عندما تجود الغيمة

آراء

عندما تجود الغيمة، تصبح المدينة وردة برية تتوضأ بالبلل، والشارع ساقاً تمتد مسترخية عند مهد البراءة، والناس فراشات تغسل وعيها بالجمال، وتمضي نحو القطرات، وكأنها امرأة بدوية تغادر المضارب كي تلحق بركب الجاثيات عند نبع، ببلاغة السماء، ونبوغ السحابات السخية.

لا شيء يملأ العين غير ذاك الرحيق السماوي المنسدل خيوطاً، فضية كسلسال على نحر، أو أسور يطوق اللدن من بضاضة الجسد الغض.

الله كم هي الغيمة رخية، ورضية، وعطية، وندية، تجتاح الضمير الكوني بفصوص من نفيس السماء، وتمتطي صهوة جموحها، سارجة خيول المحبة، باتجاه تعشيب، وتخصيب، وتخضيب، وترطيب، كي يغفو العالم على نغمات المطر، وسيمفونية الوجود المرنمة بفعل قيثارة جياشة، من صنع طبيعة خلابة، مهابة، لا تعرف سوى النث، والحث، والبث.

الله كم هي الغيمة رهيبة في معانيها، كم هي مهيبة في مغزاها وطياتها واعطافها، تتهادى عند خصر، وقد، وخد وتحبك قصتها مع الجمال في رواية بثيمة ممتلئة بالأحلام، حيث القطرة، تتبع قطرة، وحيث النقرة تلاحق نقرة، كأنها قلب السماء يثري الحياة نعومة، ويمنحها البهاء، وكأن الوجود يستولد نبضه من وحي تلك الغيمة المتحدرة من نسل الأبجدية الكونية، حيث كان الخلق في تشكله بدأ من دفقة، وحيث التداخل بدأ من شهقة لغيمة في الأعماق تسكن في التلافيف، وتستقر عند التجويف الأبعد.

الله.. الله كم هي الغيمة أسطورية في شالها الشفيف، كم هي سحرية في لغتها السرية، وهي تخطب ود المدينة الزاهية، الرابضة عند كل رمش، وجفن، مدينتي، ورائعتي التي تلهمني في كل صباح معنى أن أكون في الوجود جناحاً يحلق، ورفرفة تقلب وجهي الليل والنهار كي يستمر الوجود بلا انقطاع يسبك نفائس حلمه.

الله هذه الغيمة، ومدينتي الموشومة بالجمال، جناحا طير يفتش عن نسقه في غضون الأشياء الغامضة، والوسيمة، ويطرح أسئلة الوجود، ولا يمضي، لأن الأشياء الخالدة تكمن في الضوء مثل فيروز الشطآن، مثل مركب عريق يعبر الخلجان، ولا ينحني للموجة، لا تنثني له راية.

مدينتي وهذه الغيمة، صنوان لا يفترقان في شتاء ربما لا يبرد كثيراً، في الدفء يختلس معطفة المخملي، ويتكئ على أريكة الأحلام الزاهية، ثم يرفع النشيد عالياً، منادياً أولئك العشاق العتاه، هيا لنصلي للحياة، هيا لنقول للعالم شتاؤنا جميل، وقلوبنا تعشق الحياة، والعشاق كثر، بعدد حبات الرمل في صحرائنا النبيلة.

المصدر: الاتحاد