كم أنتِ عظيمة

آراء

كم أنتِ عظيمة، فلا تكفيك الدفاتر، ولا يتسع عطاؤك المحيطات، ولا توازيكِ الجبال الشم، ولا تساويكِ أحلام الطفولة.

فأنتِ.. أنتِ التي تحملت وزر العمر، وعلى كتفك وضعت جرة الماء لتسقي أطفالاً فتحوا أفواه الأمل لينجلي عنهم ظمأ الليالي وشظف النهار.

أنتِ التي وقفت عند عتبة الخيمة تستشرفين شروق الشمس كي تبدئي رحلة اليوم الجديد إلى تلك البقاع البعيدة سعياً لقطف ثمرات الغاف والسمر لتورين موقف اللقمة الساخنة، أنتِ ولا سواك التي أخذت على عاتقكِ مسؤولية بناء الجدران العالية، أنتِ التي قلت ذات يوم ستكبر يا بني وستكون العضد لأبيك والسند لأمك، وها أنتِ اليوم تسجين جسداً على مهد المراحل المتأخرة وعيناك تبحلقان في اللاشيء، وقلبك يهتف لأجل القبلة المتشظية، أنتِ اليوم أيتها العظيمة تحتفل بك الجهات والعالم يصفق لك، لأنك أنجزت وبرعت وأدهشتِ وأذهلتِ ولم تزل يداكِ المعروقتان تند بالعرق ووجهك المنحوت بالأخاديد يطل على مهجتي بابتسامة أروع من لمعة النجم وأجمل من ومضة القمر.

أنتِ أيتها العظيمة، تكبر القامات وهي تطل على عينيك الشاسعتين، وتكبر العزائم والناس يقرأون في كتابكِ المسطر بالذهب، وأنتِ.. وأنتِ التي علمتني كيف أمسك بزمام الحلم، وكيف أمتلك أجنحة الطير وأحلق في فضاءات حكاياتك الليلية يوم كنت ترفعين النشيد عالياً وتهزين مهد الصغير، وتقولين بحشرجة نم حبيبي كي تشرق الشمس من دون رتوش أو غبش، ولكن الصغير يظل مشاغباً، ويستمر في البكاء المخادع، لأنه لم يزل لم يشبع من تقليب الأحلام التي زرعتها في رأسه وجعلت مخيلته مزرعة أرانب بيضاء ناصعة الحلم.

كبر الصغير ولا تزال عيناكِ تشاغب طفولته، وتمنحه العزيمة كي يثب إلى حيث تكمن الآمال العريضة، كبر الصغير وفي عينيه ترتسم صورتك وأنتِ ترفلين بثوب الصيف الرهيف وتقبلين نحوه تضمينه وتهمسين في أذنه متى تكبر لتصنع من الأحلام رغيف النشوء والارتقاء، متى تكبر يا حبيبي لتمسك الراية من بعد أبيك؟ ثم تقبلين جبينه وتضمينه بفرحة وقلبك يفتح جداول الحنان، حيث تنمو نخيل البهجة في صدر الصغير.

رجوتك ذات مساء بأن تخلي سبيل الدمعة المحبوسة تحت جفنيكِ، فقد أحببتكِ وأنتِ تذرفين الدمع، أحببتك أيتها العظيمة وأنتِ تغسلين وجنتيك بملح العينين، لأن في دمعك سيدتي شعشعة الحب، وبالحب أنتِ صنعت أوتاد الوطن، وزرعت في قلبي غافة الصبر.

شكراً لك أيتها العظيمة يا أم الحياة، ويا دورة الدم في جسدي، ويا حلم الطير في عيون عشاق الوطن، شكراً لك أيتها العظيمة، خبزتِ وفي الليالي السود عجنتِ همهمات الانتظار لأجل فجر يشع في عيون الأجيال، ولأجل نهار يملأ أفنية قراء روايات التاريخ، وما جابته إلى الأفئدة من بصائر وأبصار.

شكراً لك أيتها الأم العظيمة.. شكراً لك.

المصدر: الاتحاد