محمد القنيبط
محمد القنيبط
كاتب و اكاديمي سعودي

قصة يوسف مع العمل المؤسسي لـ«التعليم العالي»!

آراء

قبل أيام قليلة صرّح وزير التعليم العالي بأن «الخطط الاستراتيجية والعمل المؤسسي من أسس عمل مؤسسات التعليم العالي» في صحيفة الرياض 20-11-2013. وفي ظل هذا الإنجاز الأكاديمي التاريخي، فإن أبجديات البحث العلمي تستوجب الاستشهاد بقصص أكاديمية تؤكّد «حقيقة» هذا الإنجاز أو التصريح!

القصة الأولى
قبل حوالى 27 عاماً تقدّم شخص يحمل درجة الماجستير لأحد الأقسام الأكاديمية في جامعة الملك سعود بطلب التعيين على وظيفة محاضر، إلا أن مجلس القسم اعتذر عن قبوله لأسباب أكاديمية نظامية، فما كان من هذا الشخص إلا أن رفع برقية للملك فهد – رحمه الله -، يشكو فيها القسم الأكاديمي على رفض تعيينه.
أحيلت هذه الشكوى إلى وزير التعليم العالي الذي أحالها لمدير جامعة الملك سعود، لتسير في التسلسل الأكاديمي الصحيح، مارةً بعميد الكلية إلى رئيس القسم الأكاديمي المعني. اجتمع القسم مرة أخرى، والتزم بقرار رفض طلب التعيين. ولأن الشكوى إلى الملك في أمر أكاديمي كانت سابقة لم يتعوّد عليها هذا القسم الأكاديمي أو الكلية، فقد رأى رئيس القسم ضرورة مقابلة مدير الجامعة ليعرض عليه الموضوع بتفاصيله كافة. وفوجئ رئيس القسم بمدير الجامعة يقول له جملة واحدة فقط: «رأي القسم هو الأساس»!
وسيصاب القارئ بالذهول حين يعلم أن مدير الجامعة آنذاك كان في نفس تخصص الشخص المتقدّم والقسم المعني، أي أنه بإمكان معاليه دراسة الموضوع وإصدار حكم فيه، ولكن ليس هذا ديدن أعظم مدير في تاريخ الجامعات السعودية، ذلكم هو الدكتور منصور التركي. لذلك رفع القسم الأكاديمي قرار رفضه الثاني لعميد الكلية الذي أرسله لمدير الجامعة ثم إلى وزير التعليم العالي، ولم يتم تعيين الشخص على رغم شكواه للمقام السامي الكريم.
وبالتالي، هذه الحادثة الأكاديمية التاريخية تؤكد «حقيقة» تصريح وزير التعليم العالي بأنّ «العمل المؤسسي من أسس عمل مؤسسات التعليم العالي»، كن عزيزي القارئ لا تستعجل، فهناك قصص أكاديمية أخرى أكثر تشويقاً وإثارة أكاديمية!

