الخميس ٢٦ ديسمبر ٢٠١٩
ينتمي الدكتور محمد شحرور إلى طائفة من المفكرين، الذين لا يرون أنفسهم مديِّنين لأعراف المؤسسة الدينية التقليدية أو قيمها. وهو لا يرى نفسه مديناً لرواة الحديث ولا للفقهاء والمفسرين، ولا لمنهجهم في قراءة النص الديني واستنباط الشرائع. بل إنه لا يكتم إنكاره للقيم والقواعد التي يجلونها أيَّما إجلال. يعمل شحرور على أرضية فلسفية ومنطق استدلال مختلف. ولهذا؛ فليس ممكناً أن يبلغ النتائج ذاتها المتعارفة في المدرسة الدينية التقليدية. في السطور التالية بعض أبرز العناصر التي تميز منهجه عن نظيره المتعارف في هذه المدرسة: أولاً: يتعامل شحرور مع الدين كبرنامج بحث مفتوح لكل الأجيال. يفهم الخطاب القرآني على ضوء توسع الإنسان في فهم «كلمات الله» أي قانون الطبيعة. ولذا؛ سيكون لكل جيل تفسيره الخاص المرتبط بما يستجد من معارف. إن تفسير القرآن في زمن، يعكس بالضرورة المعارف المتوافرة في ذلك الزمن. لا يتعلق الأمر بالمحتوى اللغوي، بل باستيعاب الرابطة العميقة بين الخطاب الرباني وقانون الطبيعة. يتعارض هذا التأسيس مع المنطق الداخلي للمدرسة التقليدية في جانبين مهمين: أ- اعتبار رأي الأسلاف مرجعياً مقدماً على رأي المعاصرين؛ لأنهم أقرب لزمن الوحي. ب- التعامل مع تفسير القرآن كمعالجة للتركيب اللغوي والفني في النص. ثانياً: ما سبق يعني أيضاً أن جانباً من المنظومة الدينية اجتهاد بشري بحت. فهي ليست بكاملها سماوية (وفق ما يصوره الخطباء…
الخميس ١٢ ديسمبر ٢٠١٩
أرى أن غالبية المسلمين سيحبون الفكرة التي نادى بها روجيه جارودي، فكرة الإسلام المفتوح، الذي يحتمل كل الناس وكل الأفكار، وعلى الخصوص أولئك العلماء والفلاسفة والمصلحون والمخترعون، الذين ساهموا في صناعة تاريخ البشرية أو تقدم المجتمع الإنساني، بنحو من الأنحاء. الفكرة بذاتها جذابة ومثيرة للاهتمام، فهي تحاكي توقاً عميقاً في أنفس البشر لرؤية تجسيدات الخير مجتمعة متعاضدة. يعتقد كل إنسان أنه وسائر البشر الآخرين، أميل إلى فعل الخير، وأنهم قادرون على ابتكار الأفعال التي تجسد الخير وتنميّه. ولهذا لا يرون عيباً حين يضعون أيديهم بأيدي غيرهم الذين على ملتهم أو على سواها. لا يتوقف عامة الناس عند اختلافاتهم العقدية أو الثقافية. أنت ترى آلافاً من الناس يأتون إلى الأسواق كي يبيعوا أو يشتروا، فلا يسأل أحد منهم عن معتقد الآخر أو انتمائه الاجتماعي، كما لا يسألون عن صانع السلعة. لكن هذا ليس نهاية القصة. ولا ينبغي أخذ الأمور بهذا التبسيط. دعنا نمثل بحال الولايات المتحدة، التي تألفت عند تأسيسها من مهاجرين، وما زالت تدين لمهاجرين قدامى وجدد بازدهارها العلمي والاقتصادي. مع ذلك؛ فإن الشعارات التي أوصلت الرئيس الحالي دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، هي الشعارات الداعية إلى وقف الهجرة وإبعاد ما أمكن من المهاجرين. كذلك الحال في أوروبا التي يتفاقم فيها التيار السياسي المعادي للمهاجرين، رغم حاجتها الماسة إليهم كأيدٍ…
