محمد القنيبط
محمد القنيبط
كاتب و اكاديمي سعودي

التعليم العالي.. عند مفترق طرق

آراء

كتبتُ العام الماضي في صحيفة «الحياة» في الثاني من تشرين الثاني (نوفمبر) 2013، مقالة بعنوان: «قصة يوسف مع العمل المؤسسي للتعليم العالي» (http://alhayat.com/OpinionsDetails/576172)، إذ توقعت سرعة تفاعل إدارة جامعة الملك سعود مع الموضوع، وأن تكون أكثر مرونة في تفسير الأنظمة واللوائح، وتغليب «روح» اللوائح على حرفيتها وجمود بعضها، وتمنح يوسف فرصة ثانية؛ لإكمال دراسة الدكتوراه، بعد أن أوصدت في وجهه جميع الأبواب والنوافذ. انتظرت أسابيع عدة لعل وعسى. ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث. لذلك وجهت رسالة قصيرة آنذاك في «تويتر» إلى رئيس الديوان الملكي الأستاذ خالد التويجري، متشفعاً لديه بإيصال موضوع هذا الشاب المميز علماً وخلقاً للمقام السامي؛ لإنصافه من حيف وظلم جامعة الملك سعود.

اعتذار متأخر

بعد أسابيع قليلة، سألت يوسف: هل وصلك شيء عن موضوعك؟ فأجاب بالنفي. فظننت أن خالد التويجري لم يُعُرِ الموضوع أي اهتمام. ولحسن الحظ «خاب ظني». إذ «أحرج» الديوان الملكي إدارة الجامعة (كما وصف ذلك أحد كبار مسئوليها)، حينما وصل جامعة الملك سعود خطاباً من الديوان الملكي يستفسر عن موضوع يوسف. وإذ إن أي جهاز حكومي سيتمسك بأي قرارٍ أصدره، فمن المؤكد أن إدارة الجامعة أرسلت للديوان الملكي مبررات تؤيد قرارها الجائر برفض إعادة ابتعاث يوسف لإكمال دراسته، ومن شبه المؤكد أيضاً أن رد الجامعة لم يشر إلى مبررات الجهات الأكاديمية المعنية بموضوع يوسف، وهي مجلس الكلية ومجلس القسم الأكاديمي الذي يعمل فيه يوسف.

وبعد الاعتذار الواجب والمتأخر لرئيس الديوان الملكي خالد التويجري على «سوء الظن» هذا، أضيف أنه بعد مقالة «قصة يوسف» وقبل نهاية السنة الدراسية العام الماضي، حصل يوسف على موافقة بروفيسور في جامعة بريطانية مرموقة، ليكون المشرف عليه في رسالة الدكتوراه، بعد استكمال طلب التقدم للجامعة. ولا يخفى على الأكاديميين أن النقطة الأولى والأساسية في قبول أي طالب لدرجة الدكتوراه في أي جامعة هي وجود دكتور في القسم الأكاديمي يوافق على أن يكون المشرف على أطروحة (رسالة) الطالب. ولكن المفاجأة كانت في طلب إدارة البعثات بجامعة الملك سعود امتحان التوفل من يوسف قبل إصدار أي ضمان مالي، على رغم أنه حاصل على ماجستير من أميركا وأنهى مواد الدكتوراه، وهو ما أدى إلى تأخر استكمال أوراقه للجامعة البريطانية حتى يمتحن التوفل، الذي كان قبل أسابيع قليلة. ولكن المشكلة، التي أشرت إليها في مقالة «قصة يوسف»، تتمثل في تصلب إدارة الجامعة في الموافقة على الابتعاث إلى جامعات بريطانية للطلبة الذين لم يوفقوا في اجتياز الامتحان الشامل لدرجة الدكتوراه في أميركا، على رغم حصولهم على درجة الماجستير.

عموماً، الأمور لم تتغير، وكذلك «المزاجية» في صناعة وتبرير بعض القرارات الأكاديمية بجامعة الملك سعود. وللتدليل على استمرار الحال، نعرض الخطاب أو القرار الأكاديمي التالي، الصادر عن لجنة تابعة لعمادة شؤون أعضاء هيئة التدريس.

