عبدالله النعيمي
عبدالله النعيمي
كاتب وروائي إماراتي

دمعة على خد القاهرة!

آراء

يعتقد البعض بأن أهرامات مصر تمثل أهم عوامل الجذب السياحي فيها, لكن بعد زيارتهم الأولى لها يكتشفون غير ذلك. فهذه الآثار التاريخية الهامة, منحت مصر بعداً حضارياً ضارباً في القدم, و دونت اسمها بحروف واضحة على خارطة السياحة العالمية, لكنها لم تكن في يومٍ من الأيام المحرك الأساسي لقطاع السياحة فيها, وفي معظم الأحيان يكتفي السائح بزيارتها لمرة واحدة في حياته, ويلتفت بعدها لتفاصيل أخرى في الحياة المصرية, أكثر ملامسة لميوله واهتماماته.

فالروح المصرية لطيفة وخفيفة الظل بالفطرة, وشديدة الانفتاح على ضيوفها, ولديها قدرة هائلة على كسر الحواجز التي تفصلها عنهم. هذه الروح الطيبة, المتقبلة للآخر والمستوعبة لجميع الفوارق الفكرية والدينية والثقافية والاجتماعية بين البشر, هي الركيزة الأساسية لقطاع السياحة في مصر, وبدونها ستفقد المحروسة كل جاذبيتها, ولن تُفلح الشعارات المفرغة والأفكار المؤدلجة والخطابات الصاخبة في سد الفراغ الموحش الذي سينتج عن فقدانها, حتى مع وجود الأهرامات.

فمصر لم تكن في يومٍ من الأيام منغلقة على ذاتها, ولم تكن حضارتها إرثاً لحزبٍ واحد, يستعدي الأشقاء ويستقوي بالغرباء عليهم, حزب يحتكر الفكر لنفسه ويهمش أدوار الآخرين ويُصادر حقوقهم المشروعة في المشاركة في بناء وطنهم وصياغة قراراته المصيرية. وتاريخ مصر الطويل يشهد بأنها كانت على الدوام ملكاً لجميع المصريين, سواءً كانوا مسلمين أو أقباط أو باشوات أو أفندية أو صنايعية أو فلاحين.

فمصر الجميلة تكتسب جاذبيتها من ثراء تكوينها السياحي, وتنوع مشهدها الثقافي, ابتداءً بأسواق العتبة والحسين وخان الخليلي في القاهرة, مروراً بالمقاهي والمتاحف والمسارح ودور السينما والأوبرا, وانتهاءً بشواطئ المنتزه وسيدي بشر وسيدي جابر وستانلي وسان ستيفانو في الإسكندرية. وأكثر ما كان يلفت انتباه السائح وهو يطوف ميادينها الكبرى هو ذلك التناغم الجميل بين أطياف نسيجها الاجتماعي, رغم كل الفوارق الدينية والفكرية والمادية التي تفصل بينها.

قبل أكثر من نصف قرن, جلست ليلى مراد على صخرة كبيرة على أحد شواطئ مطروح, وغنت بصوتها الجميل, ولهجتها المصرية المحببة إلى النفوس: ” بحب اتنين سوا  ياهنايا بحبهم, الميٌه والهوا طول عمري جنبهم, حكايتين في الهوا مكتوبة في قلبهم, دول للعليل دوا الميٌه والهوا. يا ساكني مطروح جنية في بحركم, الناس تيجي وتروح وأنا عاشقة حيكم “.

هذه الأغنية رغم بساطتها, إلا أنها تُعبر بشفافية وصدق عن تلك الروح المصرية الجميلة, العاشقة للبحر والهواء والانفتاح والتقارب والانعتاق والتسامح, وأخشى ما أخشاه اليوم وأمتنا العربية تعيش واحدة من أصعب فتراتها في تاريخها الحديث, أن تفقد مصر تلك الروح الأصيلة, وأن تستبدلها بأخرى منغلقة, معادية للفنون والثقافة والحياة, متصارعة مع ذاتها ورافضة للآخر. وأن تتحول من مصر المحروسة, إلى مصر المخنوقة أو المخطوفة. فثمة عقول في مصر اليوم تفكر بطريقة عدائية غريبة ودخيلة,  تُحارب من خلالها كل من يختلف معها, ولا تُصافح إلا أولئك الذين يوافقونها على الصواب والخطأ!

 خاص لـ ( الهتلان بوست )