الأربعاء ٠٦ نوفمبر ٢٠١٩
مقال الأسبوع الماضي الذي تعرض للاختلاف التاريخي حول الطبع الأولي للإنسان، أثار جدلاً غير قليل. ثمة قراء رأوا أن الخير هو الطبع الأصلي للإنسان، وثمة من قال بالرأي المعاكس. هذا الجدل لفت انتباهي إلى مسألة متصلة بنقاش آخر يدور في بلدنا، منذ صدور «لائحة الذوق العام» أواخر الشهر الماضي. وتضمنت اللائحة عقوبات مالية على سلوكيات غير لائقة عرفياً، لكنها لم تصنف في الماضي جُنحاً أو جنايات. بيان المسألة على النحو الآتي: نفترض أن العقوبات التي يضعها القانون – أي قانون، وأي عقوبة - غرضها ردع الأفراد عن القيام بالفعل المحظور. يهمني الإشارة هنا إلى أن بعض العقوبات في التاريخ القديم كانت تستهدف الانتقام من الجاني، كما أن البعض الآخر استهدف تمويل خزينة الحاكم. لكن هذه العقوبات لم تعد قائمة في عصرنا الحاضر. خلاصة القول، إن العقوبات التي يعرفها عالم اليوم، غرضها - في الأعم الأغلب - هو الردع، وفي نهاية المطاف تقليص الخروج عن القانون أو العرف إلى أدنى مستوى ممكن. حسناً... ما هو معنى «الردع»؟ أي ما هي طبيعة الانعكاس إلى تحدثه العقوبة في نفس الإنسان، بحيث يمتنع عن الفعل المحدد؟ أعلم أن بعض القراء سيقولون في أنفسهم: هذا كلام زائد لا خير فيه؛ لأننا في نهاية المطاف نتحدث عن «امتناع الفرد عن فعل بعينه» وهذا ما يحدثه الإعلان…
الأربعاء ٣٠ أكتوبر ٢٠١٩
ما كتبته وكتبه زملاء آخرون حول الميل للعنف في الشخصية العربية، لا يستهدف إدانةَ الثقافة العربية، بل تحليل ظاهرة، من دون ادعاء أنه منزه عن الخطأ. يهمني تأكيد هذه النقطة، لأنَّ بعض القراء الأعزاء بذل جهداً مضنياً في بيان أن البشر كلهم ميالون للعنف، وأن الأوروبيين فاقوا العرب في هذا، وأن عنف العربي كان في الغالب رد فعل على عدوان أعدائه... إلخ. وأريد استثمار المناسبة للفت الأنظار إلى ما أظنه مشكلة عامة في التداول الثقافي، تتجلَّى في الانزلاق السريع من المناقشة النقدية (وهي الطريق الطبيعية لتطور الثقافة) إلى التبجيل أو الاعتذار والتبرير. ولا ينفرد المجتمع العربي بهذا النهج، فهو معروف في كل مكان تقريباً، وقد أطلق عليه في الولايات المتحدة، في وقت سابق، اسم «الماذا - عنية Whataboutism». ويراد به التنديد بالناقدين الذين يغفلون سياق الموضوع، ويركزون على مجادلة شخص الكاتب، أو إثارة نقاط غير ذات صلة. وأحتمل أن التسمية تستبطن نوعاً من السخرية. وقد استعملت أيضاً في سياق الإنكار على السياسيين والكتاب الذين يخدمون أجندات سياسية. ولعل الرئيس الأميركي ترمب هو أحدث من قيل إنه «Whataboutist» أي أنه يتبنَّى نهج «الماذا - عنية» كما يظهر في نقاشاته وخطبه، لاسيما حين يدافع عن نفسه أو سياساته. وبعض الموارد المتصلة بهذا مذكور في مواقع متعددة. زبدة القول إنه ليس من الفطنة…
