ياسر حارب
ياسر حارب
كاتب إماراتي

لماذا دبي؟

السبت ٣٠ نوفمبر ٢٠١٣

في العام 2006 شنت مجموعة من المؤسسات الإعلامية الغربية هجوماً على القطاع الخاص بدبي متهمة إياه بانتهاك حقوق العمال، فسارعت الحكومة إلى تشكيل لجنة لتقصي الحقائق ومعالجة الأوضاع. كنتُ حينها موظفاً في المجلس التنفيذي في الإمارة، وتم انتدابي للعمل في تلك اللجنة. زرنا عدداً من مجمعات سكن العمالة الآسيوية واستمعنا إلى شكواهم، ثم اجتمعنا برؤساء شركاتهم لنكتشف وجود تجاوزات بسيطة في زيادة ساعات العمل وتأخر دفع الأجور؛ فأصدر المجلس قرارات تنظيمية لحفظ حقوق العمال وضمان التزام شركاتهم بتوفير حياة كريمة لهم، وأُلزِمَت الشركات بوضع ضمانات مالية في حساب وزارة العمل بقيمة رواتب موظفيها، لتستخدمها الحكومة في حال تأخرت الشركات عن دفع الرواتب. وأصدر المجلس قرارات أخرى بتحديد ساعات العمل وأوقات راحة العمال وتوفير بيئة آمنة وصحية لهم. تجاوزنا تلك الأزمة في أشهر قليلة، وأثبتت الحكومة قدرتها على التعامل مع الأزمات بحرفية وجدية عززت استقرار اقتصاد المدينة. لم تكن تلك هي الأزمة الوحيدة التي مرت علينا، بل حبانا الله ببعض منها في العقد الماضي، ويُحب الشيخ محمد بن راشد أن يسميها «تحديات.. لا أزمات، لأنها تدفعنا للعمل أكثر». يتساءل أصدقائي من الدول العربية عن أسباب نجاح دبي، فأقول لهم: بسبب المنظومة الإدارية والكفاءات البشرية. ادخل مطار دولة عربية ما، وعندما تتجاوز موظف الجوازات ستضطر للوقوف عند موظف آخر، خلفه مباشرة، ليتأكد…

الحُب أم القُوّة؟

السبت ٢٣ نوفمبر ٢٠١٣

يُحكى أن "ستيف جوبز" رئيس آبل الراحل كان شديد القسوة على موظفيه، سليط اللسان، صفيق الوجه، لا يتوانى عن شتمهم وإهانتهم، وطردهم من العمل أمام الملأ دون تردد. وكان معظم موظفيه يتحاشون الركوب معه في المصعد، أو الحديث عن عملهم أمامه لأنه، في أغلب الأحيان، سيشتمهم ويصرخ في وجوههم. ويحكى أنه أدخل المستشفى مرة ووضع له الطبيب قناع الأوكسجين على وجهه، فنزعه وصرخ في الطبيب طالبا منه أن يأتِيه بخمسة أقنعة أخرى ذات أشكال مختلفة حتى يختار أحدها. حتى الجهاز الموصول بإصبعه لم يعجبه، وكان ينزعه من يده منتقداً تصميمه البشع! إلا أن ستيف أحدث تغييراً تاريخياً في مجرى التكنولوجياً.. وجعل حياتنا تدور حول منتجات آبل إلى أن صارت ثقافة عالمية باتت تُسمى بثقافة "آيبود". وخلال عقد من الزمان نقل ستيف البشرية سنوات ضوئية إلى الأمام على مستوى الاتصالات، وقواعد المعلومات، والتطبيقات الإلكترونية وغيرها من المجالات التي يصعب حصرها. وفي التاريخ، كان الرئيس الصيني "ماو تسي تونغ" أحد أشد القادة دموية وفتكاً بالبشر، ويعتقد المؤرخون أنه مسؤول عن إبادة ثلاثين إلى أربعين مليون صيني في زمن الطفرة الكبرى. ويعتبره الصينيون، والشيوعيون عموماً، أحد أهم ركائز الحِراك الشيوعي في التاريخ، وموحد الصين ومؤسسها.. حيث لا ينسون له خطة الإصلاح الزراعي التي فرضها على الأرياف، في محاولة للقضاء على النظام الإقطاعي المتجذر…

