جمال بنون
جمال بنون
إعلامي وكاتب اقتصادي

الطريق الذي اختارته دبي

آراء

إذا كنت تسير في شارع الشيخ زايد في إمارة دبي بعد السابعة مساء، ستضيء لك الأبراج السكنية العالية بالأضواء الملونة، التي تعلو هذه المباني، واللوحات الدعائية والإعلانية التي تملأ جوانب الطريق، وأسماء كبرى الشركات العالمية التي تتخذ من هذه الإمارة مقراً إقليمياً لها في المنطقة، فيما البعض من هذه اللوحات تحمل صور المشاهير من الممثلين والشخصيات التجارية، الذين يزورون دبي لإقامة فعاليات، أو المشاركة في إحدى المناسبات المقامة، وفي مسافة قصيرة من جسر القرهود المتجه إلى منطقة جبل علي تنتشر المئات من الأبراج الفندقية والتجارية، في مقدمها برج خليفة أعلى مبنى في العالم، ستستمع بهذا المنظر في الليل وكأنها قصة رومانسية يتناوب في سردها كل برج شاهق، وتتذكر شوارع عالمية مثل أورشا رود في سنغافورة وبرود واي في نيويورك، من حيث انضباط حركة السير والنظام والترتيب، لا يمر عام من دون أن تعلن حكومة دبي منجزاً حضارياً جديداً يضاف إلى سكان هذه الإمارة، وحينما تحتفل الإمارات العربية المتحدة في كانون الأول (ديسمبر) المقبل بمرور 43 عاماً على تأسيسها، إذ بدأت معظم المحال التجارية والمباني تعلق أعلام الدولة على أسطح المنازل أو في واجهتها وداخل المحال، فهي تحتفل بمسيرة إنجازات تحققت خلال أعوام قليلة، واستطاعت أن تضع لنفسها مكانة على خريطة العالم.

الأسبوع الماضي أطلقت هيئة الطرق والمواصلات في دبي خدمة الترام، وهو أحدث وسيلة مواصلات تدخل الخدمة لتسهل على سكانها فرصة التنقل، وتضع أمامهم خيارات متعددة، من سيارات أجرة وحافلات وقطار، وها هي الآن تطرح الترام كوسيلة سهلة آمنة، وعلى رغم المسافة القصيرة التي سيقطعها في مرحلته الحالية، وهي 11 متراً موزعة على 11 محطة، ويخدم المناطق ذات الكثافة السكانية في الأحياء الراقية حالياً، مثل منطقة المارينا وشارع الصفوح ومدينة دبي للإعلام وقرية المعرفة.

إطلاق خدمة الترام دشنه ولي عهد دبي الشيخ حمدان بن محمد برفقة مسؤولين ومهتمين وبمشاركة المواطنين، الذين اصطفوا على جنبات طريق الترام.

دعونا نسأل هل كانت دبي بحاجة إلى هذه المشاريع التي بلغت إلى حد الخيال، أم أنها تريد أن تقدم للدول الأخرى دروساً في التنمية والتحدي واستثمار البشر؟

المشكلة ليست في دبي، بل إن حاكمها الشيخ محمد بن راشد لديه أحلام وتطلعات تفوق العاملين معه، وأحياناً يضعهم أمام الأمر الواقع، يطرح لهم فكرة ويطلب منهم أن يطوروها، لتصبح منتجاً فاعلاً، على سبيل المثال القرية العالمية التي تحتفل بالموسم الـ19، تحولت من مشروع ترفيهي إلى تثقيفي وتعريف بكل دول العالم منتجاتها وثقافتها، وأصبحت محطة مهمة في أجندة السياح الذين يزورون دبي، فضلاً عن فعاليات ومناسبات أخرى، أصبحت ماركة مسجلة باسم هذه المدينة، مثل معرض ستي سكيب جلوبال أحد أهم المعارض للمنتجات العقارية، وجايتكس معرض الحواسب والإلكترونيات، الذي يعد أحد أهم المعارض التي تشارك فيها كبرى الشركات، وقبل عامين أطلقت الحكومة قمة مفتوحة للخدمات الحكومية التي تقدم للمواطنين، وكان العام الأول مخصصاً لمناقشة القضايا المحلية وتطويرها، إلا أنه في العام التالي من هذه القمة، وجهت الدعوة للعديد من المؤسسات الحكومية في العالم العربي للمشاركة فيه، وأصبحت اليوم واحدة من أهم المؤتمرات العربية التي تناقش الخدمات الحكومية للمواطنين وفرص تطويرها، ومنتدى الإعلام العربي الذي أصبح علامة فارقة في صناعة المؤتمرات وجائزة الصحافة العربية.