الأربعاء ١٨ سبتمبر ٢٠١٩
بعض الناس غير واثقٍ بقدرة الإسلام على التعامل مع تحديات العصر الجديد. لهذا يتساءل بصيغة: «هل يستطيع الإسلام؟». آخرون يعتقدون أن الإسلامَ قادرٌ (أو ينبغي أن يكون قادراً)، ولهذا فإن سؤالَهم يأتي في صيغة: «كيف يستطيعُ الإسلام؟». والذي يتراءَى لي أن كلا السؤالين معقول، بل قد يكون ضرورياً. كل فكرة تدعو الناس إلى اتباعها، فإن للناس حقاً مشروعاً في أن يتساءلوا عنها، وأن يشككوا فيها، وأنْ يطلبوا البرهان على سلامتها، قبل وبعد أن يتَّبعوها. من ناحية أخرى فإنَّ أي نظام فكري أو قانوني، يحتاج إلى مراجعة بين زمن وآخر، للتحقق من قدرة عناصره على تحقيق الغايات التي يفترض أن تنتج عن تطبيقها أو الالتزام بمقتضياتها. نعرف أنَّ لكل جزءٍ من أجزاء الدين وظيفةً أو غايةً يُبتغى بلوغها. قد نتحدث عن الإيمان والعبادة فنقول إن غرضهما تعميق صلة الإنسان بربه. ونتحدث عن الشريعة (القانون) فنقول إن غرضها تحسين مستوى معيشة البشر، أو نتحدث عن القرآن فنقول إن غرضه إثارة العقول ودفعها للتفكر في الخلائق، ما هو مشهود وما هو غيب، معانيها وسبل كشفها والسنن الناظمة لها، والصلات القائمة بين أجزائها وعناصرها. قد يحصل أحياناً أن تتلاشى فاعلية أحد الأجزاء المذكورة، فتنقطع صلته بموضوعه. فنقول إن هذا الجزء قد تخلف عن زمنه. دعنا نأخذ على سبيل المثال عقوبة القتل، التي تطبق باعتبارها…
الخميس ١٥ أغسطس ٢٠١٩
أفكِّرُ أحياناً أن الجدل المعاصر حول القيمة النسبية لكل من العقل والنص في تكوين الفكر الديني، يرجع جزئياً على الأقل، إلى مشكلة أخرى يشار إليها ولا يصرح بها، أعني بها الحاجة إلى الفصل بين الأفكار والأشخاص، وتوليف منظومة فكرية وقانونية وأخلاقية تعتمد على استدلال معياري، وليس على النسبة إلى أشخاص بعينهم. ما دفعنا لإثارة المسألة هو أن الاستدلال بآراء علماء الدين المتقدمين والمتأخرين، تحوّل إلى تمهيد ضمني لمنع مجادلة آرائهم أو نقد منهجهم في الاستدلال. ويبدو أن مقاومة النقد قد جرى تمديده إلى كل شخص أو فكرة أو موقف له علاقة بالدين، ولو على سبيل الظن والاحتمال، حتى لو كان من العادات أو عرضيات الشريعة ومتغيراتها. وأحدث الشواهد ما حدث في عيد الأضحى. فقد تحدث أحد الخطباء في السعودية عن عمل النساء واعتبره نوعاً من السقوط. وزارة الشؤون الإسلامية تبرأت من الخطيب وخطبته. لكن عشرات الناس نصبوا أنفسهم مدافعين عنه وعمَّا قال، لأنهم رأوا فيه دفاعاً عن سنة جارية، يسندها إجماع العلماء في العصور الماضية. والحق أن الجدل حول عمل النساء لا موضوع له أصلاً. لأن العمل ذاته من الفضائل التي حثَّ عليها الشارع المقدس. ولم يرد تمييز بين العاملين على أساس جنسي، عدا ما نقل عن فقهاء من آراء يرجح أنها متأثرة بالظرف الاجتماعي الذي كانوا يعيشونه، أي أنها…
الأربعاء ٢٤ يوليو ٢٠١٩