خطـاب تعجيزي!؟

«سعادة الدكتور عميد كلية… وفقه الله

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

إشارة إلى كتابكم رقم… وتاريخ… بخصوص التوصية على إبتعاث المحاضر (س) بقسم… للحصول على درجة الدكتوراه من جامعة… في أميركا.

أفيدكم بأن اللجنة الدائمة للابتعاث والتدريب بجلستها رقم… أوصت بعدم الموافقة على ذلك، وعليه البحث عن قبول»، موضحاً به أن قبوله ثلاث سنوات، وستحتسب له جميع المواد التي سبق أن درسها بجامعة… بأميركا، وقد وافق الدكتور مدير الجامعة على ذلك بتاريخ…

آمل تكرم سعادتكم الاطلاع والإحاطة، والله يرعاكم.

طلب قبول في مدرسة متوسطة أو ثانوية

من لديه أدنى إلمام بالدراسة الجامعية -في أي جامعة- لا يمكن أن يفهم مبررات الخطاب أو القرار الإداري السابق، والصادر عن عمادة شؤون أعضاء هيئة التدريس، إلا باحتمالين هما:

أولاً: أن أحداً من عمادة شؤون أعضاء هيئة التدريس أو اللجنة الدائمة للابتعاث والتدريب بجامعة الملك سعود، لم يقرأ هذا القرار مطلقاً حتى يستوعب استحالة تحقق هذين الشرطين.

ثانياً: أن القائمين على عمادة شؤون أعضاء هيئة التدريس واللجنة الدائمة للابتعاث والتدريب مدرسين في المرحلة المتوسطة أو الثانوية بالمملكة (من دون التقليل من أهمية المدرسين الأفاضل في التعليم العام).

فلا يخفى على أي دكتور وطالب جامعي استحالة أن تقبل جامعة ما جميع المواد التي درسها الطالب في جامعة أخرى، وهذا معروف حتى بين الجامعات السعودية، التي تخضع جميعها لنظام مجلس التعليم العالي والجامعات، وبإدارة وزارة التعليم العالي.. فكيف بجامعتين أميركيتين في ولايتين مختلفتين!؟

أما اشتراط عمادة شؤون أعضاء هيئة التدريس واللجنة التابعة لها، تضمين قبول الجامعة الجديدة لجملة (تحدد مدة دراسة الدكتوراه بثلاث سنوات)، فهي ثالثة الأثافي -كما يقال- وهنا الغرابة، بل الألم الشديد. فكيف يصدر هذا الطلب من دكاترة بجامعة الملك سعود وعمادة خاصة بشؤون أعضاء هيئة التدريس، وهم يعرفون تمام المعرفة أن بعض الطلبة يستغرق أكثر من ثلاثة أو أربعة أعوام؛ للحصول على درجة الماجستير من جامعة الملك سعود؟ فهل يعتقد هؤلاءِ الإداريون الدكاترة أن مدة دراسة الدكتوراه ثلاثة أعوام فقط، وكأنها دراسة المرحلة المتوسطة أو الثانوية في المملكة؟

ولأن عمادة شؤون أعضاء هيئة التدريس، واللجنة الدائمة للابتعاث والتدريب، ومدير الجامعة، وافقوا قبل عامين على ابتعاث محاضر آخر في القسم نفس، ولديه ظروف المحاضر (س) ذاتها إلى هذه الجامعة الأميركية نفسها، من دون اشتراط ثلاثة أعوام، أو قبول جميع المواد التي درسها في الجامعة السابقة، فقد قابل عميد الكلية رئيس القسم الذي يعمل فيه المحاضر (س) مدير الجامعة لشرح هذه الحقيقة وظروف المحاضر، ولحسن الحظ، وافق المدير على قرار ابتعاث المحاضر (س)، ملغياً الشروط التعجيزية لعمادة شؤون أعضاء هيئة التدريس. فالشكر والتقدير الكبير لعميد الكلية ورئيس القسم اللذين لم يستسلما للقرار التعجيزي لعمادة شؤون أعضاء هيئة التدريس ولجنتها، والشكر كذلك مقرون لمدير الجامعة على موافقته؛ لأن «الرجوع في الحق فضيلة». والسؤال المؤلم: لماذا تم تهميش قرار مجلسي القسم والكلية، طالما كانت هناك سابقة مماثلة للموضوع!؟