متى تنهض المدن العربية؟

السبت ١٦ نوفمبر ٢٠١٣

عندما كنتُ صغيراً، كان أبي يحرص على اصطحابي وأخي بدر معه كلما سافر إلى مدينة عربية ليُشارك في مؤتمر ما. وأذكر أنني عندما زرتُ القاهرة لأول مرة مع العائلة في العام 1990 شعرتُ بأنني في عالم مختلف. كل شيء كان كبيراً، وكثيراً، ومتنوعاً. كان الناس والسيارات والضوضاء والألعاب والأشياء تتزايد بطريقة عشوائية لتُحدث زخماً في عقلي الصغير. كانت تلك أول صدمة حضارية في حياتي، وشعرتُ بأنني أريد أن أعيش في عالم ممتلئ كذاك. ثم مرّت عشرون عاماً، وزرتُ القاهرة مرة أخرى، إلا أنني لم أشعر بشيء من ذلك الزخم. لم تعد القاهرة كما هي، حتى عندما زرتُ الأهرام لم يُرهبني الوقوف عند سفحها. وعندما عدتُ إلى الفندق شعرتُ بأن أحداً اغتال روح تلك المدينة العظيمة. وكذلك باقي المدن العربية، يشعر الزائر إليها اليوم أنه ما يزال في ثمانينات القرن الماضي. كانت الثمانينات جميلة ولكن في وقتها فقط، فالشوارع كانت جديدة، والجسور المتواضعة حينها كانت تبدو لنا عظيمة.. وسيارات الأجرة الصغيرة التي لم تكن بها عدّادات لحساب سعر الرحلة، كانت كافية لتلبية احتياجات مدن محلية بدأت للتو بالانفتاح على الدنيا. إلا أن العالم تغيّر، وقفز، بسبب تقدم علوم الهندسة والإدارة والتكنولوجيا والطب، قفزات نوعية، ولم يعد في وسع الإنسان اللحاق بركبه إلا إذا كان في بحث دائم، وتجديد مستمر. وقبل أيام…

ماذا بعد سقوط النخبة؟

السبت ٠٢ نوفمبر ٢٠١٣

في حديث على طاولة العشاء، انتقد الروائي باولو كويلو الكُتّاب والمثقفين الذين لم يقتحموا عالم الإعلام الاجتماعي، وقال إنهم لا يُدركون بأن الفجوة بينهم وبين الناس تزداد اتساعاً كل يوم. فمن لا يعرف ماذا يدور في ساحات الإعلام الجديد، أو «البديل» كما يحب البعض تسميته، يصعب عليه اليوم أن يفهم مجتمعه، والمجتمعات الإنسانية بشكل عام . ناهيك عن أن هذه الوسائل مكّنت الأفكار من التكاثر والانتشار بطريقة لم تشهد الإنسانية مثلها من قبل. ولذلك، تجد كثيراً من المُفكرين التقليديين مُربَكين، وكثيراً من الأفكار والأطروحات والإيديولوجيات التي ظن أصحابها بأنها باقية، قد أُحبِطَت وصارت محط نقد وتهكّم وإهمال من الناس. وفي مقابل هذه الفئة، برزت رموز جديدة ترفض صفة النخبة، وفضلت أن تبقى في القاع الشعبي الذي نشأت منه. ادخل إلى برنامج "كييك" عل سبيل المثال، وانظر إلى نجومه وأعداد متابعيهم، وستكتشف بأن هناك عالماً آخر يتشكل ويتسّع كل يوم. مئاتٌ مِن مقاطع الفيديو تُنشر كل ساعة، ومئات الآلاف من التعليقات والتفاعلات تُسجّل كل دقيقة. أسماء جديدة، بسيطة، شابة، لم تنل حظاً من علمٍ أو خبرة في الحياة، ولكنها أصابت من النجومية ما لم تُصبه أسماء لامعة في سماء الأدب. ولقد بدأت شركات الإعلانات والقنوات الفضائية تتهافت على توظيف هؤلاء المشاهير الشباب، الذين ينحدر غالبيتهم من السعودية، بعد أن طارت شهرتهم…

