السبت ١٦ فبراير ٢٠١٣
لميخائيل نعيمة رواية جميلة عنوانها «اليوم الأخير»، تحكي قصة رجل يسمع في منامه صوتاً يقول له «قم ودّع اليوم الأخير!» فيستفيق فزعاً متسائلاً عن مصدر ذلك الصوت. ويدرك بعد قليل بأن أمامه أربعا وعشرين ساعة قبل أن يموت، فيتذكر الأشياء المهمة التي عليه إنهاؤها قبل الرحيل، ويتساءل، طوال القصة، عن مغزى الحياة والموت. وبينما هو كذلك تدخل عليه خادمته وتسأله عن سبب تغير حاله، وفي خضم حوارهما الوجودي يسألها «أم زيدان، أتعرفين ما هو الموت؟» فترد عليه «الموت هو الموت يا ابني. ما هذا السؤال؟» فيسأل «أتحبين الموت؟» فتقول «ومن يحبّه؟ لا كان الموت.» ثم يسألها «أتحبين الله؟» فتقول مستنكرة ومأكّدة «ومن لا يحب الله؟ المجد لاسمه» فيباغتها بسؤال فلسفي، لكونه أستاذاً في الفلسفة «والله هو الذي ابتلانا بالموت. فكيف تحبّينه وتكرهين الموت؟» فيوقعها في حيرة لم تخرج منها إلا باعتراف إنساني محض «مَن أنا يا بني لأفهم إرادة الله سبحانه وتعالى؟ أنا أمّ زيدان لا أكثر ولا أقل.» ولا شك بأن سؤاله وإجابة أم زيدان هما تجسيد لصراع وجودي ظل يؤرق الناس والفلاسفة لآلاف السنين. فمع مرور الزمن واتساع المعرفة، كثرت الأسئلة حول الحياة والموت، إلا أن الإجابات تزداد شحّا وسطحية، حتى قال الفيلسوف الهندي أوشو: «إن الحياة ليست مشكلة تُحَلَّ، بل لُغزٌ يُعاش.» فكل تساؤلات الإنسان، حسب قوله،…
السبت ٠٢ فبراير ٢٠١٣
عندما سافرتُ للدراسة في أميركا قبل سبعة عشر عاماً، وكنتُ أول أصدقائي الذين اتخذوا قراراً بالدراسة في الخارج، تجمّع عدد كبير من الأصدقاء والأحباب لتوديعي في المطار. كان المشهد غريباً، فلم يكن أصدقائي هم الذين حضروا فقط، بل بعض أصدقاء أبي أيضاً. كانت تلك أصعب رحلة في حياتي، حيث لم أكتفِ بالبكاء في الطائرة، بل أصابتني حُمّى في الطريق من لندن إلى واشنطن. تكيّفتُ مع المكان بصعوبة، حيث كانت واشنطن مدينة جافة، هكذا أتذكرها، وكنتُ أقول لأبي كلما تحدثتُ معه عبر الهاتف بأنها مدينة مُظلمة؛ مليئة بالسيارات الدبلوماسية السوداء ولا تصلح للطلبة. وما زلتُ أحتفظ بالرسائل التي كانت تصلني من أهلي وأصدقائي عندما كنت هناك، فلم يكن البريد الإلكتروني حينها إحدى الوسائل المتاحة للجميع. وفي يوم من الأيام وصلتني رسالة من أحد أصدقائي يشتكي إلي فيها مِن غيابي، ويُطالبني بالعودة لأُصلح بينه وبين صديق آخر كما كنتُ أفعل دائماً. أما أمّي فلقد كانت تحكي لي في رسائلها عن كل شيء يدور في حياة العائلة، ولم تكن تنسى أن تُذيّل كل رسالة بحضّي على الصلاة، وتذكيري بأنها تحبني وتدعو لي في كل ليلة. وأجمل رسالة كانت من أبي؛ حيث صارحني، لأول مرة، بمدى حبّه لي، وكيف كان يشعر بفقدٍ في حياته بعد غيابي. وعندما عدتُ من السفر كان حضور الأصدقاء في…
السبت ١٩ يناير ٢٠١٣