لوائح ومعايير أم مزاجية؟

منذ أحداث 11 سبتمبر 2001، والعالم العربي يعاني من شحٍ شديد في حملة الدكتوراه، من خريجي أميركا وأوروبا، وهو ما أدى إلى تنافسٍ شديد بين الدول الخليجية على استقطاب هؤلاء الأكاديميين العرب. لذلك لجأت جامعة الملك سعود (وبقية الجامعات السعودية) إلى التعاقد مع الأكاديميين السعوديين المتقاعدين، وفقاً لمعايير إسترشادية، وضعتها الجامعة بمسمى «شروط الاستعانة بأعضاء هيئة التدريس بعد التقاعد»، ولكل شرط منها درجة محددة. ومن أهم هذه الشروط: الدرجة العلمية للدكتور، العبء التدريسي، نسبة السعودة في القسم، أبحاث الدكتور، تقويم الطلاب للدكتور، تقرير رئيس القسم، تقرير عميد الكلية، موافقة مجلس القسم، وموافقة مجلس الكلية. ولكن، للأسف كانت هذه الشروط أو المعايير«الاسترشادية» أقرب ما تكون إلى «المزاجية»، منها إلى الاحترام والتطبيق. ونستشهد بثلاث حالات موثقة ومؤلمة، تؤكد حقيقة «المزاجية» في بعض قرارات التعاقد مع دكاترة سعوديين:

– دكتور حصل على درجة مرتفعة في شروط الاستعانة (التعاقد) وتخصصه نادر، وافق مجلس القسم بالإجماع على التعاقد معه؛ ولكن رفض مجلس الكلية بغالبية بسيطة. وبعد تظلمه للوكالة المعنية بالجامعة، وافقت إدارة الجامعة على التعاقد معه.

– دكتور حصل على درجة مرتفعة جداً في شروط الاستعانة، وافق مجلس القسم بالإجماع على التعاقد معه، وكذلك وافق مجلس الكلية بغالبية شبه مطلقة؛ ولكن يفاجأ برفض لجنة الاستعانة التعاقد معه. وبعد تدخل عميد الكلية ورئيس القسم والدكاترة السعوديين بالقسم لدى الوكالة المعنية بالجامعة، وافقت إدارة الجامعة على التعاقد معه عاماً واحداً فقط، في حين تعاقدت الجامعة عامين مع زملاءٍ له حصلوا على تقدير أقل منه في معايير التعاقد!

– دكتور عمره 75 عاماً، لا ينطبق عليه أي شرط من «شروط الاستعانة بأعضاء هيئة التدريس بعد التقاعد»، ومنقطع عن التدريس منذ أعوام مع إنتاج بحثي ضعيف جداً؛ يوافق مدير الجامعة على التعاقد معه عامين من دون المرور عبر مجلس القسم أو مجلس الكلية. وليس هذا فحسب، بل يتم تعيينه رئيساً لمعهد بحثي مهم في الجامعة بمسمى «مشرف»؛ للالتفاف على النظام، الذي لا يجيز للمتقاعد شغل وظيفة تنفيذية.

السؤال المؤلم: لماذا يستجدي ويتشفع الدكتور السعودي للحصول على حقوقه التي أقرتها لوائح ومعايير وضعتها الجامعة، في حين تكسر الأنظمة واللوائح والمعايير لآخرين غير مستحقين؟ وإذا كانت هذه المخالفات أو «المزاجية» في اتخاذ القرارات الأكاديمية تحدث في الجامعة التي كانت المثل الأعلى للجامعات السعودية، من حيث نزاهة تطبيق المعايير والأنظمة واللوائح والقرارات الأكاديمية والإدارية؛ فكيف هي الحال في بقية الجامعات، التي يعمل بها آلاف من أعضاء هيئة التدريس؟

