محمد الرميحي
محمد الرميحي
محمد غانم الرميحي، أستاذ في علم الاجتماع في جامعة الكويت

شكوك متبادلة

آراء

نما الشك الأميركي تجاه الحليف العربي، منذ عام 2001 عندما تم الإجهاز على أكبر مبنى في نيويورك، واستهدف الهجوم أيضا البيت الأبيض، ومقر الوزارة الأكبر في الولايات المتحدة (البنتاغون)، واختفت لساعات قيادات أقوى دولة في التاريخ الحديث من جراء تلك المفاجأة المذهلة. لقد ظهر (مارد) خفي قد شق طريقه من اللاشيء، لم تستطع كل استخبارات البلد الكبير أن تتوقعه، أو حتى تتصور حدوثه، وتصاعد ذلك الشك في السنوات اللاحقة بترجمته إلى سياسات تقبلها بعضنا بصدر رحب، وقد كتب في هذا الأمر المجلدات، وجرى فيه حبر كثير، وما زال، لتفسير ما حدث على أوجه مختلفة، وفرز أيضا سياسات ما زالت آثارها على الأرض ونتائجها تظهر تباعا.

قابل ذلك الشك الأميركي تجاه العرب (المسلمين) شك أخرى معاكس نما بعد أحداث 2011؛ فقد أنتج (الربيع العربي) شكا عربيا (مسلما) نما بسرعة، مقتنعا بأن كل ما حدث في (ربيع العرب) هو من تخطيط وترتيب وحث أجهزة الولايات المتحدة، وهذا التدبير هو الذي أطاح بأنظمة (الجملوكيات) وفي طريقها للإطاحة بالباقي!

من تبنى النظريتين لا يقصر عن الحصول على (شواهد) واضحة تؤكد رؤيته، فيما قيل أو كتب أو حتى اتخذ من سياسات، لتأكيد وجهة نظره تلك. ما يفكر فيه الأميركان ذلك خاص بهم، صح أو خطأ، ما يهمني مناقشته هو التصاعد في الشك، وتصور ليس دقيقا للقدرة (الهائلة) للولايات المتحدة على الفعل والتأثير، التي ما زالت قائمة في أذهان عدد لا باس به من المتصدين للشأن العام العربي، أكانوا في كراسي السلطة الفعلية، أم على كراسي (التنظير).

أعجب من الكم الهائل في التحليل المصاحب للانتخابات الأميركية الأخيرة لأعضاء الكونغرس، التي أحدثت تغييرا لصالح الجمهوريين، وتمني أن تلك النتائج لها علاقة بما يدور في الشرق الأوسط، حيث ستكون قادرة على أن تقدم لنا، في هذه المنطقة (سياسات أفضل) مما قامت به الإدارة الأميركية الأوبامية.

حتى الآن، غَضُّ النظر عن مثل هذا التفكير غير الدقيق، يوردنا مورد الخطأ من جديد، وقد قيل إن من يفعل الأشياء نفسها بالطريقة نفسها، ويتوقع نتائج مختلفة، عليك أن تشك في قدراته العقلية. لن تختلف سياسة الولايات المتحدة، في العمق، عن سياق سياسة إدارة أوباما، فهي إكمال لها في السياق نفسه، وتنويع على النغمة نفسها في المقبل من الأيام والشهور، وليس لذلك علاقة بما يحب متخذ السياسة أو يكره، لها علاقة وثيقة بعوامل موضوعية، هي على سبيل المثال في (الجملوكيات العربية) عطبها كان يزكم الأنوف.

رئيس الولايات المتحدة، أو مؤسساتها السياسية لا تستطيع أن (تعيد صياغة سياسات) مختلفة جذريا عن السائد في وقت قصير أو حتى متوسط، ما لم تحدث (كارثة). السيد باراك أوباما أو أي رئيس للولايات المتحدة، على المدى المتوسط والطويل، ليس مهما ما يرغب أو لا يرغب في تحقيقه؛ فهو يتحرك في حيز تفرضه الظروف الموضوعية والمعطيات السياسية القائمة، التي تحد من قدرته، هو أو المؤسسات الأخرى، على الحركة وهو (الحيز الموضوعي).