أوهام الكهف

السبت ٢٦ أكتوبر ٢٠١٣

وَرَدَ في صحيح البخاري أن رجلين من المهاجرين والأنصار تشاجرا فقال الأنصاري: يا للأنصار. وقال المهاجري: يا للمهاجرين. فسمع ذلك رسول الله  صلى الله عليه وسلم  فقال: «ما بَالُ دَعْوَى جَاهِلِيَّةٍ» فقالوا يا رسول الله كَسَعَ (أي ضَرَبَ بيده أو برجله على مؤخرة شخص) رجلٌ من المهاجرين رجلاً من الأنصار. فقال: «دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ». وقال ابن عاصم الغُرناطي، وهو تلميذ الإمام الشاطبي، في منظومته «تحفة الحكَّام في نكت العقود والأحكام» (وليسَ بالجائزِ للْقاضِي.. إذَا لَمْ يَبْدُ وَجْهُ الحُكْمِ أنْ يُنَفِّذَا. والصُّلحُ يَسْتَدْعي لهُ إنْ أَشْكَلاَ.. حُكْم وَإنْ تَعَيَّنَ الحقُّ فَلاَ.. مَا لمْ يَخَف بنافِذِ الأحكامِ.. فتنةً أو شَحناً أولي الأرحامِ). ومعنى الكلام أنه يجوز للقاضي ألا يقضي بالحق في حالتين: الأولى أن يؤدي حكمه إلى فِتنة وسفك للدماء. والثانية: أن يؤدي إلى بغضاء وكراهية بين طائفتين. وفي هاتين الحالتين فإن الأصوب له أن يُقدم الصُلح بين المتخاصمين. ولو عُدنا إلى القصة السابقة لوجدنا أن الحق كان مع الأنصاري الذي ضربه المهاجر على مؤخرته، ولكن الرسول لم يقضِ له عندما سمعهما يستنجدان بقومهما، بل آثر تحقيق السلام وحفظ دماء المسلمين التي تُعد مِن أعظم مقاصد الشريعة، كما يقول الشيخ الإمام عبدالله بن بيّه. ولو أمعنّا النظر إلى حال المسلمين اليوم، لوجدنا أن كثيراً منهم غيّبوا البُعد المقاصدي للشريعة وأخذوا بظاهر النصوص،…

هَرِمْنا مِن هذا الخِطاب

السبت ١٩ أكتوبر ٢٠١٣

عندما كُنت في السنة الأخير في الجامعة (عام 2001) درّسنا أستاذ من دولة عربية مادة "القانون التجاري"، وكلما ضرب لنا مثلاً على معاملات تجارية قال: "كيس من الشعير.. كيس من القمح.. صاعٌ مِن بُرّ.. إذا كان إنتاج الطاحونة كذا وكذا"، فكنت ألتفت إلى زملائي وأقول لهم: "يا إلهي! نحن في عصر أمازون وإي بي والرجل يتحدث عن الصّاع والطواحين!". وإذا فتحتَ جريدة عربية اليوم، فستجد كثيراً مِن كُتّابها يستخدمون معاني قديمة شبيهة بأمثلة الأستاذ، لا تمتُّ لثقافة العصر بِصِلة، مثل "إذا ارتفعت الشمس مقدار رُمح"، وغيرها من المفاهيم والألفاظ التي تطور الزمن كثيراً فصارت الحاجة إلى استخدامها معدومة. وإليكم هذا النص الذي ورد في مقال أحدهم في صحيفة خليجية: "وبخاصةٍ أنّهُ قد قُدّر عليَّ الكتابة في صحيفةٍ لم يدع فيها المتألقُ يوميّاً: «فلان الفلاني» موضع بياضٍ إلا وقد دلق فيه قنينة حبرهِ مُطنباً في الثناءِ على معشوقته: «المدينة الفلانية»، وليسَ ثمّة تثريب فيما يجترحهُ. ذلك أنّه يعيشُ سكْرةَ هيامٍ مِن شأنها بداهةً - أن تضطرهُ وَلَهاً إلى...". تساءلتُ بعد قراءة المقال: ما الضرر لو أنه استخدم "إلا وقد خط فيه بقلمه مُبالِغاً في الثناء" بدل استخدام كلمات مثل (دلق، قنينة حبر، مطنباً!) وما ضرّه لو استخدم كلمة مَلامة بدل تثريب! افتح صحيفة باللغة الإنجليزية (ولست هنا في صدد الثناء على…

