خالد الدخيل
خالد الدخيل
كاتب و محلل سياسي سعودي

المناورة وزيارة أوباما للرياض

آراء

لا بد من أن المناورة العسكرية الأكبر في تاريخ السعودية الأسبوع الماضي لفتت أنظار كثيرين. شملت جميع أفرع القوات المسلحة، ودارت عملياتها في مناطق ثلاث من مناطق المملكة في وقت واحد، وبتوجيه من مركز واحد للقيادة في العاصمة الرياض.

كانت المناورة سابقة، ليس فقط من حيث الحجم، بل من حيث إدارة هذه المناورة في ثلاث مناطق تفصل بينها مئات، بل آلاف الكيلومترات. الرسالة التي تنطوي عليها، في هذا التوقيت الإقليمي المضطرب، واضحة، والطرف المعني بهذه الرسالة واضح أيضاً. هل ترى المملكة بأن خطراً ما بدأ يلوح في الأفق، وأن المناورة هي لوضع القوات في أجواء الحرب قبل حدوثها، أم أن الظرف الإقليمي وما يحبل به من تطورات، وصل إلى مرحلة ربما يغري بعضهم بمغامرة؟

مهما يكن، تحمل المناورة رسالة بأن المملكة مستعدة لأي ظرف، ولمواجهة أية مغامرة محتملة. ومع أهمية هذه الأسئلة، إلا أنني لم أتفاد هاجس أن لهذه المناورة علاقة ما بزيارة الرئيس الأميركي أواخر آذار (مارس) الماضي للرياض.

بحجمها وسابقتها وتوقيتها توحي المناورة أن الرياض لم تكن مطمئنة لما جاء به الرئيس الأميركي إليها. لا نعرف ما الذي دار في قمة الرياض، لكن الرئيس أوباما أجرى ما بين 2012 و2014 ثلاثة أحاديث مطولة مع اثنتين من أهم المجلات الأميركية، «نيويوركر» و«أتلانتيك»، وثالثة مع موقع «بلومبرغ فيو» الأميركي أيضاً في 27 شباط (فبراير) الماضي، قبل زيارة الرئيس بشهر. واحتل موضوع الخليج وإيران وسورية بكل أبعاده ومستتبعاته مساحة بارزة في كل الأحاديث الثلاثة. الفكرة الرئيسة التي تتكرر في كل أحاديث أوباما أن أحداً لن يخسر شيئاً بمحاولة وقف التسلح النووي الإيراني من طريق التفاوض والاتفاقات الدولية، وليس العمل العسكري، ولا أظن أن أي طرف إقليمي أو دولي، ما عدا إسرائيل، يختلف مع الرئيس في هذا الخيار، ومن ثم فالمشكلة ليست في الخيار ذاته، وإنما في الرؤية السياسية للرئيس أوباما التي تؤطر هذا الخيار، وهي رؤية تبدو متناقضة ومرتبكة إلى حد أنها تقترب من حد المغامرة. هل استشعرت الرياض شيئاً من ذلك في كلام الرئيس الأميركي؟ لا أعرف. لكن لماذا لا نتعرف إلى أهم عنصرين في رؤية أوباما؟

أولاً، يصف الرئيس الأميركي طبيعة النظام الإيراني وطبيعة دوره، ثم ينتظر منه أن يتصرف على نحو مغاير لتلك الطبيعة. في أحاديثه الثلاثة لا يدع أوباما مجالاً للشك في أنه يعتبر النظام الإيراني نظاماً دينياً (ثيوقراطياً) ويدعم تنظيمات إرهابية ويؤجج النعرات الطائفية في دول الجوار، ما يعني أن «الجمهورية الإسلامية» لا تستطيع التعبير عن نفسها ولا ممارسة دورها من دون هذه المرتكزات، لكن أوباما ينتظر من إيران أن تتخلى عن كل ذلك وأن تتصرف بشكل عقلاني. هل يمكن دولة دينية تتأسس دستورياً على انتمائها الطائفي أن تكون عقلانية؟ ما معنى العقلانية في هذه الحال؟ ربما يكون معناها في نظر الإيرانيين التخلي موقتاً عن امتلاك السلاح النووي في مقابل التسليم بالطبيعة الطائفية لنظامهم السياسي، وتبعاً لذلك طبيعة دورهم وتحالفاتهم الإقليمية، هل يقبل أوباما بهذا التعريف للعقلانية ومستتبعاته؟