القصة الثانية
تقدّم قبل عامين دكتور سعودي متقاعد (في العقد الثامن من عمره!) شغل منصب «المشرف» على معهد أبحاث مهم في جامعة الملك سعود منذ 20 عاماً تقريباً، بطلب تمديد تعاقده مع قسم أكاديمي بالجامعة! رفض مجلس القسم بالإجماع طلب تمديد التعاقد مع هذا الدكتور المتقاعد بسبب عدم قيامه بأي نشاط تدريسي أو بحثي لأعوام طويلة، بدلالة تقاعده نظامياً بدرجة أستاذ مشارك، وأيّد مجلس الكلية قرار مجلس القسم.
ولكن صعق الجميع بقرار المدير السابق لجامعة الملك سعود بتمديد التعاقد مع هذا الدكتور «النشط» بحثياً وعلمياً. ولم يكتف المدير السابق للجامعة بتطنيش قرارات مجلسي القسم والكلية بموافقته على تمديد التعاقد مع هذا السبعيني المتقاعد، بل استمر بارتكاب المخالفة الإدارية بتعيين أكاديمي متقاعد، ومتعاقد «مشرفاً» على معهد أبحاث مهم، وبالتالي قال المدير السابق بالفم الملآن: «مجلسا القسم والكلية «طراطير»، لا قيمة أو أهمية أكاديمية لهما ولقراراتهما!».
لكن الطامة الكبرى أن هذا المعهد هو الوحيد في الجامعة الذي لم يعين المدير السابق أو المدير الحالي للجامعة عميداً له أسوة ببقية معاهد الجامعة، إذ يرأس كل معهد عميد وله وكيل، بل استمر معاليهما باستخدام وظيفة «المشرف» التي فصّلت بالملليميتر على مقاس هذا الشخص بعينه حتى يستمر في إدارة المعهد.
ويبدو الله أعلم أن استمرار صاحبي المعالي باستخدام لقب «مشرف» للشخص الذي يدير هذا المعهد، هو تمويه وحركة التفافية ذكية على «مخبري» طيبة الذكر «نزاهة»، خوفاً – لا سمح الله – من أن تعلن «نزاهة» حالة الطوارئ القصوى وتفتح تحقيقاً مهيباً رهيباً في هذه المخالفة تهزّ كيان مجلس الأمن وعصبة الأمم!
قد يقول قائل، إنّ هذه المخالفة مسؤولية الإدارة السابقة لجامعة الملك سعود، وعفا الله عما سلف، وأن الإدارة الجديدة للجامعة أعادت الأمور لنصابها من احترام لقرارات مجالس الأقسام الأكاديمية ومجالس الكليات! للأسف، سيصاب كل من في قلبه رحمة أو غيرة وطنية وأكاديمية بألم شديد عندما يقرأ «قصة يوسف»!

