د. ميثاء سيف الهاملي
د. ميثاء سيف الهاملي
كاتبة و شاعرة إماراتية

دكان حمّود

آراء

لم نكن نعرف من تفاصيل حياته سوى اسمه الذي يناديه به الكبار في البيت ( حمّود ) ، دائم الإبتسامة وبسيط في تعامله مع الجميع ، الكل يمازحه ويتجاذب معه الحكايا الطريفة ، لم نكن ندري لما هو يتحدث بلهجة مختلفة عنا ولما يتمشى آمنا وهو حليق الذقن بين ( شوابنا ) دون ان تنزل الخيزران على ظهره مُعلنة عقابهم له لتخليه عن أحد رموز الرجولة ( اللحية ) !

كل هذه الألوان المصطفة برشاقة على أرفف دكانه ، كل هذه العلب والصناديق المرتبة فوق بعضها ، تشتت أذهاننا شغفاً بامتلاكها كلها دفعة واحدة لاكتشاف ما بداخلها ، تحرض عقولنا الصغيرة على دخول عالم من الخيال نسافر في آفاقه المدهشة لنرسم ما يمكن ان تحمل لنا صناديق هذا الدكان من فرح ومذاقات لذيذة .

دكانه الذي كان يتوسط منازل قريتنا وكان يجاوره ثلاثة أخرى ،ولكن كان حمود هو من يحتل اختياراتنا الأولى لشراء مؤنة فترة المساء من عنده استعدادا لفقرة الرسوم المتحركة، ولذلك الإجماع عدة عوامل أولها موقعه حيث يحتل أول صف الدكاكين في الزاوية الشرقية يدعمها شخصية حمّود الألطف في التعامل مع تجمعاتنا المشاغبة نحن الصغار.

بعد سنوات عرفنا انه من بلوشستان لذلك هو يتكلم بلهجة مغايرة ، العربية المكسرة مخلوطة مع بعض البلوشية ، أتى في صغره كمزارع في ليوا ثم انتقل كطباخ في أبوظبي ثم اختار ان يكون رجل أعمال مُصغر فقام بتأجير هذا الدكان من صاحبه المواطن وزوده ببضاعة بسيطة من أبوظبي ودبي .

كان دكان حمود أول من أسس لسوبر ماركت عرفته المنطقة ان صحت التسمية ، تلك القرية النائمة بين أحضان الصحراء والتي تتكون حينها في السبعينات من أربعين بيتا و ٤ دكاكين أهمها دكان عمنا حمود ، المجتهد الذي تنقل من مهنة لأخرى كي يستقر على كرسيه خلف طاولته التي تتوسط الدكان تكتظ بأنواع الحلويات ، يستقبلنا بابتسامته العريضة ولمعة أسنانه المختلفة في ذاك الوقت وشنبه الطويل والذي يعوض تخليه عن اللحية ومعتدا بذقنه الحليق اللامع بكل تحدي لعشوائية ذاك الزمان وشعثاء تفاصيله .

طوت السنين أغلب تلك التفاصيل الصغيرة ولكنها بقيت كبيرة في ذاكرة كل صغار المدينة ، وبقي حمود كما هو في كل صورهم الذهنية ، خلوقا صبورا مبتسما للجميع دون ملل ولا كلل ، مرت السنوات ولا يدري زبائن حمود الصغار أي عالم أخذه منهم ولا في أي المهن استقر ذاك الشاب الخلوق المثابر ، ولكن ما يجتمع عليه أغلبهم انه كان مثال الأدب والاحترام لطفولتهم ، وما لم يختلف عليه أحد انه جالب السعادة لهم من صناديق المياة الغازية المرتصة عند باب دكانه إلى رفوفه الغنية بما لذ وطاب من الحلويات واللبان ، وستبقى تجمعاتهم البريئة أمام دكانه ماثلة في مخيلتهم ، وخصوصا لعبة قلب أغطية زجاجات المياه الغازية أو الحيلة التي كان يبتدعها الأكبر سنا في عصابة الصغار ليصدقها البقية ، حيث يُسقط حصاة صغيرة في زجاجة الكوكاكولا فتحدث فوران من حولها يعتقد معه الجميع ان السائل يزيد في الزجاجة بهذه الطريقة وبهذا تطول فترة الاستمتاع بشربه ان لن يقطع لذتك الجملة المعتادة من أخ أو صديق ( خل لي شوية ) .

اختفى حمود وبقي دكانه الى اليوم بإسمه برغم كل النشاطات والوجوه التي تعاقبت عليه ، لأن القلوب الجميلة هي من يخلق البدايات الأجمل الأطهر التي لا ترحل أبدا .

خاص لـ ( الهتلان بوست )