مصطفى النعمان
مصطفى النعمان
كاتب وسياسي يمني عمل سفيراً لليمن في عدة عواصم كان آخرها مدريد

تقسيم الجنوب وتقسيم الشمال: ما هي مبرراته؟

آراء

ينشغل عدد من الساسة اليمنيين في تهيئة المشهد القادم بعد الانتهاء من صياغة الدستور، الذي يجري إعداد نصوصه بعيدا عن الأنظار، بصورة تثير شبهات كثيرة حول أسباب التكتم الشديد والعمل خلف أسوار من السرية المريبة، كما تدور مفاوضات وترتيبات بين أصحاب القرار في المركز المقدس، ومن يسير في ركبهم للإعلان عن الأقاليم الستة التي تم إقرارها إداريا بصورة تخالف كل المبادئ واللوائح التي صاغتها اللجنة الفنية، وكذا بالمخالفة للآلية التنفيذية المزمنة ومتناقضة مع مقررات لقاءات الموفينبيك، ولما كانت صنعاء قد اعتادت صم آذانها إزاء رغبات الناس وعمدت على تثبيت الأمر الواقع الذي يتناسب مع هوى حكامها، فمن المرجح أن يشهد العام الحالي وثيقة دستورية جديدة وتكريسا لتقسيم جغرافي يعيد الخطوط التي تركتها بريطانيا في الجنوب ويقسم الشمال مذهبيا في اتجاهات عجيبة.

في ظل المشهد القادم المتوقع وبحسب ما هو مخطط له في أذهان من صاغوه، فإن الخطوات التالية للمرحلتين السابقتين ستشمل إقرار الدستور كيفما صاغه الخبراء، ثم الإعداد لانتخابات رئاسية ونيابية بحسب صيغ ما زالت مجهولة للمواطنين، وإن كانت معلومة لبعض من المستشارين أصحاب الثقة والخبرة الذين تمرسوا في هذا المجال.. ثم هناك الغموض الشديد في الطريقة التي ستدار بها الأقاليم وعلاقتها بالمركز، الذي يعاني من أمراض مزمنة يعجب المرء معها عن طبيعة العلاقة التي ستنشأ بين المركز والأقاليم المتنافرة والمتناثرة أجزاؤها، والتي لا يربطها سوى خيوط واهية من الأوهام.

كان الهدف الحقيقي الماثل في ذهن الذين أصروا على تمرير فكرة الأقاليم الستة، هو خلق بؤر نزاعات تتيح للمركز المقدس إلهاء الناس بقضاياهم اليومية وخلق الانطباع أنه تنازل عن سلطاته وهيمنته عليهم، بينما واقع الحال يشير إلى أن المخططين لم يتناولوا الأمر بمسؤولية وطنية، ولا هم استأنسوا برأي الخبراء ولا سعوا لمعرفة رأي المواطنين أصحاب الشأن، ولم يفصحوا عن مبررات ومعايير ما قدموه كوثيقة نجاة لليمن بحسب زعمهم، ولعل الدكتور ياسين سعيد نعمان الأمين العام للحزب الاشتراكي قد أوضح هذا الأمر بصورة لا تقبل التأويل، بل إن حزبه كان الوحيد الذي قدم رؤية متكاملة حول الصيغة التي ارتآها لمستقبل البلاد، ولكنه في نهاية المطاف وقع في شرك نصبه له حلفاؤه وورطوا ممثله بالتوقيع، وإن تحجج بأنه ذيله بالتحفظ على التقسيم، وهو أمر لا يغير في الواقع شيئا، بل بدا كصفقة شخصية استفاد منها من مهر اسمه بيد المرتجف.

من المؤكد، أيضا، أن أبناء الإقليم الجديد (الجند) سعيدون بما منحتهم صنعاء، ويشعرون لأول مرة بفرصة تاريخية للفرار من تسلطها على حياتهم اليومية، ويتمنون أن ينهي عقودا طويلة من الشعور بالغبن وبالتبعية وبالتهميش، رغم أنه الإقليم الأكبر كثافة سكانية والأكثر دفعا للضرائب، وبه أكبر مخزون بشري إداري في الحكومة والقطاع الخاص وأكبر كادر فني وحرفي يوجد في كل أجزاء الأرض اليمنية، وإن كان لا يتناسب مع النفوذ السياسي المفترض ولا حجم المشاركة في صنع القرار.. هذا التميز أثار حفيظة مناطق أخرى ووصل إلى حد اتهامهم شمالا وجنوبا بأنهم السبب الحقيقي لكل مآسي اليمن! وهي قضية تحتاج إلى مؤرخين منصفين يعيدون سرد الأحداث بعيدا عن النفس المناطقي، وحينها ستنجلي حقائق ليست بخافية على من عاصروها وصنعوها.

