سوسن الأبطح
سوسن الأبطح
كاتبة عربية

«داعش» يفلت من يد صانعيه

آراء

بات بمقدور «داعش» أن يحتل مناطق شاسعة بمجرد إثارة إشاعة. هذه ليست مبالغة لفظية. الجرائم المروعة التي يرتكبها التنظيم معتمدا على الذبح، والصلب، والسبي، والتدمير الذي لا يستثني أضرحة أو بيوتا أو أماكن دينية، ويكاد لا يميز وهو يوزع جرائمه، بين طائفة وأخرى، يلقي الذعر في القلوب. أن يعرف أهالي أي منطقة بأن التنظيم آت وبأنه بمجرد فرض سيطرته، سيسد عليهم المنافذ ويمنعهم من الخروج، وينكل بهم، دون معرفتهم المسبقة بلائحة أعدائه المفترضين، يجعل الهرب المسبق وسيلتهم للخلاص من جحيم لم يعرفوا له من قبل اسما أو شكلا.

لم يعد «داعش» بحاجة لقتال شرس، أو جحافل جرارة لينتصر، فهو يسجل فتوحاته، قبل أن يصل مقاتلوه، بأشرطة الفيديو التي تسبقه ويبثها «عمدا» متضمنة قطع رؤوس وحشيا بالسكاكين، وإعدامات جماعية للمئات دون أن يرف لمقاتليه جفن، هذا غير النساء المكبلات بسلاسل الذل مساقات إلى سوق النخاسة، وإعلان عن أسعار لجوار إيزيديات، وغيرهن مسيحيات.

مشاهد صارت، من الصنف الكلاسيكي المتكرر حتى فقد المتفرج قدرته على تصديق أن ما يرى، يحدث على مبعدة كيلومترات منه. ثمة من لا يزال يتساءل إن كان في كل ما ينشر ويتداول مبالغة ما؟ وهناك أيضا من يستغرب أن يكون ما يراه حقيقة، يرتكبها بشر على مثاله؟ وغيرهم يتندر تهكما واستهزاء.بالأمس انتشر على صفحات الـ«فيسبوك» شريط لبناني لشبان وشابات يرقصون بملابس البحر بالعشرات، وهم يتحلقون حول حوض للسباحة، مقرونا بعبارة «أهلا بـ(داعش) في لبنان»، وقبلها فتيات لبنانيات كثيرات صورن أنفسهن على طريقتهن الاستفزازية مرحبات بـ«داعش»، للتأكيد على أن التنظيم لا مكان له بينهن في بلاد الحرية.

لكن، بين المزاج والجد، يواصل «داعش وإخوانه» اكتساح المناطق والبلدان وإعلان الولايات، ولا يبدو أن مايوهات البحر ورقصات الدبكة، هي التي ستقتل «الداعشيين» غيظا وتصد هجومهم على لبنان، من الجرود البقاعية التي يتحصنون فيها، ليقضموا بعد عرسال بلدات أخرى، وينكلوا بأهلها، ويخطفوا جنودها، ويذبحوا أبرياءها بالسكاكين المسنونة.

يرفض الفيلسوف المعروف والمحلل النفسي سلافوج زيزك، اعتبار أن الجرائم التي يرتكبها «داعش» تعود لأسباب دينية أو إيمانية، معدا ما يقومون به «شتيمة حتى للمتعصبين والمتطرفين، لأن المؤمن المتشدد غالبا ما يشعر بالنفور ممن لا يشاطرونه رؤيته، أما مقاتلو (داعش) فيبدون وهم يقتلون الآخر وكأنهم يناضلون ضد رغباتهم الذاتية التي لا تزال تعتمل بقوة في دواخلهم، ولم يتمكنوا من التخلص منها». وفي مقالة نشرها أخيرا في «نيويورك تايمز» كتب زيزك أن «داعش» يأتي نتاج «عقدة نقص كامنة اتجاه التفوق والنجاح الغربيين، بما يمثله من ترف واستهلاك وقوة»، لأن التنظيم الذي يدين الحرية الغربية يوميا لا يتوانى عن ممارسة الغطرسة والتشاوف؛ مما يؤكد أن أفراده غير مقتنعين ضمنا بتفوقهم، وهو تناقض وغموض يتسبب بارتجاجات في الشخصية لديهم، يتولد عنهما العنف البشع الذي نرى.

إذا ما صدقنا قراءة زيزك الذي له عشرات الكتب، وباع طويل في التحليل النفسي، يجدر بنا أن نفترض بأن ظاهرة «داعش» إلى انتشار وتوسع، فالإحساس بالعجز والهزيمة والدونية، يتنامى مع تفاقم التدمير والتجزير، أمر ينذر بشر مستطير، وبأننا ندور في الحلقة الكارثية المفرغة التي يتعذر الخروج من جحيمها. وإذا كان كل ما يعول عليه عقلاء المنطقة اليوم، هو التحالف الغربي ضد الإرهاب الذي يقول الرئيس الأميركي، باراك أوباما، عنه إنه «سيكسر (داعش)» ويقضي عليه «كما حصل مع القاعدة»، فهذا يعني أننا سننتظر 10 سنوات مقبلة، على الأقل، من النزف الدموي والتدمير المتواصلين، كي نرى بصيص أمل.

قياسا على «قاعدة» بن لادن، فإن «داعش» بات له دولة، وآبار نفط، وأنهار، وسدود، وأسلحة ثقيلة، ومقاتلون يتزايدون بفعل عقد الهزيمة العربية المتراكمة.

من المؤسف أن «داعش» لم يؤخذ لغاية اللحظة، رغم الكوارث الفظيعة التي ارتكبها على محمل الجد، من قبل كثيرين، كل ينتظر أن تحز السكين على رقبته كي يصدق أن الموت يتهدده هو وليس الآخرين. «داعش» ليس مجرد مجموعة مسلحة، تقاطعت مصالح أجهزة مخابراتية كثيرة، ومتصارعة أحيانا، على ضخها بالمال والسلاح، وبالإمكان انتزاع أنيابها مع انتهاء مجريات اللعبة. نحن أمام تنظيم اشتغل على بنائه، ولسنوات طويلة، ليتناسب بخبث شديد، وأحلام الجموع الغفيرة، وتطلعاتها المكبوتة، فمن ذا الذي لا يريد وحدة وقوة ومنعة لأهل المنطقة أجمعين، لكن تحقيق التطلعات الجمعية النبيلة شيء، واستغلالها بأقذر السبل وأكثرها دموية وشرا، شيء آخر.

«داعش» بدأ يفلت من يد صانعيه، ليتحول كما في الأفلام الهوليوودية إلى مخلوق وحشي يتنامى بفعل امتصاص الدماء المتواصل، تتمدد أطرافه، وتكبر أنيابه، ليلتهمهم الواحد بعد الآخر، فهل من لا يزال ينكر بأنه ساهم في صنع «داعش»، إن لم يكن لوجيستيا، فبالاستهتار والتواكل، وأحيانا بالتهكم والتندر.

المصدر: الشرق الأوسط
http://classic.aawsat.com/leader.asp?article=786166