عبدالوهاب بدرخان
عبدالوهاب بدرخان
كاتب ومحلل سياسي- لندن

من يرسم مستقبل العرب: الإرهاب؟

آراء

هل انهار الجيش والأمن العراقيان فعلاً أم أن مَن أمرهما بالانسحاب أراد فتح الطرق أمام «داعش»؟ وإذا كان الانهيار هو المرجَّح، فهل يحدث فجأة في عتمة الليل ومن دون إشارات مسبقة؟ أما إذا كان الانسحاب هو الأرجح، فهل نُفِّذ إعراباً عن أن مناطق في العراق لم تعد تعني جيشه وحكومته لأنها… سُنّية؟! وإذ صاح نوري المالكي ومعارضوه، كلٌ يوجّه أصبع الاتهام إلى الآخر، بأن هناك «مؤامرة»، فهل يتساوى الناكب والمنكوب؟ وكيف تقول دمشق إنها وبغداد تحاربان عدواً واحداً، يُفترض أنه «داعش»، مع أن هذا التنظيم لم يقاتل أبداً ضد النظام السوري. أما النظام العراقي فيحاربه شكلياً بيدٍ ويستخدم فعلياً بيد أخرى؟ وعلى أي نحو سيكون «الجيش الرديف» الذي يبحث عنه المالكي؟ وهل سيأتي به من عشائر أمكنه اختراقها أم من أهالي مناطق عانت طويلاً من عَنَته وتعصّبه أم أنه سيسحب جزءاً من الميليشيات الشيعية المقاتلة بإمرة الإيرانيين في سوريا؟ وأساساً لماذا فعل كل شيء، وهو «القائد العام للقوات المسلحة»، ليعدم الثقة بين الجيش والمواطنين، وهل يستقيم أصلاً أن يكون «القائد» في بلد متعدد المكوّنات منتدباً لتطبيق أجندة تخريبية لا يضاهيها سوى أجندة «داعش»؟

ليس في ما يحصل أي مصادفة، ولعل في تسمية «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، ما يشير إلى مشروعٍ «داعشي» لكنه في التفاصيل يتطابق مع مشروع إيراني. وفي أقل تقدير يعبّر عن أهداف بعيدة المدى تلتقي عندها أنظمة إيران والعراق وسوريا، بدليل أن كل تحركات «داعش» كانت ولا تزال بمثابة خدمات، لا يجني ثمارها سوى الأنظمة الثلاثة هذه. فعندما كان التنظيم لا يزال فرعاً لـ «القاعدة» جرى استخدامه إلى أقصى حدّ لجعل أيام الاحتلال الأميركي صعبة في العراق، وبواسطته قاومت دمشق وطهران كل النيات التي أعلنها الأميركيون للتدخل وتغير نظاميهما غداة سقوط نظام صدّام حسين. وعندما أصبح «الدولة الإسلامية في العراق»، راح يستهدف خصوصاً «صحوات العشائر» السُنّية وشبابها المقاتلين تعزيزاً للدولة العراقية، وسُجّل تراجع كبير لعملياته ضد الأميركيين بالتزامن مع بدايات نشوء التفاهم بينهم وبين الإيرانيين على «تقاسم النفوذ» في العراق. أما قرار دخوله سوريا وضمّه «الشام» إلى اسمه فجاء خصوصاً بعد اعتماد «جبهة النُصرة» كفرع لـ «القاعدة» إلا أن قادة «النصرة» اتخذوا منهجاً آخر، إذ انخرطوا في القتال ضد النظام، وقاوموا اختراقات عملائه الذين بادروا إلى عمليات تفجير استُنكرت دولياً على نطاق واسع، وأتاحت للنظام أن يركز دعايته على محاربة للإرهاب.
أما أين يلتقي المشروعان «الداعشي» والإيراني ففي أكثر من موضع. أولاً على المستوى إدارة الصراعات: فالطابع المذهبي ازداد بروزاً في الأزمتين السورية والعراقية، وفيما تولّت روسيا والصين لجم المجتمع الدولي بتخويفه بـ «الإرهاب الإسلامي»، أي «السُنّي» فحرمت المعارضة السورية من الدعم والتسليح جرى ضخّ «الداعشيين» إلى مناطق السُنّة لإرباك المعارضة وإشعال قتال سُنّي – سُنّي في مناطقها، وضرب أي آمال لها بالحصول على دعم عسكري يمكنها من الحفاظ على معادلة ميدانية متكافئة، ويمنحها بالتالي موقعاً تفاوضياً جيداً. أما في العراق فمع اتضاح فشل المالكي في معالجة الأزمة مع المحافظات السُنّية، وإصراره على تحقيق هدفين في آن (محاربة داعش وإخماد على الاحتجاجات السُنّية)، ورفضه كل الحلول السياسية التي اقتُرحت عليه من جانب واشنطن والعديد من الأطراف العراقية بمن فيها الشيعة، وسعيه إلى ولاية ثالثة في المنصب بقبول إيراني (رغم اعتراضات الشيعة الآخرين)… كل ذلك أدّى إلى ترجيح «معاقبة» السُنّة بترك «داعش» يتحرك لإنشاء «دولته».

أما المستوى الآخر لالتقاء المشروعين، فيتعلّق بتدشين فتح الخرائط لجولة أولى من «الحلول» المقترحة. وليست الذريعة هنا أن نظامي بشّار الأسد ونوري المالكي أفسدا الدولتين، بل إن الإرهاب – «السُنّي» – مصرّ على رسم مستقبل المنطقة العربية، وأن «داعش» (مع حاضنته الاجتماعية) يريد إقامة «دولته»، أي أنه هو من يبدأ عملياً مخطط التقسيم، فلا عجب في هذه الحال إذا تطلع نظاما الأسد والمالكي إلى «الحلول» المتاحة أمامهما، وطالما أنهما لم يبادرا إلى طرح التقسيم، إلا أنهما سيتعاملان مع «الأمر الواقع» الذي يفرضه الإرهابيون، أو بالأحرى ساعدا الإرهابيين على فرضه، وهذه «الدولة» الداعشية، إذا قدّر لها أن تقوم فعلاً، ستكون الفزّاعة التي ستستخدمها إيران وحلفاؤها لهزّ استقرار المنطقة وزعزعة خرائطها.

يحدث ذلك عشية بلوغ المفاوضات النووية محطة استراتيجية حسّاسة، فإما النجاح في التوصل إلى اتفاق، وإما الفشل وتأجيل التفاوض، وفي مختلف الأحوال تواصل إيران تلاعبها بمجرى الأحداث لتعيير حقائق ولخلق وقائع على الأرض. فهي تضغط بالملف السياسي لنيل تسهيلات في ملفها النووي، وإذا لم تنلها تكون ضاعفت الصعوبات في التفاوض على حدود نفوذها السياسي والعسكري في الإقليم.

المصدر: الاتحاد