مقومات الحُكم ومؤشر العجز

آراء

أصدرت اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا “الإسكوا” التابعة للأمم المتحدة دراسة شاركت فيها مجموعة من الخبراء الدوليين، بعنوان “العجز في مقومات الحكم واحتمالات تكرار النزاعات في منطقة الإسكوا”. وتكونت الدارسة من مجموعة من الفصول منها: مفهوم الحكم، واتجاهات النزاعات المتقطعة في منطقة الإسكوا، وعلاقة الترابط بين العجز في الحكم وتكرار النزاعات، والخروج من دوامة النزاع والعجز في الحكم.

وتأتي الدراسة بتعريف لدراسة سابقة للحكم تقول: “أسس الحكم مجموعة من الأعراف والمؤسسات التي تُمارس من خلالها السلطة في بلد معين. وتتضمن الإجراءات التي يُستند إليها في اختيار الحكومات ورصد أدائها وتعاقبها، وقياس قدرة الحكومات على صوغ سياسات سليمة وتطبيقها، واحترام المواطنين والدولة للمؤسسات التي ترعى التفاعل الاقتصادي والاجتماعي”.

وإذا ما حاولنا تطبيق هذا التعريف -على أنظمة الحكم في منطقة الإسكوا- نجده بعيداً عن الممارسة السياسية حسب ظروف كل بلد ومقارباته التاريخية والجغرافية والاقتصادية والاجتماعية. والاختلاف في التطبيق كان وما زال منشأ النزاعات في هذه المنطقة، وذلك لغياب مدلول المصطلح أو التعريف. ولذلك لا يمكن التيقن من حدوث استقرار دائم وتنمية ناجحة في ظل عدم التناغم السياسي، والشكل الإداري للعلاقة بين السلطة والمجتمع. كما أن غياب عنصر الشفافية في أداء مؤسسات السلطة قد أحاط الإدارة بمجموعة من المفاهيم التي لا تتناسب مع الدولة العصرية. بما في ذلك تطبيق العدالة والمساواة ومبدأ تكافؤ الفرص، ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب ورُشد إدارة الثروة. ولذلك لا تمر عشر سنوات على المنطقة إلا وتفجرت حربٌ هنا أو نزاعات داخلية هناك، بل واقتطاع جزء من بلد، أو ضم جزء آخر لبلد مختلف. وغالباً ما تتطور هذه النزاعات لتشمل أبعاداً جغرافية أكثر. ويُلاحظ أن التغيّرات التي حصلت في دول “الربيع العربي” خلال العامين الماضيين كانت نتيجة غياب تطبيق مفهوم الحكم الرشيد؛ واستئثار السلطة بمقدرات البلاد دون مشاركة شعبية، وسوء إدارة المال العام، وتغوّل الأمن في محاصرة الناس والتضييق عليهم والتدخل في القضاء، ونشوء المحسوبيات، والتفرقة الاجتماعية ما بين “موالاة” و”جماعة الإقصاء”؛ وغيرها من الممارسات التي لا تجعل حياة المجتمع مستقرة وعادلة.
وترى الدراسة أنه “حتى عام 1993، كان عدد النزاعات المسلحة أكبر من عدد النزاعات المنتهية. وخلال السنوات الخمس الماضية تعثر المسار الإيجابي الذي بدأ في تسعينيات القرن الماضي، إذ ارتفع عدد النزاعات الدولية مجدداً”.

وعلى رغم أن النفط والثروات الطبيعية عموماً شكلت النزاعات في أكثر بلدان المنطقة، إلا أن عدم إشراك الناس في قضاياهم المُلحة، وانعدام توقعات الناس من الحكم في البلدان المتأثرة بالنزاعات تكاد تكون معدومة -كما يقول “إدوارد بيل” في بحثه الموسوم “المجتمع وبناء الدولة”، وكانت من الأسباب الملموسة التي أسهمت في النزاعات، حيث لا “تسيطر الحكومات على كامل أراضيها، أو لا يتشارك فيها السكان مفهوم الهوية الوطنية أو المواطنة”. ويربط “بيل” بين استشراء الفساد وبين “تغيّر ثابت في الثقافة السياسية، وفي توقعات الناس العاديين في المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ويجب أن يؤدي هذا التغيّر إلى وضع حد لثقافة التميّز والإفلات من العقاب”.

ومن تجاربنا العربية، فإن بقاء نهج الحكم لأربعين عاماً أو ثلاثين عاماً، وبقاء الرئيس “الجمهوري” -وغالباً ما يكون من أبناء المؤسسة العسكرية- طوال حياته في الحكم، مع تردي الأوضاع في بلاده، قد أجّج نزاعات عديدة حصرتها الدراسة كأمثلة في كل من: السودان، والعراق، وفلسطين، ولبنان، واليمن، على رغم أن بلداناً مثل: تونس، وليبيا، ومصر، وسوريا، قد عانت عجزاً في الحكم دون أن تدخل نزاعات حدودية واضحة، اللهم إلا في الحالة المصرية والسورية والفلسطينية والأردنية مع إسرائيل، وهو نزاع طويل ولا يتسع المجال لحصر أحداثه.

إننا نعتقد أن العجز في الحكم هو ما أدى إلى الثورات العربية مؤخراً، وتمثل هذا العجز في عدم تحديد مبدأ المواطنة أو حق المواطنة. فظلت الشعوب “رعايا” في دول يحكمها عقل العسكر، ويعيش الزعيم فيها مفصولاً عن الشعب ومعاناته، معتمداً على السلطة العسكرية والأمنية التي تحميه ولا تحمي الشعب. وهذا الزعيم مقتنع بأنه لن يحدث أي تغيّر في حكمه، طالما أنه ضمنَ ولاء الجيش والمنظومة الأمنية. ولكن تلك القناعات تبخرت مع انطلاق الثورة التونسية وما تلاها من ثورات في العالم العربي.

وهذه دراسة مهمة تحتاج إلى شرح طويل، وتحفل بجداول ومؤشرات العجز في الحكم، بما فيها: البيروقراطية، والفساد، ونفوذ المؤسسة العسكرية، وقياس الأنظمة السياسية الحاكمة، والحريات العامة، والإرهاب السياسي.

ونحن نعتقد أن كثيرين بحاجة لقراءة هذه الدراسة في منطقة “الإسكوا”، لأن الرياح التي تهب تشير إلى انتهاء عهود الهدوء المؤبد.

المصدر: جريدة الاتحاد