د. ميثاء سيف الهاملي
د. ميثاء سيف الهاملي
كاتبة و شاعرة إماراتية

العزلة ..آخر عتبات الشيخوخة

آراء

( وحانعمل إيه ؟ ) .. عبارة يرددها بأسى كلما غص بمرارة سرد الذكريات العتيقة، والتي يراها قريبة جداً يكاد يلمسها ونراها بعيدة بل موغلة في القدم، ومعتقة بتاريخ حافل كنا نسمع عنه وقرأنا منه الكثير، تاريخ حافل بالأدب والثقافة والفنون، من أم كلثوم لنور الهدى، لعبدالحليم وفريد الأطرش، زمن مختلف لرموز مختلفة، طرزت حياة أجيال وأجيال بالروعة والدهشة .

تنقل بين لبنان وجبل الدروز وصولاً إلى القاهرة ثم ليستقر بعد ذلك في أمريكا، ويكمل دراسته التي أرغمته لقمة العيش على قطعها بعد الثانوية، فنال درجة الدكتوراة والعديد من العضويات في الجامعات الأمريكية العريقة، له عدة مؤلفات غنية بالتجارب والنظريات العلمية والإنسانية، منها ما حقق أعلى نسبة مبيعات رحظي باهتمام بين الأوساط المثقفة وكذلك السياسية، وحرص الرئيس الأمريكي آنذاك الحصول على أحد مؤلفاته إبان حرب الخليج وتحرير الكويت .

رغم أنه قد تخطى التسعين من العمر عتيّاً، مازال يحتفظ بذاكرة حديدية لأدق التفاصيل ويعمل على إعداد كتابه الجديد، وتجده متواصلاً مع العديد من الأصدقاء عبر الشبكة العالمية، يراسلهم باستمرار عن طريق إيميله وتشرفت أن أكون أحد أصدقائه في هذا العالم الرحب وذلك بعد ان التقيته ذات مرة صدفةً في فينيسيا بيروت، حيث يقيم الآن وذلك بعد أن استقر أبناؤه في أميركا، وكان قد باع منزله أثناء الحرب الأهلية في لبنان، منتهى حلمه كما قال أن يحيا يموت على ذراع شخص يحبه لذاته ويحنو عليه، فهو لف العالم ولكن (يفتقد الحب الحقيقي)!

صدقاً ودعته وأنا أحمل غصة لا تفارقني حتى الآن كلما تذكرت حوارنا، ومنذ ذاك اللقاء وأنا أتساءل :
من لهذه العقليات المتفردة ؟ هل من العدل التخلي عنها في عز حاجتها؟ من للفكر الذي أغنى مكتباتنا طوال عمره ؟ هل من عزاء لشيخوخة الفكر ؟

مؤلم أن تجد نفسك في هذه المرحلة من العمر وبعد هذا السيل من العطاء وحيداً تستجدي قلبا يحتويك لتلفظ أنفاسك الأخيرة بجانبه، قاسٍ هذا القدر الذي يجعل الأبناء تجحد كفوف والديها التي أوصلتها لما هي عليه .

قال : كسبت الكثير من المال والشهرة والأصدقاء، ولكن لم أسعد بقلب واحد يحتويني، حتى زواجي كان بحكم الطائفية التي لا ذنب لي أني ولدت منها ولا أعترف ولا أؤمن بكل معتقداتها، فكانت النتيجة زواجاً استمر 30 عاماً دون حب وانتهى بالإنفصال، وأولادي زوّجتهم بعد أن نالوا أعلى الدرجات العلمية ويرفضون الآن عيشي بينهم لأن أزواجهم يريدون ذلك !

( وحانعمل إيه ) ..
لازال يرددها بغصة، تعلم العزف على العود وشارك في فيلم في القاهرة وعاد للبنان بعد قيام ثورة الضباط الأحرار 1952، غنى العديد من النصوص في بداية تسجيل الأسطوانات ونسبت بعد سفره لغيره، أسس أول أوركسترا للأطفال في أميركا.. كل هذا .. و يعاني الآن الوحدة والعزلة، ولا عزاء لشيخوخة الفكر.

( ما تنسيني ، وضلي إسألي عني، أنا لساتي طفل، العمر بيغير ملامحنا بلا رحمة، بس أنا ما دخلني، أنا بعدني صغير، أو هيك بحس جواتي).

ودعته عائداً لجناحه وبيته الحالي في الفندق، وتركني مع فنجان قهوتي، وكوبه من عصير البرتقال الفارغ .

خاص لـ ( الهتلان بوست )