لا أظنُّنا سننتهي من سؤال العلاقة بين العلم والدين، إلا إذا توصلنا إلى فهم لغايات الدين، ونطاق اشتغاله غير الفهم الذي ورثناه عن الأسلاف. لقد فكَّر المئات من الناس في هذا السؤال، واختار معظمهم جواباً سهلاً، لكنه غير مفيد، خلاصته القول بالترتيب بين الاثنين أو القول بعدم التعارض. لهذا بقيت القضية شاغلاً لدعاة الإصلاح الديني، الذين رأوها أساسية في النقاش حول مكانة الدين في هذا العصر، وأنها مقدمة على كثير ممَّا يهم عامة الناس. المسألة بذاتها مهمة، لأن حياة البشر المعاصرين، تقودها معارف علمية تطورت في سياقات بعيدة عن الأديان والقيم الروحية. هذا يعني أن الافتقار لفهم صحيح للمسألة، ربما يؤدي إلى احتلال العلم مقعد القيادة، بالنظر لأن الناس يرونه أكثر ضرورة لحياتهم، وبالتالي دفع الدين إلى هامش الحياة. وفيما مضى كنت أظنُّ أن هذا الجدل مرتبطٌ بالاتصال بين المسلمين والغرب. لكن ظهر لي لاحقاً أنه قديم. فقد أثار اهتمام الفيلسوف والفقيه الأندلسي المعروف أبي الوليد بن رشد (1126 - 1198م) الذي خصص اثنين من كتبه لإثبات إمكانية التلاقي بين مناهج الاستدلال العقلية ونظيرتها الدينية؛ هما «الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة» و«فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال». المسألة التي دعت ابن رشد إلى خوض هذا النقاش، هي ذاتها التي تشغلنا اليوم، أعني سؤال «هل…
الأربعاء ١٧ يوليو ٢٠١٩
قدَّم أرسطو تنظيراً مفصلاً نسبياً حول النظام الكوني وقانون الطبيعة، منطلقاً من الرؤية التي تبناها سقراط، وهو زعيم المدرسة الفلسفية التي ينتمي إليها أرسطو. وقد ساد في الفلسفة اليونانية، منذ بداياتها، اعتقاد في عقلانية النظام الكوني، وانبهار بالترابط الفائق الدقة والانضباط بين حركته وغاياته. انطلاقا من هذه القناعة سعى أرسطو، الذي لقب بالمعلم الأول، إلى وضع ما يمكن اعتباره نظاما موحدا لحياة المجتمع البشري، مستلهما من قانون الطبيعة. اعتقد أرسطو أن العلاقة التفاعلية بين أجزاء النظام الكوني ووحداته المختلفة، تشكل أنموذجاً تحتذيه المجتمعات البشرية، إن أرادت بلوغ غاياتها الكبرى، لا سيما السلام والسعادة والكمال. نعرف أن الفلسفة المعاصرة قد تجاوزت آراء أرسطو. إلا أنه ما زال يحوز الإعجاب بين شريحة عريضة نسبياً من قراء الفلسفة المحافظين، الذين يجدون تنظيراته قريبة من اهتماماتهم. ويبدو أن هذا التقدير يجمع المحافظين من مختلف الأديان، وحتى من غير المتدينين. وأشير هنا إلى نقطتين في نظرية أرسطو، تشكلان عنصر توافق بين مختلف التيارات المحافظة: أولاهما قوله إن المعايير والأخلاقيات التي تنظم الحياة الاجتماعية، هي حقائق موضوعية غير قابلة للتغيير والتبديل. بمعنى أنها ليست من صنع الناس، وليس للناس حق في تبديلها وتعديلها. أما الثانية فهي اعتقاده بأن الطبيعة أرادت للمجتمع أن يكون منظماً على أساس هرمي، وأن أهل الحكمة والعلم يحتلون أعلى الهرم، حيث إن…
