من أنت؟

آراء

بين فترة وأخرى وسط معترك الحياة وفي خضم أحداثها المتسارعة أجد نفسي محتاجاً للتوقف برهة .. أرجع خطوة إلى الوراء، وآخذ نفساً عميقاً أستجمع شتات نفسي، لأراجع ما مضى وما أنا مقبل عليه. أراجعها وفق مقاييسي التي أؤمن بها، ومنطلقاتي التي جعلتني أمضي في هذه الطريق أو تلك.

ومن أبسط تلك المقاييس والمنطلقات وأكثرها تشاركاً مع الآخرين كوني إنساناً .. إنساناً فحسب، دون ديباجة ولا هالات خادعة. ولكي نسترجع هذا المقياس من منابعه، علينا الاستماع لما قاله الفلاسفة الأوائل، حيث عرفوا الإنسان بأنه ذاتٌ عاقلة تمتلك الإرادة والوعي والحرية، وتعيش بموجب الحق والقانون، وتلتزم بالقيم الأخلاقية، وتسعى باستمرار إلى السعادة وتحقيق الأفضل. وهو بشكل فريد بارع في استخدام نظم التواصل للتعبير عن الذات وتبادل الأفكار والتنظيم. ويتميز بحسه الجمالي وتقديره وتذوقه للجمال وهو ما يبعث في الإنسان الحاجة للتعبير عن الذات والإبداع.

كما أن أصل كلمة إنسان في كلام العرب يرجع إلى معنى الظهور عكس الجن. فهو ظاهر في مبادئه وقيمه وأخلاقه ودينه الذي يؤمن به، فلا يستخفي ولا يتوارى كما يتوارى الجن.

فمجرد أن نتذكر إنسانيتنا نستحضر كل معاني النبل والتسامح والتواصل في سبيل تحقيق الأفضل للمجتمع الإنساني وصولاً إلى السعادة التي ينشدها الأسوياء من البشر، والتي أضحت مقياساً عالمياً تقاس به رفاهية الشعوب ومستوى جودة الخدمات المقدمة للإنسان. وبالطبع لا يمكننا هنا إغفال أن الإمارات صنفت في المرتبة السابعة عشرة كأسعد دولة عالمياً، والأولى بين دول منطقة الشرق الأوسط، بحسب الاقتراع الذي أجرته مؤسسة غالوب العالمية مؤخراً.

فإن كان أميز ما يميزنا كبشر هو استطاعتنا الشعور بالأحاسيس التي تلفنا وقدرتنا وحقنا في التعبير عن تلك المشاعر وإظهار قيمنا ومعتقداتنا وآرائنا في إطار من القوانين الحاكمة والأخلاق العالية، فهذا الحق وتلك الميزة وهاتيك القدرة منحتنا الاستحقاق لتبوّء شرف الاستخلاف في الأرض، مصداقاً لقول الله تعالى- مخاطباً الملائكة – عندما خلق آدم: «وإذ قال ربك للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفة…».

إن كان كل ذلك مقرراً، فلِمَ يخفق الكثير منا في التعبير عن مشاعره تجاه الأشخاص والأشياء والمواقف. ذلك الإخفاق الذي أضاع علينا أجمل لحظات حياتنا مع من نحب، فننسحب في اللحظة الحاسمة وملء أعيننا كلام لم نقدر على البوح به، فذهبت اللحظة وخلفت في صدورنا حسرة لن تذهبها الأيام. فكم منا – بعد زواج سنوات – مازال ينادي زوجته بما كانت تسمعه منه في الأيام الأولى؟ هو يحبها من كل قلبه، ولكن تمنعه اعتبارات بائسة من قبيل «كبرنا على هالسوالف»!!.. من منا يحتضن أبناءه كل يوم ويسكب في أسماعهم كلمات الحب والتحفيز والدعم؟ هو يضحي في سبيلهم كل حياته، ولكن يخونه التعبير دائماً! من منا يجد ابن الجيران يأتي بفعل مشين في غيبة أبيه، فيستوقفه ويكلمه أو يكلم أباه؟ أم نقول «ابعد عن الشر وغنيله»، بل هناك في المجتمعات المحافظة من لا يقدر على تقبيل رأس والديه وأيدهما خجلاً لأنه لم يتربَّ على أن يعبر لهما عن حبه العميق بهذه الطريقة الحميمية.

أنا لست هنا لألقي اللوم على التربية الأولى أو المدارس أو الإعلام أو .. أو .. إنما قصدت أن نتفقد قدرتنا على التعبير بصدق عن مشاعرنا وآرائنا، فإن كانت سليمة فلنحمد الله على ذلك، وإلا فعلينا البدء في المعالجة من الآن حتى لا يخرج أبناؤنا بعاهة تعبيرية مستدامة.

أيها السيدات والسادة، التعبير عن المشاعر والذات صفة لازمة لإنسانيتنا، فإن افتقدناها فإننا في الحقيقة افتقدنا جزءاً مهماً من إنسانيتنا .. والسلام.

المصدر: الرؤية