الحيز في هذا المنعطف التاريخي أن لا أحد من السياسيين في الغرب، أو الولايات المتحدة، يجرؤ في ظل معطيات الظرف القائم أن (يرسل قوات محاربة لأرض خارجية)؛ أي قوات على الأرض، مهما كانت الدوافع، والمبررات مرفوضة قطعا من الرأي العام الغربي اليوم والأميركي على وجه الخصوص. تلك حقيقة يجدر أن يعرفها متخذ القرار العربي، الأسباب كثيرة ولكن أكثرها وضوحا ما حدث للسيد بوش الابن (والحزب الجمهوري من بعده) وحليفه (توني بلير) وحزب العمال البريطاني، بعد التدخل العسكري في كل من أفغانستان والعراق. كلا المكانين مُنيا بفشل ذريع، فلا طالبان خرجت من المعادلة، ولا أصبح في العراق (ديمقراطية جيفرسونية)، كان هناك طاغية، فتحول الأمر إلى عدد منهم لا غير، بملابس وشعارات مختلفة، إضافة إلى الظرف الاقتصادي الضاغط على هيكل الاقتصاد الغربي.

يفرض التشابك العالمي المعقد، معطوفا على أزمة مالية صعبة، مسارا محددا للولايات المتحدة، تضعه إداراتها المختلفة تحت شعارات ربما براقة (الحلول السلمية) للمشكلات العالمية، هي في الحقيقة تعني (عدم القدرة على الحسم)، الساحتان العراقية والسورية القريبتان منا تبينان بوضوح (محدودية القدرة) التي تفرض نفسها على الأحداث.، إلا أن الأكثر وضوحا في محدودية القدرة يظهر في مكانين؛ الأول أوكرانيا والثاني إيران، كلاهما سواء في المناطق الشرقية من أوكرانيا التي تم فصلها واقعيا أمام نظر حليف غربي دون قدرة على منع ذلك الفصل، والثاني إيران التي تتدخل بعمق في جسم الحليف العربي، دون قدرة أيضا على الحد من النفوذ أو حتى تقليصه!

الجغرافيا السياسية تعتمد على (الذاكرة)، فإن كان أحد يتذكر أن لبنان عربي فذلك تاريخ قديم، أو أن العراق كذلك هو أيضا يفكر بتاريخ قديم، والقادم هو اليمن، قادم ليس سعيدا للذاكرة العربية. هناك (قالب) سياسي جغرافي يكرر نفسه، في المناطق الهشة، تتقدم طموحات إيران الإمبراطورية في المناطق العربية، ذلك بسبب سلبي؛ أولا عدم وجود تصور لمقاومة هذا التمدد وفي ثناياه ردود فعل تنتج قوى مهووسة مثل «داعش»، وثانيا بسبب استخدام إيران كل السبل من أجل تأكيد ذلك التمدد، المال وحده كمؤشر يكفي، فالمصادر تتحدث عن 15 إلى 20 مليار دولار صرفت حتى الآن في الساحة السورية فقط، لا لكي يتحقق نصر، بل الإبقاء على نظام الأسد فوق مستوى الماء، حتى لو أسند بعوامات! البقاء هادئين عندما نجد العالم وهو يتهاوى من حولنا ليس حكمة، هو في الحقيقة ضلالة، إنها فروض الجغرافيا وفروض الطبيعة، كلاهما مؤثر، الأول يعشق التمدد، والثاني يكره الفراغ. كلا العاملين يعمل بعمق في فضائنا العربي الأقرب الذي يسميه البعض الشرق الأوسط المسلم. البقاء خارج الذاكرة الجغراسياسية، وربط آمال بالتغيير الذي يحدث أو لا يحدث في أماكن أخرى من العالم، مضيعة للوقت والفرص أيضا، وكذلك تضخيم الشكوك العاطفية دون النظر إلى المصالح المؤثرة بالفعل.

آخر الكلام:

الولايات المتحدة تُقبح فعل علي صالح والزعماء الحوثيين في اليمن، وليس أمامها إلا وضعهم في (القائمة السوداء).. نكتة سياسية أخرى، ولكنها لا تضحك.

المصدر: الشرق الأوسط
http://classic.aawsat.com/leader.asp?article=794565