عندما كُنتُ صغيراً كانت جدتي مريم، رحمها الله، تحكي لي عن رحلاتها إلى الكويت والبحرين وعُمان. وكانت دمعة تُباغتُ مقلتها كلما ذَكَرت أصدقاءها في تلك الدول حيث لم تكن تقوى على السفر حينها. ولم تفتأ تتحدث عنهم بالخير وتذكر حكايات الأوقات الجميلة التي قضتها عندهم. وكنتُ في زيارة إلى البحرين قبل سنوات، فأخذني صديقٌ لتناول الغداء في بيت أحد أقربائه، وكان عجوزا، أصرّ على لقائي لأنه، على حد قوله، قد اشتاق لرائحة الإمارات، ولكن تردي وضعه الصحي ما عاد يسمح له بركوب الطائرة وتكبّد عناء السفر. استقبلنا بحرارة وقدم لنا غداءً بحرياً رائعاً، وبعد أن انتهينا قدّم لنا الشاي، وبينما نحن نتحدث ذكرتُ له أن جدتي قضت مدّة في البحرين، وعندما سألني عن اسمها وأخبرته، قام من مكانه وهوى على رأسي يُقبّله ويبكي. ثم نادى زوجته وقال لها: "تعالي، هذا ابن مريم" فأخذت تبكي هي الأخرى. قالا لي عندما تمالكا أنفسهما بأن جدّتي سكنت عندهما عندما زارت البحرين، وكانت نساء الحي يأتين بأطفالهنّ إليها لتعالجهم، فلقد كانت طبيبة متخصصة في الأعشاب والأدوية الشعبية. وقبل أيام تابعنا بطولة (خليجي 21) لكرة القدم، وأجمل ما كان في البطولة هو برنامج المجلس الذي بثته قناة الكاس، وعلى رغم الحروب الكلامية التي دارت فيه، إلا أن المشاركين من الجيل الجميل من أمثال حمود سلطان…
السبت ٠١ ديسمبر ٢٠١٢
للمؤلف سلطة على العقل، وهو المسؤول، إلى حد بعيد، عن خلق الأنساق الفكرية التي تشكل في مجموعها الثقافة العامة في أي مجتمع. ولكن يبدو أن فكرة (المؤلف) هذه قد سقطت؛ حيث لم يعد هو المرجع الذي يلجأ الناس إليه للإجابة على تساؤلاتهم الكبرى والمحيرة؟ أي أنه لم يعد مصدر الفكرة، ولا حتى الشرارة الأولى للإلهام. فالثورات العربية الحديثة، على سبيل المثال، لم تقم على أفكار مؤلفين أو مدارس فكرية، كما حدث في الثورتين الأمريكية والفرنسية. بل كان مصدر إلهامها هم الشباب الذين منحوها حيوية وديناميكية. وعلى رغم أن ذلك أدخلها في شتات وفوضى لأنها لا ترتكز على مبادئ فلسفية ونهضوية مشتركة، إلا أنه أمر طبيعي وستتجاوزه في السنوات المقبلة دون شك. ولكن ماذا سيكون دور المؤلف في عملية التجاوز المرجوة تلك؟ وهل سيكون للكُتاب دور في إعادة تشكيل هذه "الأنساق الثورية" المشتتة؟ ما نراه اليوم هو رجوع القارئ إلى نصوص قديمة محاولا استلهام رؤية مناسبة لما يدور حوله. وقد يكون هذا إعلان صامت لموت فكرة المؤلف التي طرحها الفرنسي (رولان بارت) في مقاله المعنون بـ "موت المؤلف" والتي دعا فيها إلى فصل النص عن كاتبه وفهمه في سياقه الآني دون الحاجة لربطه بمؤلفه. ويبدو المؤلف العربي اليوم إما منفصم عما يدور حوله، أو منغمس في تفاصيل الأحداث اليومية حتى صار…
السبت ٢٤ نوفمبر ٢٠١٢