إنسان لا غير

السبت ٠٥ أكتوبر ٢٠١٣

شاهدتُ قبل مدة فيلما اسمه "التدريب"، يتحدث عن شخصين في منتصف عمرهما يعملان بائعين للساعات، إلا أن شركتهما تغلق لمشكلات مادية؛ فأخذا يبحثان عن عمل دون جدوى. وفي يوم من الأيام قرأ أحدهما إعلاناً لشركة غوغل، تطلب فيه منتسبين سيتم اختبارهم خلال فترة الصيف، وستختار منهم مجموعة واحدة فقط ليصبحوا موظفين دائمين في الشركة. انخرط البائعان في الاختبارات، وبعد حِيَلٍ عديدة استطاعا أن يدخلا ضمن صفوف المتدربين، إلا أنهما يتفاجآن بأنهما الأكبر سناً في كل المجموعات. ولم يتوقف الأمر عند فارق السن، بل إن الفارق الثقافي بينهما وبين الفتية المنضوين في مجموعتهما كبير جداً. فالشباب يتحدثون لغة جديدة تشبه الرموز، مشتقة من الأغاني والأفلام، ويستشهدون بمقاطع من مسلسلات معاصرة، ويستخدمون تطبيقات هاتفية لأداء كل شيء تقريباً، بدءاً بالحساب وانتهاء بالتصوير، ما عدا هذين "الكهلين" اللذين يبدوان وكأنهما قد أتيا مِن عالم آخر، فقال أحدهما للآخر مستنكراً: "نحن بائعان ولا نعرف شيئاً غير ذلك، لماذا أتينا إلى هذا المكان؟". ورغم تفوق مهارات الشباب وإتقانهم استخدام وسائل التواصل الاجتماعي وأدوات التكنولوجيا الحديثة، إلا أنهم يفتقرون إلى العنصر الإنساني في التعامل. فقلما تجدهم يتحدثون مع بعضهم البعض. فالكُلّ مُطأطئ رأسه ينظر إلى هاتفه معظم الوقت، ولا يعرفون شيئاً عن مبادئ الصداقة أو روح الفريق الواحد. وهنا يبدأ البائعان بالتدخل وتعليم الشباب معاني بَدَت…

إعادة تعريف الإنسان

السبت ٢٨ سبتمبر ٢٠١٣

أثناء الطريق لحضور اجتماع، قرأتُ تغريدة وضعها أحدهم عن خمس قواعد مهمة لإدارة الشركات. فتحتُ الرابط المُرفق وبدأتُ أقرأ المقال في مجلة "رائد الأعمال" الأميركية الشهيرة. أعجبني وقلت في نفسي: هذا عالمي الحقيقي.. لا بد أن أركز في عالم الأعمال. دخلت غرفة الاجتماعات وكان بها مجموعة من علماء الشريعة والأصول مِن المُجددين الذين درسوا المنطق ووظفوه لفهم النصوص الشرعية باعتدال ينم عن ذهن منفتح. دار حديث شيق وعميق حول الحاجة إلى فهم مقاصد الشريعة، وكيف يمكن للأمة الإسلامية اليوم أن تتجنب كثيراً من الفتن والقتل والصراعات لو أن الدهماء كانوا أكثر تَبصُراً،. ولو أن كثيراً من دعاة الفضائيات كانوا أقل تسطيحاً للفكر حين يُخاطبون المجتمع، وأكثر تأملاً في النصوص واستنباط آليات لتكييفها مع حال الأمة وحاجاتها. خرجتُ وقد تقزّمت فكرة ريادة الأعمال في نفسي التي حدثتني بأن مجال التجديد الفكري وتهذيب الخطاب الديني هو العالم الحقيقي. في المساء عدتُ إلى "الآي باد" لأستكمل قراءة بعض كتب التراث الأدبي، وانكببتُ على قراءة المراسلات الفلسفية بين أبي حيان التوحيدي وابن مسكويه، اللذين يُعدان من أجمل الأدباء والفلاسفة المسلمين. فوجدتني أغوص في بحر لا شاطئ له، تلاطمت فيه العبارة الندية مع الفكرة الذكية والمعنى المُحتجب عن قُراء الأخبار العابرة في الصحف والمجلات. راودتني نفسي بعد قراءة تلك السِجالات الأدبية، وقالت: عليك أن تركز…

