسميهم “الناشطين الاجتماعيين” لتدريبهم على الاستخدام الأمثل لوسائل التواصل الاجتماعية عبر شبكة الإنترنت، وتلقنهم الدروس في كيفية “التخفي” عن الأجهزة الأمنية في بلادهم، و”الهروب” ومحو الأثر كي يصعب تتبعهم، وعلى تنمية قدراتهم ومهاراتهم في “اختراق الجدر النارية”، وتجاوز “الحجب” و”الرقابة”، وصولا إلى “التخطيط ورسم المظاهرات الشعبية، والتنسيق بين الحشود المتظاهرة لمواجهة الحملات الأمنية خلال وقت الأزمات” – In real time during crises- حيث تشرح كلينتون في كتابها الأخير الذي بين يدي، تشرح جزءا مهما من سياسات دولتها المتبعة لتحقيق ما تراه يخدم المصالح الوطنية الأمريكية – ولا تنس أبدا عزيزي القارئ الكريم وأنت تقرأ هذه المقالة، مشروع “الفوضى الخلاقة” في المنطقة، الذي تبنته صراحة وعلانية الولايات المتحدة، الذي وصفه خادم الحرمين الشريفين باسمه الحقيقي “فوضى الضياع”، وأستحضر أمامك أيضا ما يسمى بمشروع “الشرق الأوسط الجديد” وما جرى تسويقه بأنه “الربيع العربي”- إن هذه الجهود التي تحدثت عنها كلينتون في كتابها التي تقول أنها تخولهم “للتكيف الأمثل مع القرن الـ 21” تنحصر في استغلال شبكة الإنترنت لتحقيق اختراقات فاعلة داخل الدول الأجنبية عبر شعوبها، وتسييرهم، بما يتسق والأهداف الاستراتيجية الأمريكية، وذلك عبر صناعة عدد من “النجوم الشعبيين”، أو تجنيد وتوظيف من لهم شعبية أصلا، وقبول داخل بيئاتهم، أو من تسميهم كما أسلفت “النشطاء”، سواء أكانوا ناشطين شبابا وفتيات، أو حتى ممن يعتبرون من “الدعاة” و”الحقوقيين” ونحوهم.

تقول كلينتون: “هذه الأجندة التقنية أضحت جزءا من الجهود التي تبذلها وزارة الخارجية، والسياسة الخارجية الأمريكية للدخول في القرن الحادي والعشرين … إنها القوة في العالم الشبكي”، فعلى ماذا تعتمد هذه القوة في “العالم الشبكي” يا ترى؟!

إن “مفهوم الشبكية هذا مرتبط ببنية شبكة الإنترنت ذاتها، إنها أكبر من مجرد كونها شبكة إنترنت” إن هذا المفهوم يتعاطى، ويتفاعل، ويشير إلى “التعاون الجماعي، والتواصل بين أفراد المجتمع” داخل مجموعاتهم المتجانسة، أو التي تقم بتكوين وتكييف هذا التجانس فيما بينها، وصولا حتى إلى القدرة على إدارة “الصراع بين التيارات داخل المجتمعات. فعالم الشبكات هذا يتميز بالتنوع والعالمية” أي أنه يربط بين المجموعات المتجانسة عالميا متجاوزا الحدود، حتى وإن كانت هذه المجموعات في دول مختلفة، ما يمكن من “التوسعية، والفرص من خلال هذا الترابط العالمي” .. إنها العولمة بكل تجلياتها.

أقرت كلينتون إذن بأن “الأجندة التقنية” هي في قائمة أولويات وزارتها السابقة، لكن السؤال الذي يتبادر للأذهان، أي من أقسام وزارة الخارجية الأمريكية يتولى التعاطي مع مثل هذه العمليات الحساسة والخطيرة؟

لقد أنشأت الولايات المتحدة عام 1953 وبقرار من الرئيس “أيزنهاور” وكالة المعلومات الأمريكية المتخصصة بممارسة العمليات الدبلوماسية الشعبية الأمريكية، التي تم إنشاؤها تحت مسمى هيئة خدمات المعلومات الأمريكية U.S.Information Services، ثم قام الرئيس الأمريكي “جيمي كارتر” بتغيير اسمها عام 1978 إلى هيئة الاتصال الدولي International Communication Agency، وفي عام 1982 قام الرئيس “ريجان” بإعادة الاسم مرة أخرى ليصبح “الوكالة الأمريكية للمعلومات”، وهو ما يدلل بشكل جلي على الاهتمام المباشر والمراجعة المستمرة لعمل هذه الوكالة من أعلى سلطة في الدولة، لما لها من فوائد ملموسة في عمليات اتخاذ القرارات، وتنفيذ السياسات على الأرض، إذ يأتي في مقدمة أهداف تأسيس هذه الوكالة حسب ما هو معلن: “التعريف بالقيم الأمريكية وضمان معرفة الشعوب لها، وشرح السياسات الأمريكية بصورة مفهومة لشعوب الدول الأخرى، وعزل المتطرفين الكارهين للولايات المتحدة، وتقديم النصح للرئيس الأمريكي والسياسيين بشأن اتجاهات الجمهور في الدول الأخرى، خاصة تلك التي لها تأثير مباشر في فاعلية السياسة الأمريكية، ومساعدة أفراد الشعب الأمريكي على بناء علاقات طويلة المدى مع أقرانهم في الدول الأخرى، ومحاولة الوصول إلى مفاهيم مشتركة عبر ممارسة الدبلوماسية الشعبية “الدبلوماسية العامة” والتوجه بالحـوار نحـو القطــاعـات غيـر الحكومية”. وقد جرى إدماج هذه الوكالة فيما بعد بوزارة الخارجية الأمريكية لأهداف لوجستية، تساعدها على تخطي الكثير من العقبات. ويبدو أنها المعنية بما تسميه كلينتون “الدبلوماسية الرقمية”. ألقاكم الأسبوع المقبل، فإلى اللقاء.

المصدر: الاقتصادية
http://www.aleqt.com/2015/01/07/article_920732.html