عندما أنظر إلى خطوط التقسيم في الجنوب فلست بحاجة إلى إدراك السهولة حد الخفة التي تم بها الأمر، وأنها كانت عودة خاطفة إلى خطوط الاستعمار البريطاني التي خلفها في 30 نوفمبر (تشرين الثاني) 1967. وكانت الجبهة القومية التي حكمت الجنوب تفاخر بأنها تمكنت من محوها، وأنها استطاعت إعادة الجنوب إلى كيان واحد بعيدا عن صيغة المحميات الشرقية والمحميات الغربية، ولا أدرك ما الحكمة من بعث الكيانين في حين كانت النخب السياسية الجنوبية في الداخل وفي الخارج مصرة على استمرار التشكيل السابق درءا لنزاعات قد تنشب مستقبلا بين إقليم يمتلك كل الثروة وآخر ليس به من الثروات ما يذكر، كما يجول في بال الكثيرين أن هكذا تقسيم يتيح فرص الانفصال الكامل بأكثر مما يعزز فرص التعاون المرجو.

في الشمال، عمد الذين فرضوا خطوط التقسيم على منح الحوثيين منطقة جغرافية تمتد من صعدة شمالا إلى ذمار مرورا بعمران وصنعاء، ولكنهم حرموهم من منفذ بحري يمكنهم من خلق نشاط اقتصادي يزعم المقسمون أنه كان ضمن المعايير التي استندوا إليها لإنجاز مشروعهم وتمريره.. نفس الوضع ينطبق على الإقليم الذي يضم البيضاء ومأرب والجوف وهو محاصر بالصحراء وبعيد عن البحر… وهذه الخطوط المدهشة رغم إغوائها للبعض فإنها بذرة لن تقوى على النمو والاخضرار، ولكنها ستصبح مثار نزاعات حتمية، وكم سيكون مزيلا للشكوك والأوهام لو أن أصحاب نظرية التقسيم المعلن يخرجون إلى الناس بمرئياتهم بعيدا عن معسول الكلام.

اليمن يجب أن يكون دولة اتحادية، ويجب أن يكون المركز فيه قادرا على إدارة شؤونه أولا، كي يتمكن من ضبط إيقاع بقية الأقاليم، وأنا على ثقة بأن الرئيس هادي يدرك هول الركام الذي يحيط به، ولا بد أنه يعلم بكل تفاصيل الواقع، ولكني على ثقة بأن كثيرين من المحيطين به تتقدم همومهم وتتنازعهم أهواؤهم الشخصية والحزبية، وكلها مقدمة وتسبق مصلحة الوطن.. الرئيس هادي يحتاج بل هو مضطر إلى خلق مناخات جديدة وفضاءات غير ملوثة تسمح له بالانتقال الآمن من هذا المحيط الممسك بخناق اليمنيين جميعا، ولن يتمكن من ذلك إلا بالانعتاق من الأفكار التي يزوده بها حلفاء سلفه، ومن كانوا إلى جواره طيلة عقود حكمه.. الأخطار تحيط بالرئيس وتحيط بالوطن والأسلوب الذي يدار به المركز لم يتغير، بل إننا نشاهد محاولات لاستعادة تحالفات لا علاقة لها ببناء الدولة، بل تركز على التشبث بالمصالح القديمة والبناء عليها باعتبارها إرثا أصيلا وحقوقا ومكتسبة.

إن الأسلوب الذي تتم به معالجة القضايا الكبرى عبر نصائح خارجية لا تغوص في تفاصيل الواقع اليمني وتعقيداته، ستكون عواقبه وخيمة على مجمل الأوضاع، ولعل الالتفاتة السريعة لما يجري في العراق وليبيا من عملية تفكيك لعرى الأوطان، تقرع ناقوس الخطر لدى المندفعين بغير هدى لتقسيم البلاد وتوزيع أشلائها كغنيمة للمشاركين في المشهد التراجيدي، ومن المؤسف أن عددا من الساسة اليمنيين يعتبرون كل ما يأتي من عواصم الغرب مسلمات لا يأتيها الباطل، ويضيفون إلى ذلك السعي للحصول على قرارات أممية، يرفعونها أمام كل معترض أو حتى متسائل عن جدواها.

المصدر: الشرق الأوسط