العنصر الثاني في رؤية الرئيس الأميركي يوحي بإجابة على السؤال السابق. يتعامل مع الأزمة السورية بوصفها ورقة تفاوضية مع الإيرانيين. وهذا ما كشف عنه في حديثه لمجلة «أتلانتيك» في 12 مارس 2012، فعند سؤاله آنذاك عما إن كان هناك ما يمكن الولايات المتحدة أن تفعله لتسريع الانتقال بسورية إلى نظام تمثيلي ومستقر، جاءت إجابته هكذا: «في الوقت الذي ليس هناك تعاطف كبير مع إيران وحليفها الحقيقي الوحيد (يقصد الأسد) يقترب من الهزيمة، هل نريد عملاً يصرف الانتباه عن ذلك ويعطي إيران فرصة تصوير نفسها على أنها ضحية، وبالتالي يشتت التركيز عن القضية المركزية، وهي سلاحها النووي؟».

تصوير الرئيس للموقف الأميركي من سورية على هذا النحو يؤكد أن إدارته لا تعتبر هذه القضية مركزية بالنسبة إلى واشنطن، وتتعامل معها بوصفها ورقة ضغط تفاوضية مع إيران. لكن مسار الأحداث منذ 2012 وحتى الآن يشير إلى أن نظام الأسد يحقق مكاسب، بما يجعل منه ورقة ضغط في يد إيران على أوباما وليس العكس. كيف؟

لأن موقف أوباما مضطرب، فهو من ناحية يريد سورية ورقة ضغط، لكنه من ناحية أخرى يرفض، أو يتردد في أحسن الأحوال، في دعم المعارضة السورية، ويلتزم صمتاً مطبقاً عن الدعم الروسي والإيراني اللامحدود لنظام الأسد، أي أنه لا يريد الإمساك بالورقة السورية. يمكن القول إن أوباما يضع سورية وحربها الأهلية حيث تريده روسيا وإيران، أي ضمن الاستراتيجية الإيرانية والروسية، وليست الإقليمية. بعبارة أخرى، يتعامل أوباما مع سورية حتى الآن آخذاً في الحسبان الاعتبارات والحساسيات الروسية والإيرانية (بسبب المفاوضات النووية) وليس الاعتبارات والتوازنات الإقليمية، بما في ذلك اعتبارات ومصالح حلفاء واشنطن. ومع الأزمة الأوكرانية، سيجد أوباما نفسه بمثل هذه السياسة، مضطراً إلى مراعاة أكثر لروسيا في سورية، حتى لا تندفع كثيراً في أوكرانيا.

في حديثه لمجلة «نيويوركر» الأميركية في كانون الثاني (يناير) الماضي، أي بعد عامين، قال أوباما: «إذا ما تمكنا من أن نجعل إيران تتصرف بطريقة عقلانية، بحيث لا تمول تنظيمات إرهابية، ولا تحاول تأجيج النعرات الطائفية في البلدان الأخرى، ولا تطور سلاحاً نووياً، بإمكانك أن ترى توازناً ينشأ بين الدول السنية وإيران (الشيعية)…». على خلفية ذلك سأله مندوب «بلومبيرغ فيو»، هل تتفهم أن دول الخليج لا تشعر بالارتياح أمام رؤيتك الفلسفية هذه؟»، وكانت إجابته أنه يتفهم ذلك، في ضوء «أن إيران ولأعوام الآن، لاعب دولي غير مسؤول…». ثم يستدرك بأن المجتمعات تتغير. وحتى لو افترضنا، يقول الرئيس «إن إيران لن تتغير، فهي دولة ثيوقراطية، ومعادية للسامية، وللسُنة، وأن قيادتها الجديدة لمجرد الاستعراض، فإن تمكُّننا من التأكد بأنها لا تملك سلاحاً نووياً يحقق لنا على الأقل منعهم من الاستئساد على جيرانهم».

