بدر الراشد
بدر الراشد
كاتب سعودي

«فيرغستون».. هل حوادث القتل العنصرية «تجاوزات فردية»؟

آراء

في آذار (مارس) 1991، كان المواطن الأميركي رودني كينغ يقود سيارته، متجاوزاً حد السرعة الرسمي في مدينة لوس أنجلوس، وهو ما أدى إلى إيقافه من مجموعة من رجال الشرطة. يبدو هذا الموقف -إيقاف سائق سيارة بسبب مخالفة مرورية- أمراً عادياً جداً، يحدث ملايين المرات في العالم يومياً. لكن حادثة رودني كينغ لم تكن عادية، كما كشفت الأحداث اللاحقة.

أنزل رجال الشرطة «كينغ» من سيارته، وضربه خمسة منهم بوحشية، بينما اكتفى الآخرون بالمشاهدة. في هذه اللحظة رأى جورج هوليداي الحادثة من منزله القريب من موقع الحدث، وصور الاعتداء على كينغ، وأرسل الفيديو إلى محطة تلفزيون محلية، نشرت أجزاء منه على الفور. لم تنتهِ القصة عند هذا الحدث، بل هذه هي البداية فقط.

لاحقاً تمت تبرئة أفراد الشرطة من جريمة الاعتداء بالضرب على مواطن، واستخدام القوة المبالغ فيها بلا مبرر. ووجهت أصابع الاتهام، من بعض أفراد المجتمع، إلى «العنصرية»، إذ إن المعتدى عليه «رودني كينغ» مواطن أسود البشرة، بينما كان أفراد الشرطة، وهيئة المحلفين الذي حكموا عليهم بالبراءة من أصحاب البشرة البيضاء.

أدت هذه الحادثة إلى أعمال شغب واسعة النطاق في لوس أنجلوس عام 1992، قتل على إثرها قرابة 60 شخصاً، وجرح قرابة 2400 ضحية، واعتقل نحو 16 ألف مواطن، مع خسائر مادية قدرت ببليون دولار. لم تتوقف أعمال الشغب إلا بفرض الهدوء بالقوة، ومن دون تغيير في النظام العدلي الذي سمح بما يراه بعض الأميركيين تجاوزا هائلاً للعدل.

لا تبدو هذه الحادثة مختلفة كثيراً عما يحدث هذه الأيام في فيرغستون -ولاية ميزوري الأميركية، على إثر تبرئة هيئة المحلفين للشرطي الأبيض دارن ويلسون من تهمة «القتل العمد» للشاب الأسود مايكل براون، الذي قتل بـ 12 رصاصة، بينما لم يكن الضحية يحمل أي سلاح. لاحقاً، وفي أول تصريح إعلامي تعليقاً على الواقعة، قال المتهم ويلسون بأنه «مرتاح الضمير» وكان سيفعل الأمر نفسه لو كان المتهم أبيض البشرة. للأسف، التاريخ لا يدعم ما زعمه ويلسون.

يناقش الكثيرون أن مثل هذا التجاوزات خاضعة للضمير الفردي لأفرد الشرطة أنفسهم. ومن هنا فالاعتداءات والتجاوزات في حق السود أو اللاتينيين هي تجاوزات فردية من أفراد عنصريين، لا تمثل المؤسسة الأمنية في الولايات المتحدة. لكن تكرار هذه الحوادث في التاريخ الأميركي -على رغم قوانين الحقوق المدنية، ورفض الفصل العنصري في الستينات، إضافة إلى بنية النظام العدلي، يضيفان إلى القضية أبعاداً أخرى- يجعل تبرير «التجاوزات الفردية» ضعيفاً ومرفوضاً.

يجادل روبرت ستابلز في بحث بعنوان: «سلطة البيض، وجريمة السود، والسياسات العنصرية» أن المسألة ليست تجاوزات فردية من أفراد عنصريين، بل خلل في النظام العدلي الأميركي ذاته. هذا النظام الذي يجعل البيض في وضعية الهيمنة، والسود أقلية مهيمناً عليها، وسط انقسام مجتمعي حاد. يُرجِع ستابلز هذا الانقسام إلى اختلاف تاريخي بين نظرة البيض للشرطة، ونظرة السود. تاريخيا يرى البيض الشرطة قوةً لخدمة حقوقهم وحماية ممتلكاتهم، بينما يرى السود الشرطة أداة نفي لحقوقهم، بدلاً عن ضمانها. فالشرطة -تاريخياً- بالنسبة إلى السود أداة لفرض العبودية، وأداة لفرض الفصل العنصري…الخ. كما أن القانون ذاته كان يبرر هذه التجاوزات.

هذا القانون الذي لم يُغيِّر منذ الستينات إلا عاملاً واحداً أساسياً: ألغى إمكانية اضطهاد مجموعة من البشر لأسباب عرقية قانونياً، كالفصل العنصري، لكنه لم ولن يستطيع إلغاء تجاوزات المؤسسة الأمنية، التي مارستها -على سبيل المثال- في حق المسلمين في الولايات المتحدة عقب أحداث «11سبتمبر»، إذ تمت مراقبة واستهداف واستجواب وترحيل مئات الآلاف من المسلمين لدواعٍ أمنية، وشبه اتهام بالإرهاب. في حادثة لا تختلف من ناحية المبدأ عن وضع 100 ألف مواطن أميركي من أصول يابانية في معسكرات خاصة إبان الحرب العالمية الأولى، باعتبارهم ينتمون «عرقياً» إلى أمة تحارب الأمة الأميركية.

يرى ستابلز المشكلة في أن معظم الأميركيين يدعمون فرض القانون بالقوة، بدلاً عن دعم البرامج الاجتماعية التي يمكنها أن تخفف من التوتر في القضايا الأمنية، وهو ما يجعل ضحايا فرض القانون هم الفقراء، ومن لا يملكون أي سلطة أو نفوذ. ويطرح في هذا السياق فضيحة «إيران كونترا»؛ إذ تمت تبرئة بعض المتورطين في القضية، وتمتع آخرون بعفو رئاسي؛ بسبب علاقاتهم المباشرة بأصحاب النفوذ. بدلاً عن عقابهم عن جريمة بهذا الحجم.

في وقت تعتبر «القيادة وأنت أسود» تعبيراً دارجاً، تعادل «القيادة تحت تأثير المسكر» من ناحية القابلية للإيقاف من الشرطة في الولايات المتحدة، يبدو أن قضايا كحادثة رودني كينغ في التسعينات، أو مايكل براون هذه الأيام لن تتوقف عن الحدوث بالتداعيات ذاتها وردود الفعل. تلك التي لا توحي -حتى الآن- بإمكانية الميل باتجاه تغيير جذري. فلا يوجد قوة ضاغطة حقيقية تسمح بتغيير كبير في النظام الأمني الأميركي، حتى في ظل وجود رئيس أسود، لن يستطيع أو يسعى إلى تغيير جذري في معالجة قضايا الأقليات في الولايات المتحدة، على رغم تلك الآمال الكبيرة التي عُلقت على وجوده كخطوة باتجاه إنهاء العنصرية في أميركا بشكل كامل.

المصدر: الحياة
http://alhayat.com/Opinion/Badar-Al-Rashad/5943638