قصة يوسف
عيّن يوسف محاضراً في جامعة الملك سعود، ثمّ سافر إلى أميركا لدراسة الدكتوراه، حيث أنهى خلال ثلاثة أعوام ونصف العام معهد اللغة وماجستير ثانية وأنهى جميع مواد متطلبات الدكتوراه، ولكنه لم يوفّق في امتحان الدكتوراه، واضطر للانتقال من جامعته إلى جامعة أخرى، ولكنه عندما عاد للمملكة لتغيير تأشيرة الدراسة على الجامعة الجديدة انتظر ستة أشهر ليتسلم رفض السفارة الأميركية منحه تأشيرة. وبالتالي لم يكن له خيار سوى البحث عن دولة أخرى لدراسة الدكتوراه.
وعلى رغم حصول يوسف على قبولين من جامعات بريطانية معتمدة، إلا أنه لم يستفد منها بسبب إيقاف جامعة الملك سعود الابتعاث إلى بريطانيا، لذلك حصل يوسف على قبول من جامعة في ماليزيا، ومن شدّة حرصه على مواصلة دراسته سافر إلى ماليزيا على حسابه الشخصي قبل وصول قرار ابتعاثه للملحق الثقافي في كوالالمبور، حيث مكث هناك شهرين فقط وعاد أيضاً على حسابه الشخصي، بعد أن تبيّن له اشتراط الجامعة امتحان لغة إنكليزية من دون أي اعتبار لحصوله على الماجستير من أميركا.
حصل يوسف على قبول ثاني من جامعة ماسي في نيوزيلندا التي وافق عليها مجلسا القسم والكلية، إلا أن اللجنة الدائمة للابتعاث والتدريب بالجامعة رفضت التوصية بابتعاثه إلى نيوزيلندا، وطلبت منه البحث عن قبول في أميركا أو كندا. ذهب رئيس القسم والأستاذ يوسف إلى عميد شؤون أعضاء هيئة التدريس والموظفين في جامعة الملك سعود، في محاولة لإقناعه بالموافقة على الجامعة النيوزيلندية في ظل موافقة مجلسي القسم والكلية، بخاصة أن هذا العميد عضو مؤثّر جداً في اللجنة الدائمة للابتعاث والتدريب في الجامعة. ولكنهما فوجئا بطلب عميد شؤون أعضاء هيئة التدريس والموظفين من رئيس القسم الخروج من مكتبه ليحاور يوسف، وكأن يوسف جاء خاطباً ابنة سعادة العميد، أو أن رئيس القسم شخص طفيلي لا علاقة له بيوسف!
وافق رئيس القسم بمضض على هذه الإهانة وخرج من مكتب عميد شؤون أعضاء هيئة التدريس والموظفين، ليس خوفاً من هذا العميد، بل حفاظاً على مستقبل يوسف وعدم تعريضه لانتقام العميد، فيما لو صعد رئيس القسم الموضوع لمدير الجامعة. ومع ذلك لم يتعاطف هذا العميد مع ظروف يوسف ووجهات نظر مجلسي القسم والكلية التي أوصت بابتعاثه لجامعة ماسي في نيوزيلندا.
ومرة ثالثة يقوم يوسف والقسم الأكاديمي ببذل جهود جبّارة للحصول على قبول جديد من دولة أخرى، حيث حصل في شوال 1434هـ، على قبول من جامعة كيوتو اليابانية الشهيرة التي تتربع على المركز 27 على تصنيف شانغهاي، و32 في تصنيف كيو إس تايمز 2013، وكان قبول يوسف في هذه الجامعة الشهيرة من دون أي شرط أو متطلبات، مما يؤكد تميّز يوسف الأكاديمي. وبالطبع، يوافق كل من مجلسي القسم والكلية على التوصية بابتعاث يوسف لجامعة كيوتو اليابانية. وللأسف، ترفض اللجنة الدائمة للابتعاث والتدريب بالجامعة التوصية لابتعاث يوسف بسبب تجاوزه «سن اليأس» للابتعاث في جامعة الملك سعود 35 عاماً بأقل من العامين!
ولأنّ يوسف يحظى باحترام جميع زملائه وأساتذته وطلبته في القسم، وفي محاولة لعمل المستحيل لتحقيق حلم يوسف بالحصول على الدكتوراه، قام رئيس القسم مع الرئيسين السابقين للقسم ودكتور رابع بمقابلة وكيل جامعة الملك سعود للدراسات العليا والبحث العلمي، لشرح ظروف يوسف ومستواه الأكاديمي المميز بدلالة قبوله غير المشروط في جامعة كيوتو الشهيرة، بخاصة وأنّ سعادة الوكيل لم يرأس الاجتماع الذي رفض التوصية بابتعاث يوسف لجامعة كيوتو بسبب تجاوزه سن 35 عاماً. وكانت المفاجأة الجميلة بتفهم الوكيل لقضية يوسف وخلفيات التأخر التي مرّ بها، حيث وعدهم بالتوصية بابتعاث يوسف لجامعة كيوتو في الاجتماع القادم للجنة الدائمة للابتعاث والتدريب بالجامعة التي سيرأسها. وبالفعل وافقت اللجنة قبل حوالى أربعة أسابيع على التوصية بابتعاث يوسف لجامعة كيوتو، ولم يتبق إلا مصادقة مدير الجامعة على محضر اجتماع اللجنة، إذ تلقى يوسف التهاني من زملائه وأساتذته على هذه الولادة المتعسّرة، بل وقام بالحصول على تأشيرة من السفارة اليابانية على جامعة كيوتو.
وكانت المفاجأة الصاعقة الأسبوع الماضي عندما رفض مدير الجامعة توصية اللجنة الدائمة للابتعاث والتدريب بابتعاث يوسف لجامعة كيوتو الشهيرة. طبعاً، السبب كان تجاوز يوسف للسنّ الأقصى للابتعاث للدكتوراه 35 عاماً بأقل من العامين، وتمسك مدير الجامعة بلائحة الابتعاث، وها هو يوسف يدفع ضياع مستقبله الأكاديمي ثمناً غالياً لتسويف ومماطلة إدارات الجامعة اللذين تسببا في بلوغه «سن اليأس» للابتعاث، حين نعلم أن معاملة رفض إدارة الجامعة قبول يوسف في جامعة ماسي النيوزلندية استغرقت 13 شهراً!
فيا ترى ما هي الفائدة العظيمة التي ستجنيها الجامعة من تحويل يوسف إلى موظف إداري بعد أن كان قاب قوسين أو أدنى من حصوله على الدكتوراه؟ وقبل هذا وذاك، كيف «يطنّش» مدير الجامعة (أو من أناب) توصيات مجلسي القسم والكلية واللجنة الدائمة للابتعاث والتدريب، في انتهاك صارخ للأعراف الأكاديمية «والعمل المؤسسي» عياناً بياناً؟