الأربعاء ١٠ يوليو ٢٠١٩
من يطالع تاريخ البشرية، سيرى من دون عناء أن المجتمع البشري يتغير باستمرار. يطال التغيير أنماط العيش وعلاقة الناس ببعضهم، وعلاقتهم بالبيئة والطبيعة. ويتساوق التحول المادي في المحيط مع تحول موازٍ في الذهن، يطال القناعات والمعارف والتصورات والقيم، وهي النافذة التي ننظر من خلالها إلى العالم المحيط بنا. ولذا فإن ما نراه اليوم، يختلف عما كان يراه أسلافنا. ليس لأن الشيء ذاته تغير، بل لأن النافذة التي ننظر من خلالها قد اختلفت. ولا خلاف في أن هذا التغيير تصاعدي. البشرية اليوم أكثر عدداً وعلماً وقوة وغنى وسيطرة على الطبيعة، أي أكثر تقدماً وتحضراً. وانعكس هذا التقدم على أعمار البشر وإنتاجهم. فطبقاً لما ورد في كتاب «حقائق العالم 2016 - 17» الذي نشرته وكالة المخابرات المركزية الأميركية (سي آي إيه)، فإن المتوسط العالمي لعمر الإنسان في بداية القرن العشرين، تراوح بين 30 و45 سنة، بينما تجاوز 67 عاماً في 2009. ما الذي يهمنا من هذا كله؟ أعتقد أن فهم قيم الدين واستيعاب المسافة بين العقلاني والميتافيزيقي، مشروط في جانب كبير منه، بموقفنا من مفهوم الزمن ومعنى التاريخ. ثمة فهم تراثي (أفضل وصفه بالتراثي بدل الديني) فحواه أن التاريخ يسير في اتجاه عكسي، أي أن العالم يزداد فساداً كلما توالت السنين. وبناء على هذا فإن القديم عموماً خير من الجديد، وأن القرون…
الأربعاء ١٩ يونيو ٢٠١٩
أعلم - مثل كثير من القراء - أن الدعوة المعاصرة للتجديد الفكري والفقهي، لا تلقى ترحيباً في الوسط الديني. بل لا أبالغ لو قلت إنها تواجه بنوع من الارتياب والتشكك، في مبرراتها وتوقيتها والجهات التي تتبناها، والقضايا التي تطرحها كأمثلة عن الحاجة إلى التجديد. «تجديد الدين» مصطلح مألوف في أدبيات المدرسة الفقهية التقليدية. لكنه مختلف عن المفهوم الذي يثير النقاش في عالم اليوم. الأسئلة التي يطرحها المفهوم الجديد، والشواغل التي تشغل المهتمين به، لا تماثل تلك التي تشغل رجال المدرسة التقليدية. دعاة التجديد في الفكر الديني اليوم، لا ينتمي غالبيتهم إلى طبقة رجال الدين، بل إلى نخبة ثقافية تشكلت قناعاتها أو تطورت في إطارات العلم الحديث. ومن هنا فإن مجالات اهتمامها تشكلت في سياق انتقال المجتمع أو الاقتصاد إلى الحداثة. هذا يعني - ضرورة - أن هذه النخبة تنتمي، من حيث التصنيف الاجتماعي، إلى دوائر مصالح حديثة نوعاً ما، متعارضة مع تلك التي تنتمي إليها المنظومة التقليدية. تباين النسق الاجتماعي - المعرفي، واختلاف دوائر المصالح، أضاف نقاش التجديد إلى مسار الصراع الذي لا يخلو منه مجتمع في طور النمو، بين دعاة الحداثة وحماة التقاليد. وبالنظر لهذا السياق، فليس متوقعاً أن ينحصر الجدل حول تجديد الدين في المستوى النظري، أو صراع الأفكار، بحسب تعبير الراحل مالك بن نبي. التقليديون يصفون دعاة…