كيف كنا، وكيف أصبحنا؟

يخطئ من يعتقد بأن موضوع «قصة يوسف» وتوأمها قضية المحاضر (س)، أو غرائب ومزاجية التعاقد مع الدكاترة السعوديين المتقاعدين، وغيرها من الأمور الأكاديمية، هي مواضيع صغيرة في جامعة الملك سعود، ولا علاقة لها بواقع التعليم العالي في المملكة. فالتركيز على جامعة الملك سعود ينبع من حقيقتين: الأولى أن «الحكم على الشيء فرع من تصوره»، والثانية أنها الجامعة الأم التي كانت منارةً للتعليم العالي، وكانت هي الجامعة الوحيدة التي كان لها نظام خاص بها قبل صدور نظام مجلس التعليم العالي والجامعات (1414هـ)، وكانت القدوة في العمل الأكاديمي المؤسسي. ومن ثم، فالخطأ الذي يحدث في جامعة الملك سعود لا محالة سيحدث أضعافه في كثير من الجامعات الحكومية الأخرى.

فلا يختلف اثنان على أن «العصر الذهبي الأكاديمي» لجامعة الملك سعود كان خلال فترة إدارة الدكتور منصور التركي (1399-1410هـ). فعلى الجانب الأكاديمي، كانت الجامعة آنذاك تدار بالمفهوم الأكاديمي المؤسسي؛ إذ كان رأي القسم الأكاديمي هو الأول والأخير في أي موضوع أكاديمي، ولا يستطيع العميد أو حتى مدير الجامعة تغيير قرار اتخذه أي قسم أكاديمي. ومن جانب الدور أو المسؤولية الاجتماعية للجامعة، كانت جامعة الملك سعود في تلك الفترة «خلية نحل» من الأنشطة الأكاديمية والثقافية والاجتماعية؛ فقد دارت في حرمها الجامعي الحوارات الثقافية والأدبية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتتلمذ أشهر الممثلين السعوديين على «خشبة» مسرح الجامعة، أمثال الفنانين عبدالله السدحان وناصر القصبي، وأنشد على مسرحها فنان العرب محمد عبده النشيد الشهير «فوق هام السحب».

ولكن بعد اعتماد نظام مجلس التعليم العالي والجامعات (1414هـ)، بدأت الجامعات الحكومية تدريجياً تفقد استقلاليتها وحيويتها، وخفت وهج إسهماتها ومسؤوليتها الاجتماعية، وبدأت وزارة التعليم العالي تدير الجامعات بقوة هذا النظام، إذ إن وزير التعليم العالي هو رئيس مجلس كل جامعة حكومية.

ومنذ تولي خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز دفة الحكم، وبدء الطفرة الاقتصادية الثانية، بدأ توسع كبير وغير مسبوق في التعليم العالي ومؤسساته في المملكة، إذ وصل عدد الجامعات الحكومية إلى 28 جامعة. وتحت مراقبة ومباركة وزارة التعليم العالي ونظام مجلس التعليم العالي والجامعات، أضحى موضوع تطوير جامعاتنا يغلب عليه الاهتمام بالمظاهر التي تتحكم بها الوفرة المادية.

وقد رافق هذا التوسع في التعليم العالي حدوث تضخم بيروقراطي خطير في الأجهزة الإدارية في كثيرٍ من الجامعات الحكومية؛ فبعد أن كانت الجامعة تحوي وكالتين (وكالة الجامعة، وكالة الدراسات العليا والبحث العلمي)، وثلاث عمادات مساندة (القبول والتسجيل، شؤون الطلاب، شؤون المكتبات) ازدحمت الجامعات بالوكالات (8 في جامعة الملك سعود، 6 في جامعة الملك عبدالعزيز، 6 في جامعة أم القرى)، والعمادات المساندة (12 في جامعة الملك سعود، 9 في جامعة الملك عبدالعزيز، 11 في جامعة أم القرى)، في هدر مالي ووظيفي وازدواجية وبيروقراطية غير مبررة بين كثير من وكالات الجامعة وهذه العمادات المساندة.