أسباب أمنية!
قد يدافع بعض المتفذلقين أو بعض البيروقراطيين «الأذكياء» عن الرفض والتسويف المتكرّر من جامعة الملك سعود لابتعاث يوسف، بالقول إنّ هناك «تحفّظاً أمنياً» يحول دون الموافقة على ابتعاث يوسف، وبالتالي كان تصرّف إدارة الجامعة بالمماطلة والتسويف تصرّفاً «نبيلاً» يهدف إلى تجنيب يوسف صدمة نفسية لو علم بوجود «تحفّظات أمنية» عليه! لكن لسوء حظ أصحاب هذا الرأي أن يوسف سافر خارج المملكة مرات عدّة، بل حصل على تأشيرة السفارة اليابانية إلى جامعة كيوتو قبل أسبوعين!

الزمن الجميل في تاريخ التعليم العالي
أرأيتم معاناةً أكاديمية وبيروقراطية أكثر ألماً ومرارة وظلماً من قصة يوسف هذه؟ سبحان الله مقسّم الأرزاق: شاب طموح ومميز يوصي بالإجماع كل من مجلسي القسم والكلية وتؤيد اللجنة الدائمة للابتعاث والتدريب ابتعاثه لجامعة يابانية مشهورة، ولكن مدير الجامعة يرفض تأييدهم بسبب تجاوزه سن الابتعاث بـ20 شهراً، على رغم ابتعاث الجامعة العديد ممن تجاوزوا سن الـ35 عاماً، في حين يحطّم معالي مدير الجامعة كل اللوائح والأعراف الأكاديمية والاجتماعية ويمدّد لدكتور متقاعد ومتعاقد وخامل علمياً وبحثياً تجاوز سنّه الـ70 عاماً ورفضه بالإجماع مجلسا القسم والكلية.
ونختم بسؤال المليون: ما الذي تغيّر في هذه الجامعة العملاقة حتى يحدث هذا التراجع المخيف في «العمل المؤسسي» واستقلالية القرار الأكاديمي في الجامعات، بدءاً وانتهاءً من القسم الأكاديمي، كما حدث في القصة الأولى؟ ثلاثة أمور: تغيّر وزير التعليم العالي، تغيّر مدير الجامعة، وصدور نظام مجلس التعليم العالي والجامعات!
رحم الله الوزير الشيخ حسن بن عبدالله آل الشيخ، وأمدّ الله بعمر المدير الرائع والرجل النادر الدكتور منصور التركي رائد العمل المؤسسي في التعليم العالي، وصاحب القاعدة الإدارية الأكاديمية المؤسسية الشهيرة: «رأي القسم هو الأساس».
خلاصة القول أنّ تصريح وزير التعليم العالي الذي بدأنا به: «العمل المؤسسي من أسس عمل مؤسسات التعليم العالي»، يؤكّد إحدى حقيقتين:
إما أن وزير التعليم العالي يراهن على جهلنا ! أو أن معاليه لا يعلم ما يجري خارج مكتبه في مبنى الوزارة بشارع التخصصي بالرياض، وبالتالي لا يدري عما يدور في جامعة يترأس مجلس إدارتها! لكن الخوف كل الخوف أن تكون كلتا الحقيقتين معاً!

المصدر: صحيفة الحياة