كان (جوردون) أحد رؤساء البنوك الاستثمارية في الولايات المتحدة وهو رجل أعمال ناجح، يتحدث أربع لغات ويدير مؤسسة ذات ربحية عالية. وفي يوم من الأيام، وبعد أن أجرى له الطبيب بعض الفحوصات قال له: «أنت مصاب بالزهايمر» أي مرض فقدان الذاكرة؛ فبدأت حياته بالاضمحلال تدريجياً حتى توفي بعد بضع سنوات. وتقدر الإحصاءات عدد المصابين بهذا المرض بأكثر من 36 مليون إنسان حول العالم. وهو المرض الوحيد الذي لا يمكن تجنبه، أو الشفاء منه أو حتى إبطاؤه. ولذلك يخطئ من يعتقد أنه نوع من (الخَرَف) وفقدان ذاكرة، بل هو موت بطيء ناتج عن تحلل خلايا المخ وانكماش حجمه تدريجياً. يقول الأطباء إن الزهايمر لا يقضي على الذاكرة فقط، ولكنه يسحق كيان المصاب به، وهو ما اسموه (فقدان الشخصية) لدرجة يصل فيها المريض إلى نسيان طريقة لبس ثيابه؛ وكأنه طفل صغير. حيث يدمر الزهايمر الخلية العصبية في الدماغ، التي تعد لوحة التحكم المركزية في الذاكرة. ولكن يقول بعض الأطباء بأن الوقوف إلى جانب المصاب بالزهايمر وإحاطته بالحُب قد يخفف من آثاره النفسية. ما أصعب أن ننتظر الموت، والأصعب منه أن ننسى أسماء من نحب، ونفقد القدرة على استرجاع ذكرياتنا معهم. ينظر إليك مريض الزهايمر دون أن يستطيع الكلام، وقد يبتسم أحياناً وكأنه يقول لك: «مازلتُ أتذكرك، ولكنني لا أعرف كيف أقول ذلك»!…
السبت ١٧ نوفمبر ٢٠١٢
في بدايات الحراك الفكري في أوروبا – إبان القرن الثاني عشر – الذي أدى بها لشق طريقها نحو النور، بدأت المدارس والأفكار الفلسفية بالبروز على سطح الفكر الإنساني. وكان من أهمها في تلك الفترة الفلسفة المدرسية أو ما عُرِفَت بـ “السيكولائية” وهي فلسفة قائمة على التوفيق بين الفكر اليوناني المتمثل في أطروحات أفلاطون وأرسطو، وبين تعاليم الكنيسة التي كانت مسيطرة آنذاك على كل مناحي الحياة ومنها المدارس والنظام التعليمي في أوروبا. وكان من المشتغلين بهذه المدرسة الفيلسوف الفرنسي (بيير أبيلار) الذي عُنِيَ باستخدام المنطق لفهم المسيحية الصحيحة والدفاع عنها. ويظهر أثر أبيلار واضحاً في مسار الفكر الديني الفلسفي في كتابه (نعم ولا) الذي وضّح فيه تناقضات الفكر اللاهوتي المسيحي آنذاك حول المبادئ الدينية. وظهرت مشكلة أبيلار مع الكنيسة عندما تحدث عن فكرة التثليث، وقال بأن “وحدانية الله هي النقطة الوحيدة التي يتفق فيها أعظم الأديان وأعظم الفلاسفة” فرُمي بالإلحاد وتصدى له رجال الكنيسة ثم صدر أمرٌ بحبسه في الدير لسنة كاملة، إلا أن مرسوماً بابوياً صدر بعد مدة قصيرة وأفرج عنه. ولقد أُصيب أبيلار بالصدمة والإحباط وقال في ذلك: “يعلم الله كم مرة فكرتُ تحت ضغط يأس عميق في الرحيل عن الأرض المسيحية والعبور نحو الوثنيين للعيش هناك في سلام، دافعاً الجزية لأعيش مسيحياً بين أعداء المسيح”. ولقد كان يتحدث…
السبت ١٠ نوفمبر ٢٠١٢