وهنا يتعزز التناقض بين هدف أوباما لمنع إيران من امتلاك سلاح نووي، ورؤيته للنظام الإيراني ودوره في المنطقة. ويصل هذا التناقض ذروته في قوله عن الإيرانيين في الحديث نفسه بأنهم «استراتيجيون، وليسوا انفعاليين. لديهم رؤية عالمية، وينظرون إلى مصالحهم، ويستجيبون لمنطق الربح والخسارة». اللافت أن الرئيس قال ذلك في إطار سؤاله عن أيهم الأخطر: التطرف السني أم الشيعي؟ وإذا كان الإيرانيون كذلك، كما يرى الرئيس، فلماذا يريد إقناعهم بأن يكونوا عقلانيين؟ وبالمنطق الفلسفي لرؤية الرئيس، هل يمكن النظام الإيراني أن يكون عقلانياً وهو يتمسك بطبيعته الثيوقراطية، وأدواته الطائفية؟

ماذا يعني ذلك؟ يعني أن إدارة أوباما سلمت بالنفوذ الإيراني في العراق، وربما تسلم به في سورية، وتريد تفاهماً مع طهران، لكن بشرط أن تتخلى عن طموحها النووي. وسياسة التفاهم هذه قديمة تعود إلى سبعينات القرن الماضي عندما غادر البريطانيون الخليج العربي مع انهيار العراق على يد الاحتلال الأميركي والنفوذ الإيراني، وتداعيات الثورة السورية، وقرار أوباما بنقل التركيز الاستراتيجي الأميركي إلى شرق آسيا، ازدادت أهمية هذا التفاهم في نظر الإدارة. يقول أوباما في حديثه إلى «بلومبرغ فيو»: «إن تحولات تحدث في المنطقة، وهي تحولات فاجأت كثيرين. التغير دائماً مخيف، لكن ما نقوله لشركائنا إنه يجب علينا أن نستجيب للتحول، وأن نتكيف معه». هذا كلام واضح. من بين محددات موقف إدارته هو التغير الاستراتيجي الذي حصل ويحصل في المنطقة. وأبرز معالم هذا التغير نمو القوة العسكرية لإيران، وطموحها النووي، وانهيار العراق وسورية، واهتزاز الاستقرار في مصر، وتراجع دورها الإقليمي. وكل ذلك يصب في مصلحة إيران.

رؤية أوباما المرتبكة وسياسة إدارته القديمة الجديدة تفرض على السعودية، باعتبارها الدولة العربية الوحيدة المتماسكة في هذه الظروف المضطربة، أن تستجيب للتغيرات المحيطة. يأتي في مقدم ذلك العملُ على تصحيح الاختلال الذي تسببت به هذه التغيرات، وإعادة التوازن مع إيران. القدرة العسكرية عنصر استراتيجي في ذلك، ولكن هناك عناصر أخرى اجتماعية وسياسية في الداخل والخارج، من ذلك تحييد الورقة الطائفية، وحرمان إيران من توظيفها إقليمياً، ومن ذلك إصلاح سياسي وإداري داخلي. ولعلي أستعين بما قاله رئيس الاستخبارات السعودي السابق الأمير تركي الفيصل في البحرين قبل أكثر من أسبوع عندما أكد أن الأمن الوطني ليس «أمناً عسكرياً، بل أمن سياسي واقتصادي واجتماعي وحقوقي وثقافي وإعلامي وسياسي). قبل ذلك كان وصف الوضع الداخلي في دول الخليج العربي بأنه «يؤسس لانكشاف استراتيجي غير مسبوق على المستويين الوطني والإقليمي». ولتصحيح ذلك يتطلب الأمر «صيانة وتحسين داخلنا بسياسات تحافظ على علاقة سوية بين قادتنا وشعوبنا».

المصدر: الحياة