الأربعاء ٢٢ مايو ٢٠١٩
أستطيع القول، من دون تحفظ، أن الإصلاح الديني رهن بالتعامل مع ثلاث معضلات؛ أولها وأصلها فيما أظن هو هيمنة النهج الفقهي على التفكير الديني، أما الثاني، فهو الاستسلام للنهج الإخباري في وضع القيم والأحكام، وأخيراً تحويل الاحتياط إلى معيار للتدين. أعلم أن هذه دعوى عريضة. ويعلم القارئ أن المجال المتاح لا يسمح بمجادلة مطولة حولها. ولذا سأكتفي بشرح موجز للمعضل الأول، طمعاً في إثارة الأذهان للتفكير فيه، وهذا غاية المراد. موضوع علم الفقه هو «فروع الدين» التي تنقسم إلى عبادات ومعاملات. وغرضه استنباط الأحكام، أي تحديد الواجب والمحرم والمكروه والمستحب. وبسبب انحصاره في هذه الدائرة، فإن تطور العلم واتساعه، انصرف إلى البحث عن مزيد من الأحكام، أي توسيع دائرة الموضوعات الشرعية. ومع مرور الوقت بات التوسع في الأحكام، مجالاً للتنافس بين المشتغلين بعلم الفقه. حتى لو سألت أحدهم عن رأي الشرع في زرع هذا النوع من الشجر أو ذاك لأفتاك، ولو سألته عن حكم هذه الرياضة أو تلك لما تأخر في الجواب. لا يكترث الفقه بأحوال القلوب، قدر ما يركز على الشكليات والأفعال الظاهرة. ومن هنا فإن معيار التمييز بين المتدين وغير المتدين هو السمات الظاهرية، أي ما يظهر على الإنسان وما يراه الناس في شكله الخارجي ولباسه ولغته. في الوقت الحاضر يشكل علم الفقه بوابة الولوج إلى علوم الشريعة.…
الأربعاء ٠٨ مايو ٢٠١٩
إنه خيار يبدو بسيطاً. لكن عاقبته عسيرة جداً. ولهذا يتجنب غالبية الناس المخاطرة به. موضوع هذا الخيار هو الفكرة التي طرحتها في الأسبوع الماضي، أي دعوى أن للإنسان دوراً في إنشاء القيم الدينية وصياغتها وتعديلها. وقد عالجت الفكرة من زاوية مألوفة نوعاً ما، وهي كون العقل مصدراً للتشريع، موازياً للمصادر الثلاثة الأخرى (الكتاب والسنة والإجماع). وقلت يومئذ إن القبول بدور العقل هذا، والقبول بالعلم (البشري) أداة لتشخيص موضوعات القيم والتعاليم الدينية، يعني – بالضرورة – أن الإنسان شريك في وضع الأحكام الشرعية والقيم الدينية. الذين يتبنون هذه الفكرة، يرونها تعبيرا عن منطق الأمور، وليست خيارا نأخذه أو نتركه. فحتى الذين يرفضون دور العقل كمصدر مستقل للقيم الدينية، مضطرون للقبول به كوسيط لتفسير مفهوم الحكم الشرعي وتحديد موضوعه وكيفية تطبيقه. من المفهوم أن كلا الفريقين يتحاشى الذهاب بالمسألة إلى نهاياتها المنطقية. وبيانها على الوجه الآتي: النهاية المنطقية لقبول الدور التشريعي للعقل، هي القبول بتهميش كبير أو صغير لدائرة الأحكام التي ورد فيها نص في القرآن والسنة. لأن موضوعاتها زالت من الوجود أو تغيرت بشكل جذري، ووضع أحكام جديدة لم ترد سابقاً في أي نص. أما النهاية المنطقية لرفض ذلك الدور، فهي القبول بعدم وضع أي حكم جديد، بالوجوب أو بالتحريم، على أي موضوع لم يذكر في الكتاب والسنة. لأن وضع الأحكام…