قصة دبي التنموية حكاية تُروى وتحدٍ غريب، أعلنت قبل 40 عاماً انتهاء النفط لديها، ولم تنتظر طويلاً، غيرت خريطة التنمية بشكل لا يؤثر فيها، وتحولت إلى صناعة العقار والخدمات والطيران والنقل، وفي مقدمها صناعة الإنسان، لتكون أحد مواردها الرئيسة، وتحولت إلى مدينة خدمات وتقديم التسهيلات، ركزت على الوقت وأهميته. صناعة الخدمات جعلتها تستقطب صناعة الإعلام من خلال مدينة دبي الإعلامية، ومدينة المعرفة والمنطقة الحرة، ليس هذا فحسب، بل جعلتها في مقدمة اهتمامات رؤوس الأموال سواء الأجنبية أم العربية، وفتحت هذه المشاريع آفاق عمل ليس للمواطنين والمواطنات، بل إنها أحد أهم الأماكن التي يرغب العالم أجمع في زيارتها أو العيش فيها أو اكتشاف معالمها.

من خلال زياراتي المتكررة لهذه المدينة والإقامة فيها لأعوام، اكتشفت أن الناس على رغم زيادة الرسوم التي يدفعونها، سواء للسير على الطرقات الطويلة وهي رسوم «سالك»، أم دفع رسوم مواقف السيارات، وعلى رغم تشدد الجهات الحكومية في تطبيق الأنظمة والقوانين، وعلى رغم أن سعر البنزين يعد الأغلى خليجياً، إلا أن نسبة الحماية مرتفعة تجاه المضايقات والتحرش، ولا يجرؤ أحد أن يتعرض لأحد أو يسيء إليه، لأن القانون وتطبيق النظام صارم جداً.

دبي خرجت عن مسار بقية المدن العربية والخليجية، واختارت لنفسها طريقاً مختلفاً تماماً، هناك مدن تحاصرها نقص الخدمات والمشاريع، وبعضها تعاني عدم وجود بنى تحتية، وأخرى لا تزال تقف بين المدن الأخرى، إنما تقف هزيلة. المدن العربية أخذت مساراً، ودبي أخذت مساراً مختلفاً، وخرجت عن المألوف، لم تركض خلف الأرقام القياسية ولا حتى الإنجازات العالمية، كانت تعمل من أجل أن تكون مميزة من بين كل المدن، وتحقق لها ما أرادت، واليوم حينما تبلغ الإمارات العربية المتحدة عامها الـ43 فهي لن تحتفل بالاتحاد فقط الذي أسسه المغفور له الشيخ زايد آل نهيان، بل في كل عام تضيف منجزاً حضارياً لخدمة الإنسان، وإذا كان ترام دبي هو رقم إضافي لتنمية دبي، فالعام المقبل يحمل مشروعاً جديداً سيدخل القائمة، والصحيح أن الإمارات لا تريد أن يمر عام من احتفالها بالعيد الوطني من دون أن تجهز مشروعاً ينافس كل المدن العربية، ليصبح رقماً مهماً في قائمة التنمية التنافسية.

المصدر: الحياة
http://alhayat.com/Opinion/Jamal-Bnoon/5738579