مَواطن الجَمال

السبت ٢١ سبتمبر ٢٠١٣

لُقبَ أرسطو بـ "المُعلّم الأول" لأنه لم يترك باباً في العلوم الإنسانية والطبيعية إلا وطرقه. بدءاً بالفلسفة مروراً بالفلك وانتهاءً بالأحياء والكائنات. ولكنه رُغم براعته في الفلسفة، إلا أنه كتب أشياء تُعد مضحكة في علوم الفلك والطبيعة. وعرف أيضاً بأنه كان ينزِعُ إلى هدم نظريات مخالفيه ليثبت صحة نظرياته وأفكاره، فعلى سبيل المثال، أصر على دحض نظرية فيثاغورث القائلة بأن الشمس هي مركز نظامنا الكوني، وافترض بأن الأرض من تتبوأ ذلك المكان. ولهذا قال عنه الفيلسوف الإنجليزي فرانسيس بيكون إن أرسطو يسير على الطريقة العُثمانية، حيث لا يستطيع أن يحتفظ بالحكم إلا إذا قَتَل جميع إخوته. أي إلا إذا أثبت بأن رأي المُخالفين له خطأ لا يحتمل الصواب، ورأيه صواب لا يحتمل الخطأ. ونتاجاً لهذه الطريقة الفكرية، وقع في أخطاء علمية لا حد لها، لأنه كان أولاً، معتداً برأيه أشد الاعتداد، وثانياً، غير منفتح على فكرة التنوع الفكري التي تُعد إحدى نواميس الحياة، والتي تُقِرّ بأنه ليس بالضرورة أن تكون الآراء الأخرى صواباً أم خطأً، بل قد تكون وجهات نظر أخرى تُسلط الضوء على الحقائق والأفكار الإنسانية من مناظير مختلفة. وقد أدى اضمحلال هذه الفكرة الحضارية في أي أمة عبر التاريخ إلى انزوائها في أركان الجهل وانخراطها في مغارات الظلامية والدوغمائية الفكرية (أي التعصب لفكرة معينة) وبالتالي، غياب التعددية والاختلاف…

إحباطات النخبة

السبت ١٧ أغسطس ٢٠١٣

شاهدتُ مقطع فيديو قصيرا على يوتيوب لأحد النُّخب المثقفة في الخليج والذي لديه مئات الآلاف من المُتابعين على تويتر وفيسبوك وفي مختلف وسائل التواصل الاجتماعي. كان يتحدث بانكسار عن الماضي، ومحاولاً، بطريقة يائسة، أن يُقنع المُشاهد بأن ماضيه المليء بالهزائم والانكسارات لم يُثنِه عن المُضي قُدُماً. ثم حاولت أن أفهم منه معنى "قُدُماً" فهو لا يزال مُنكسراً، مُحْبَطاً ومُحْبِطا، كتاباته لا تشي إلا بالانهزامية واليأس تجاه أوضاع العرب وقضاياهم. يغوص في عمق المُشكلات العربية حتى يصل قاعاً يختنق فيه، ثم تجفو أفكاره على الورق كجثة هامدة، أحادية الرأي لم تعرف من الحياة غير الانكسار. لهذا المثقف أشباهٌ كُثُر، مشهورون جداً، ومُحبَطون أيضاً جداً، يحاولون أن يُقنعونا بأنهم ليسوا كذلك، إلا أن طرحهم الفكري يكاد يُقسم بأنهم كذلك. اسأل نفسك الآن: ألا تشعر بأنك مُحبَطٌ ومنكسر منذ مدة دون أن تعرف السبب؟ إذا كُنت كذلك فتذكر الآن البرامج التي تُشاهدها، والمقالات التي تقرأها، والتغريدات التي تتابع أصحابها في تويتر، وستكتشف بأن قائمتك تعتصِرُ بهؤلاء المُثبّطين الذين تتوسم فيهم الخير، وتُجاهد نفسك لتصبر على سلبيتهم. ابتعدتُ قبل مدة عن وسائل التواصل الاجتماعي، وعكفتُ على مشاهدة المسلسل التاريخي "صقر قريش" الذي أشاهده للمرة الثانية. وفي نهاية المسلسل ظللتُ مكتئباً ليوم كامل وشعرت بضيق كدتُ أختنق معه. حاولتُ أن أتذكر ماذا أكلت ليسبب لي…