تجلس في أحد المجالس فتترنح الأحاديث بين آخر الفتاوى الغريبة وبين مواقف السياسيين وتصريحاتهم في المنطقة. فمعظم المنابر الإعلامية في عالمنا العربي مقسمة بين رجال الدين والسياسة؛ ولا تنتهي نشرة أخبار حتى يبدأ برنامج وعظي أو آخر للفتاوى المباشرة التي تتزاحم فيها اتصالات السائلين عن أحكام كل تفاصيل الحياة، بدءاً من حكم الاحتفال بالعيد الوطني، إلى كيفية تنشئة جيل قارئ ومثقف. وتبرز المشكلة الحقيقية عندما تُخَصَّص ساعات على التلفاز لتفسير الأحلام، وكأن الأمة قد فرغت من علوم الطب والاقتصاد والتكنولوجيا ولم يبق لها سوى تفسير الأحلام حتى تتصدر قوائم التنمية البشرية! لذلك يبدو الفرق واضحاً بين أمة مشغولة بتفسير الأحلام وأخرى مشغولة بتحقيقها. لا أدري لماذا ننتظر من رجال السياسة في منطقتنا العربية أن يحلوا جميع قضايانا الشائكة، ويبددوا الأزمات الاقتصادية، ويُنزِلوا السلام والاستقرار في المنطقة. وننتظر من رجال الدين أن يعطونا حلولاً في تربية أطفالنا، ويدلونا على أفضل الطرق لتنمية مهاراتنا الخطابية، ويخبرونا عن التاريخ والسيرة، ويقدموا نقداً أدبياً في الشعر الحديث! وننسى أن السياسة التي نتعاطاها ليل نهار، والدين الذي نتشاتم باسمه ويحاول كل طرفٍ إثبات أحقيته فيه، هما فقط مكونان من مكونات الفكر الإنساني. إن إحدى مشكلاتنا أننا ننظر في منطقتنا العربية إلى الأشياء من منظاري الدين أو السياسة، وننسى أن هناك منظاراً ثالثاً هو منظار الحياة،…
السبت ٢٠ أكتوبر ٢٠١٢
«ساهمَت تجارة الرقيق في تدمير المجتمعات الإفريقية، ودفعت بالأوروبيين إلى إنكار انسجامهم ثم فرض ثقافتهم عليهم، وبالتالي قاموا بالاعتداء على هوية الأفارقة (…) وفي بداية القرن السابع عشر بدأ التجار في لندن باستيراد الذهب والعاج من إفريقيا، إلا أنهم لم يعرفوا شيئاً عن شعوبها. وكل ما كانوا يتداولونه هو قصص خرافية عن مدن مملوءة بالذهب، ما أدى إلى تجاهل ثقافات تلك البلاد، وصارت إفريقيا مصدراً رئيساً للعبيد، وتحول هذا الجهل إلى عنصرية استُخدِمَت لاحقاً لتبرير أبشع أنواع الاستغلال». كُتِبَت هذه الفقرة على جدار في متحف ميناء لندن، وخُصص فيه قسم كامل للحديث عن تجارة العبيد التي اشتهرت في أوروبا إبّان تنافس دولها قديماً على استنزاف ثروات الشعوب الإفريقية. ويستغرب زائر المتحف من الكتابات التي «تعترف» بعنصرية الأوروبيين والإنجليز تجاه الأفارقة وكيف قاموا باستعبادهم واضطهادهم. ولم يخجل المؤرخون من انتقاد ذلك التاريخ الذي وصفوه بالعنصري والمظلم، حيث وُضِعَت فقرة على نفس الجدار لأحد المؤرخين قال فيها: «من الغريب أن شعوباً تُعَدّ اليوم أحد أكثر شعوب العالم تحضراً، كانت تظن في يوم من الأيام أن العبودية، والسرقة، والقتل أعمال ليست إجرامية». ويخلص الزائر في النهاية إلى أن الشعوب الأوروبية قد كانت بربرية في الماضي، ولكن لأنها اعترفت اليوم بأخطائها القديمة، فإنها استطاعت أن تتخلص من أعبائها النفسية، وتجاوزت صراعاتها الحضارية، ثم تفرغت…