هذا التضخم في الإدارات في الجامعات الحكومية لم يتوقف على الوكالات والعمادات المساندة، بل انتقل إلى معاهد ومراكز البحوث والكراسي البحثية التي تكاثرت أعدادها في بعض الجامعات الحكومية، ووصلت أرقاماً لا توجد حتى في أعرق وأشهر الجامعات العالمية، ولكن للأسف، كثير منها ليس لها من واقعها وإنتاجها نصيب سوى الاسم. ويأتي على رأسها معهد الملك عبدالله «لتقنية النانو» بجامعة الملك سعود، الذي لا يزال -على رغم الاهتمام الكبير به من لدن «أبي متعب»، حفظه الله عند لقائه مسؤولي الجامعة- يبحث عن هوية بحثية ومستقبلية، ناهيك عن مبناه الذي لا يتعدى أطلال أعمدة خرسانية للدور الأرضي أكل الصدأ حديدها من طول توقف العمل، ولم نعد نسمع عنه سوى صدى تلك الفرقعات الإعلامية، التي صاحبت الإعلان عن إنشائه قبل أكثر من أربعة أعوام.

كذلك رافق التوسع في التعليم العالي ظاهرة خطيرة تعاني منها وزارة التعليم العالي، وأصابت مفاصل التعليم العالي في مقتل، وهي حقيقة عدم اكتراثها باستمرار تسابق كبريات الجامعات الحكومية على الوفاء بمتطلبات التصنيفات العالمية للجامعات، وشهادات الاعتماد الأكاديمي الخارجي (وحتى شهادة الآيزو)، بأي طريقة وأي ثمن. فها هي الوزارة تصمت عن «فضيحة» حصول قسم الرياضيات بجامعة الملك عبدالعزيز في تصنيف USNWR يو إس نيوز (http://alturl.com/wu2wr) على المركز السابع، بعد أن حصلت قبل ذلك بأسابيع على المركز العاشر في تخصص الرياضيات في تصنيف شانغهاي. هذا المركز «المتقدم» يعني أن جامعة الملك عبدالعزيز في تخصص الرياضيات تتفوق على جامعات عالمية مثل كيمبريدج، شيكاغو، MIT، وكولومبيا التي فازت كل منها بـ17-19 جائزة نوبل، وهو ما يؤكد أن وراء هذا «الإنجاز» لجامعة الملك عبدالعزيز مسؤولاً عبقرياً يترأس «إدارة مشتريات» لأبحاث وأسماء الباحثين العالميين، وليس قاعدة بحثية علمية رياضية سعودية، ولاسيما وأن قسم الرياضيات فيها لم يبدأ بمنح درجة الدكتوراه إلا قبل عامين فقط (1433هـ)، إضافةً إلى عدم حصول جامعة الملك عبدالعزيز حتى الآن على الاعتماد الأكاديمي من الهيئة الوطنية للتقويم والاعتماد الأكاديمي، التابعة لوزارة التعليم العالي. ليس هذا فحسب، بل فوجئ الجميع بحصول فقط ثلاث جامعات حكومية على الاعتماد الأكاديمي من الهيئة الوطنية للتقويم والاعتماد الأكاديمي، من إجمالي 28 جامعة حكومية، وهو ما يعني أن التعليم العالي يعاني من تضخم كمي وليس نوعي. وإن لم تكف هذه الفضيحة الأكاديمية العالمية التي تندرت عليها بعض الصحف العالمية والأكاديمية، فكيف بهيئة أميركية للاعتماد الأكاديمي غير معترف بها في بلدها ومتوقفة منذ 2010، استغفلت أكبر ثلاث جامعات حكومية تركض وراء «وريقة» الاعتماد الأكاديمي لإحدى كلياتها! وليس هذا فحسب، بل ومن دون إبداء أي سبب، تسحب صحيفة «عكاظ» التحقيق الأكاديمي التوثيقي عن هذه الفضيحة المؤلمة من عدد الأحد 15 صفر 1436هـ الموافق 7 كانون الأول 2014، وتعدم آلاف النسخ من الصحيفة، إذ أعدَّ هذا التحقيق ووثَّقه بالخطابات الأستاذ خالد طاشكندي، الذي سبق أن كتب مقالات عدة في هذه القضية.