تعال نُشاهد “خواطر”

السبت ٠٣ أغسطس ٢٠١٣

جاءني أثناء الثورة الليبية ابني سعيد، وقد كان يبلغ حينها ثمانية أعوام، وقال لي بلغة طفولية بريئة: "هل استطاع الثوار القبض على القذافي أم لا!" دُهشتُ وضحكت من سؤاله، فلا أذكر أنني شاهدتُ الأخبار في حضوره. وعموماً فإنني لا أشاهد القنوات الإخبارية إلا قليلاً؛ لأنني أرفض إدخال طاقتها السلبية إلى منزلي. سألته كيف يعرف عن القذافي وعن الثوار؟ فقال لي إنه يسمع بعض زملائه يتحدثون عنه. فسألته وكيف عرف زملاؤه القذافي؟ فقال: "لا أدري، أظن أن آباءهم يخبرونهم" . وعندما أتصفح الجرائد لا أكاد أجد مقالاً يتحدث في شأن غير شؤون الحروب والثورات والخلافات السياسية والطائفية والأيديولوجية العربية أو العالمية. ثم عندما أختلط بالجيل الجديد، وأقرأ تعليقاتهم في تويتر ورسائلهم التي تصلني من خلال مختلف وسائل التواصل، لا أجدهم مهتمين بتلك المشكلات والقلاقل التي تضج بها المنطقة؛ فأتساءل: لمن يكتب أولئك الكُتّاب إن كان الشباب، وهم الأغلبية في المجتمعات العربية، لا يهتمون بتلك القضايا؟ وأتساءل مرة ثانية: ولمن يقرأ هؤلاء الشباب إن كان جُلّ ما يُنشر اليوم لا يُلبّي حاجاتهم الفكرية ولا يُجيب عن أسئلتهم التنموية المُلِحّة؟ صحفنا وقنواتنا العربية لا تختلف كثيراً عن الصحف الأجنبية في الغرب، فهي أيضاً تهتم بالشأن السياسي بشكل رئيس، ولكن الفرق بيننا وبينهم أنهم لديهم مجلات وقنوات لعالم الطبيعة والحيوان، وأخرى للرياضة، وأخرى للعلوم،…

قبل النوم

السبت ٢٠ يوليو ٢٠١٣

كنت في السيارة مع صديقين يكبرانني في السن، وكنتُ مُرهقاً من المذاكرة والإعداد لامتحانات الثانوية العامة، فقلتُ لهما: «عندما تنتهي الامتحانات سيسقط جبلٌ من فوق كتفي، ومهما كانت الأيام المقبلة ثقيلة فإنها لن تكون بثقل هذه الأيام». فضحك أحدهما وقال: «صدّقني، كل ما هو قادمٌ سيكون أثقل من هذه الأيام». فكنستُ كلامه بيدي في إشارة إلى أنني غير مقتنع به. واليوم لا تمضي سنة دون أن أتذكر ذلك الحوار عدة مرات؛ فلقد صَدَقتْ توقعاته، وصارت أيام الثانوية العامة، مقارنة بحياتي الآن، أقل همّاً وتحدياً. كان همّي محصوراً في المذاكرة، ويمكنني أن ألخص قلقي حينها في جملة «تافه» دون الحاجة إلى تفصيل. ما زلتُ لا أحب المدرسة -سأظل أعترف بهذه الحقيقة أمامكم كثيراً- ولا أتمنى العودة إلى تلك الأيام فلكل مرحلة من الحياة لذّتها التي تأتي من التغلب على العراقيل وتحقيق نجاحات بسيطة، ولكنني أتمنى أحياناً أن أعود إلى المزاج الفكري البسيط الذي كنا نتحلى به أنا وأترابي في تلك الفترة. فلقد كنتُ لا أكفّ عن قراءة القصص والروايات، ثم بدأتُ بقراءة كتب علي الطنطاوي، ثم المنفلوطي والرافعي ونجيب محفوظ وطه حسين وغيرهم، وكنت لا أقرأ إلا قبل النوم، ولا أتصل بأصحابي لأسألهم عن شيء إلا قبل النوم أيضاً. ولا أُنكِرُ أنني مررت بمرحلة عشقتُ فيها كُتب السياسة ومجلاتها، ولكنني تخليتُ…