السبت ١٣ أكتوبر ٢٠١٢
كان يعمل طاهياً في أحد الفنادق الشهيرة في الهند، وفي يوم من الأيام مرّ في قريته فرأى إناسا يأكلون من فضلات الآخرين في القمامة، فقال في نفسه: «ما الغاية من حياتي؟ وكيف أُطعمَ الناس كل يوم ولا أستطيع إطعام أهل قريتي!». فاستقال من عمله في عام 2002 وتفرّغ لإطعام الفقراء حتى اليوم. وفي مقابلة لقناة سي إن إن، قال (ناريانان كريشنا) الذي ينحدر من عائلة براهماتية، إنه يحرمُ عليه كبراهماتي هندوسي أن يقرب الفقراء والمعوزين أو يلمسهم، ولكنه عندما فكّر أيقن بأن في جسد كل إنسان 5.5 ليتر من الدم، مما يجعل الناس كلهم سواسية في عينيه. ولم تعد أشكالهم أو أعراقهم أو أديانهم تهمه، وكل ما يهمه هو إدخال السعادة على قلوب المحتاجين. حيث يصحو كل يوم ليحضر لهم الإفطار، ومن ثم يقوم بزيارة المنبوذين فيطعمهم ويغسل أجسامهم ويحلق شعورهم، ليشعرهم -على حد قوله- أنهم بشر مثلنا. ويضيف: «الطعام يُغذّي أجسامهم، والحب يغذي أرواحهم». ويُحكى أن المهاتما غاندي كان يلحق بقطار وعندما قفز إليه سقطت فردة حذائه على سكة الحديد، فقام بسرعة بخلع الفردة الأخرى ورماها إلى جانب الأولى، فاستغرب من معه وسألوه عن فعله، فقال لهم: «حتى عندما يجد فقير هذا الحذاء يستطيع أن يستفيد منه». إلا أن العبرة ليست في فعل غاندي أو في تضحيات كريشنا، ولكنها…
السبت ٠٦ أكتوبر ٢٠١٢
عندما كنتُ موظفاً حكومياً طُلِبَ مني مرة أن أقدم عرضاً لمجموعة من الزوار عن خدمات المؤسسة التي كنت أعمل بها، ولقد كنتُ حريصاً على أن يكون ذلك العرض مختلفاً وجميلاً. ولكنني كنتُ مرتبكاً وخائفاً ألا يكون كما أتمنى، وعندما أدرك مديري ما بي قال لي إن كل ما علي فعله هو أن أروي قصّة! فتخيلتُ المكان الذي كنتُ أعمل فيه على أنه واحة صغيرة، والموظفون قافلة تسير في الصحراء، وبعد أن أتعبها المسير ووصلت إلى الواحة، قررت أن تستقر فيها وتبني مدينة. واسترسلتُ في سرد قصة المكان وكيف استطعنا أن نجعل منه مكاناً صالحاً للعيش، ثم بدأنا نقدم خدماتنا للقوافل المارة (وفي هذه الحالة الزوّار والمراجعين). وبعد أن انتهى العرض وانصرف الحضور فرحين، فهمتُ ما قصده مديري؛ فالناس تُحب القصص، حتى وإن كانت سخيفة، أكثر من الأرقام والحقائق، لأننا عندما نرويها نكون أقرب شيء إلى حقيقتنا. فالحكايات لغة عالمية، تتخطى الحواجز الثقافية، وتَرْتُق فجوة العُمر، وتتجاوز الحدود السياسية. وهي الجسور التي تصلنا بالتاريخ، وذاكرتنا هي الأعمدة التي تحملها عبر الزمن. وعندما نروي نسافر مع السنين، دون أمتعة أو خطط، ودون وجهة أو مواعيد للإقلاع والهبوط، ودون الحاجة إلى مسكن، لأننا حينها نسكن أحداق من يستمعون إلينا، ثم لا نخشى أن نهوي مع دمعاتهم، لأنها ستعود بنا إلى الأرض؛ منبع كل…