كذلك فإن التدهور في التعليم العالي خلال الأعوام الماضية لم يتوقف عند الاهتمام بالمظاهر والفرقعات الإعلامية، وتركيز جامعات حكومية عدة على التصنيفات العالمية للجامعات والنشر الكمي في مجلاتISI، والاعتماد الأكاديمي من أي هيئة خارجية، بل انتقل إلى مرحلة خطيرة جداً، تمثلت في إقدام وزارة التعليم العالي على إنشاء كليات طب في كثير من الجامعات الناشئة، التي لا تملك أدنى مقومات النجاح الضرورية جداً لهذه الكلية الحساسة، ألا وهو المستشفى الجامعي؛ وهو ما ينذر بكارثة علميةٍ طبية خطيرة جداً، لا محالة ستؤثر في السمعة الممتازة جداً للطبيب السعودي، التي «حفرتها» كليات الطب في الجامعات الثلاث (الملك سعود، الملك عبدالعزيز، الملك فيصل) طوال الـ40 عاماً الماضية.

وأخيراً، رافق هذا التوسع في التعليم العالي تضخم وزارة التعليم العالي بجيشٍ من الدكاترة، «استعارتهم» من جميع الجامعات الحكومية للعمل لديها مستشارين متفرغين. وكان الاعتقاد السائد أن وزارة التعليم العالي ستستفيد من غالبية هؤلاء المستشارين -على الأقل في الرقابة الأكاديمية- على عمل وقرارات الجامعات الحكومية، في ظل رئاسة وزير التعليم العالي لمجلس كل جامعة حكومية، من ثم منع حدوث تجاوزات أكاديمية أو تهميش قرارات مجالس الكليات والأقسام الأكاديمية. ولكن خاب الظن، بدلالة الخطاب السابق لعمادة شؤون أعضاء هيئة التدريس وحيثياته المضحكة والمزاجية في التعاقد مع الدكاترة السعوديين، وفضائح التصنيفات العالمية للجامعات، واستمرار شركات تدريس السنة التحضيرية، وما خفي أعظم.

وعليه نتساءل: ما الوظائف التي يؤديها عشرات أو المئات من الدكاترة المستشارين المتفرغين في وزارة التعليم العالي؟

الواقع يؤكد أن جل عمل غالبية هؤلاء المستشارين هو عمل روتيني بسيط، يمكن لموظفين جامعيين القيام به، مثل الموافقة على إلحاق طلبة يدرسون في الخارج على حسابهم الخاص، أو الموافقة على انتقال الطلبة المبتعثين من جامعة إلى أخرى، أو تحديد الجامعات التي يمكن الابتعاث لها، وغيرها من المواضيع التي كانت تتولاها «سكرتارية» الملحق التعليمي في الأيام الخوالي، عندما كنا ندرس في أميركا. وهنا نتساءل: لماذا إذاً «استعارت» وزارة التعليم العالي هذا الجيش من الدكاترة المستشارين المتفرغين للقيام بأعمال روتينية بسيطة، في الوقت نفسه الذي استقدمت فيه الجامعات دكاترة أجانب ليشغلوا المقاعد التي تركها هؤلاء المستشارون؟

خلاصة القول -بعد الاعتذار للقارئ الكريم عن طول المقالة- أن الحديث عن هموم وتحديات التعليم العالي في المملكة يطول ويطول، وإن لم تكن هناك وقفة متخصصة فاحصة متأنية على مستوى رفيع جداً لتقويم الوضع الحالي في مؤسسات التعليم العالي وتحديد مسار واضح لأهدافها ومخرجاتها، فإننا لا محالة قريبون جداً من نقطة «اللاعودة». وتزداد خطورة هذه القضية على واقع المملكة ومستقبلها، حينما نعلم أن إجمالي عدد الطلبة والطالبات في التعليم العالي يقترب من مليون ونصف المليون.

المصدر: الحياة
http://alhayat.com/Opinion/mohamed-alqnaibt/6274689/