للمكان عطر الزعفران

آراء

المكان في الذاكرة قنينة عطر، وزعفران معتق، المكان في المخيلة قصيدة عصماء لا تنتهي فصولها، بانتهاء الخطوات على الأرض.

هناك في الوعي تكمن صورة مثلى لوجوه، وبوح، هناك حلم يتمشى على جفون اللاشعور، ويضع مرود الكحل أثمداً بارعاً في رتوشه على رمش الحياة.

الله كم هي الحياة جلية، وجليلة، وهي تشخب الروح بسطوتها اللذيذة، وهي تسكب دماءها حرى على مدمع، وجرح، لونه من لون شفاه لمياء، ورقته من رقة وجنات، في سحنتها ورد، وشهد.

المكان هو ذلك الخيط الواقع بين الوتين وتينة الفؤاد، هو ذلك الجذر في أتون التراب هو ذلك النبع في ضلع الأرض الأيمن.

المكان باب موصد أو منفتح، هو نافذة العبور إلى الماضي، كما أنه خليج المرور إلى المستقبل، ونحن العشاق في المابين موجة لا تتوه بوصلتها، بل تتهادى كي تصل، وترد نبعاً، أو ربيعاً في ثنايا الأمنيات العريضة.

هو هذا مكانك أيها السارد، الشارد في بطون القصائد، وفي صدرها، وعجزها، أيها المغرد عند آفاق، أو أخفاق، أيها المنشد المعنى، هو هذا مكانك، وأنت فيه ريشة، أو حتى جناح، تخطب ود الريح كي تحملك إليه، إلى ذلك المكان، رغم القرب، ورغم الاتساع في رصيف الذهاب والإياب، فإنك تشتاق، ويعتريك الهلع عندما تنظر إلى ساعة العمر، فتجد أنها قد قاربت الغروب، وأن الشمس لم تعد تمد خيوطها المشعة كي ترى أنت نفسك، فتجاعيد الزمان قد تعجرفت، وتطرفت في حفر أخاديدها، وبعثرة تراب العمر بين هذا وهذاك، وبين هذه وتلك، وأنت في الوصال حبل مشدود بين لا نهايتين كما قال نيتشه، وأنت في الوصال أغنية قديمة قدم الدهر.

في المكان تبدو الأرواح طيوراً، والعيون نجوماً غائرة خلف الدخان، والأحلام أجنحة تحلق فوق رأسك، ولكنها لا تلمسك، تشعر أنك في الحياة بوصلة تحطمت عقاربها، ولم يبق سوى قارب يخب، ويدب، ويكب مداد بحره في البحر، ليستعيد ما خبأه في الجوف، ثم ينظر إلى العميق، فيرى البحر لم يزل صامداً رغم المجاديف التي تجرح صدره، رغم الأمنيات التي تتعب سماءه.

المكان هو ذلك الموقع المؤزر بتضاريس القلب، ومشاهد أشبه بومضات، ووجوه مثل قطرات الندى تهطل ثم تذوب، ثم تتوارى، ثم تتلاشى، ثم تصبح أنت في العزلة، ذاكرة تثقبها ويلات الزمن.

المصدر: الاتحاد