السبت ٢٩ سبتمبر ٢٠١٢
على تخوم الربع الخالي، في واحة صغيرة كانت ملاذاً للقوافل العابرة لإحدى أقسى صحاري العالم؛ يمتد مشروع «ستراتا» لتصنيع أجزاء الطائرات على مساحة 25 كيلومتراً مربعاً بالقرب من مطار مدينة العين. عندما تسمع عن المشروع لأول مرة تظن أنه حملة دعائية للإمارات، أو مصنعاً مملوكا لبوينج أو إيرباص، تقومان من خلاله بصيانة الطائرات الصغيرة في المنطقة. ولكن الحقيقة تقول إنه مصنع إماراتي، يديره إماراتيون ويعمل به إماراتيون وإماراتيات. يُصنّعون فيه، ولا يجمعون، قطعاً من أجنحة طائرات الإيرباص، ويعكفون حالياً على تصنيع أجزاء لطائرات الـ A380 العملاقة. ليصبح قريباً المصنع الوحيد في العالم الذي يُصنّع تلك الأجزاء. وعندما سُئل رئيس مجلس إدارة ستراتا عن سر إقامة مشروع كهذا في الإمارات، قال إنه يمكن الوصول إلى 75% من سُكّان العالم بالطائرة من الإمارات خلال ثماني ساعات فقط. أي إن هذه المنطقة هي إحدى أكثر مناطق العالم تهيئة لصناعة الطائرات. وعلى بعد ساعة واحدة إلى الشمال، يمكن لمن يسكن دبي أن يشهد إقلاع وهبوط طائرات طيران الإمارات على مدار الساعة، حيث ورد في تقرير الشركة عام 2007 أنه في كل ست دقائق تقلع أو تهبط إحدى طائرات طيران الإمارات حول العالم. وأخبرني أبي أنه كان مرة واقفاً في طابور التذاكر في إحدى المطارات العربية، وكان الرجل الواقف أمامه يسأل الموظف عن طريقة لبلوغ…
السبت ١٥ سبتمبر ٢٠١٢
- كنتُ على وشك دخول معرضٍ فني في المتحف البريطاني عُرِضَت فيه لوحات وقطع فنية تعكس صورة لندن وأنماط الحياة فيها أيام شكسبير، وكانت زيارة ذلك المعرض أحد أهدافي من الذهاب إلى لندن. وصلتُ المتحف قبل أن تُغلق أبوابه بقليل، وقبل أن أدخل اتصل بي صديق عزيز جداً، ولأنه غير مسموح لأحد استخدام هاتفه في داخل المعرض؛ قررتُ الوقوف خارجاً وبقيتُ أتحدث معه لنصف ساعة حتى أغلق المتحف أبوابه. انتهت المكالمة وعدتُ مشياً إلى الفندق، ولكن بهجتي بالحديث معه كانت أكبر بكثير من تلك التي كنتُ أبحث عنها في التجول بين أروقة المتحف. فلقد استطعتُ أن أشتري تذكرة دخول للمعرض، ولكن هل كان يمكنني أن أشتري ضحكاته وبهجته؟ – دخلتُ مقهى صغيراً في زقاق بعيد نَسِيَتْهُ أرجل المارة، وكنت أحمل في يدي كتاباً صغيراً عن التخطيط الاستراتيجي وآليات اتخاذ القرار. تحدث المؤلف في أحد مقاطعه عما سماه «مبدأ آيزنهاور» الذي كان أحد أفضل رؤساء الولايات المتحدة في إدارة الوقت، وقال مرة: «إن معظم القرارات العاجلة التي نتخذها في حياتنا ليست مهمة». ثم يشرح الفرق بين المهم والعاجل، وكيف يجب علينا ألا نقدم الأخير على الأول. اقتربتُ من البائعة وطلبتُ كوب قهوة، وعندما لمحت الكتاب في يدي نادت زميلها وقالت له: «أليس هذا هو نفس الكتاب الذي كنتَ تقرأه قبل أيام؟»،…