الحرب السنية – الشيعية… حقيقة أم وهم؟

آراء

منذ اليوم الأول الذي أعلن فيه «داعش» احتلاله الموصل، توقع عشرات المحللين والراصدين للأوضاع الشرق أوسطية أن هذا التحول الخطر على الساحة العراقية بداية لحرب سنية – شيعية، قد يتجاوز مفهومها الخلاف السياسي على الأرض ليصل إلى حرب عقدية وقودها «الطريق إلى الجنة والنار».

المؤشرات تقول ذلك أيضاً، والأطراف السياسية العراقية «تقول وتفعل» هذه الأيام ما يؤكد ذلك، لكني استبعد حدوث هذه الحرب، بل أكاد أجزم أنها لن تحدث، لأسباب عدة يأتي على رأسها:

أولاً: لم نخبر في التاريخ الإسلامي صراعاً سنياً – شيعياً تحول إلى حرب حقيقية. الصراعات السنية – الشيعية كثيرة جداً في سجلات التاريخ، لكن جميع تلك الصراعات لم تدخل في دائرة الحرب، إما بسبب حجم نتائجها، وإما بسبب تغلب الأمة السنية في كل مراحل الصراع.

ثانياً: المذهب الشيعي الذي جاء تالياً للمذهب السني ليس مذهباً ثورياً واحتجاجياً كما البروتستانتية، بل مذهب يؤمن بعقيدة مخالفة لمذهب السنة، وبالتالي فهو يوازيه (كلٌ له عقيدته) ولا يتقاطع معه في الطريق إلى الحياة الآخرة.

ثالثاً: المذهب الشيعي لم يأتِ بإصلاحات حياتية ومعاملاتية تمس حياة الشعوب، الأمر الذي جعله مادة «بادئة – مستمرة – منتهية» في يد رجال الدين الشيعة. هذا البعد عن الحاجات الرئيسة الخمسة للشعوب (هرم ماسلو) ألغى الحاجة إلى ثورة – تتلوها حرب – لفرض الرؤية الحياتية التي تفرض طريقة عيش معينة.

رابعاً: كان الحكام السنة منذ البدء – وما زالوا – يتعاملون مع أتباع المذهب الشيعي بمنهجية علمانية تحترم خيارهم ومعتقدهم (الذي ينحصر في الروحية مثلما أشرت)، بعكس أباطرة الكاثوليك في العصور الوسطى الذين رأوا في الثورة اللوثرية تهديداً لمصالحهم التي اكتسبوها من الحق الإلهي في الحكم، والزواج المصلحي مع بابوات الكنيسة.

هذه الأسباب الرئيسة وغيرها أسباب أخرى فرعية، تمنع في تقديري قيام حرب سنية – شيعية في أي مكان في العالم وفي أي زمن، لكن هناك أيضاً العديد من الأسباب التي تمنع قيام حرب سنية – شيعية في العراق في الوقت الراهن، ومن هذه الأسباب:

أولاً: التداخل الكبير بين العائلات السنية والعائلات الشيعية في العراق، وتعدد المشتركات بين الطرفين (هذا الأمر مثلاً موجود في الكويت والبحرين وغير موجود في الإمارات والسعودية)، يجعل من التقاتل على مسألة غير موجودة أصلاً في أجنداتهم اليومية ضرباً من المستحيل.

في العراق لا يمثل معتقد الشخص أولى محددات تعريفه أمام الآخر، هكذا أظن وهكذا أخبر، فلطالما عرفنا الكثير من الرموز العراقية، ولم نلمح في المحددات التي صدرتهم لنا أي ملمح عقدي أو جهوي.

ثانياً: من يُعتقد أنه يعمل على اجتثاث الشيعة ونفيهم من الأرض ليس نسيجاً عراقياً خالصاً، وإنما تنظيم دولي تنتظم تحت رايته مجاميع مكونة من ثوار ذوي جنسيات متعددة. وهذا الأمر تحديداً سيخرج «المواطنة العراقية» من سجنها، لتواجه استغلال الدين باسم السياسة، كما تفعل «دولة القانون»، وإخضاع الدين للحصول على مكتسبات سياسية كما يفعل «داعش»!

ثالثاً: الدعوات الدينية الشيعية الأخيرة لمواجهة الخطر السني، مثل دعوة السيستاني وغيره، لا تعدو كونها إملاءات من الطبقة السياسية الحاكمة في إيران لضمان بقاء ممثل طهران في بغداد (المالكي). الشعب العراقي يعرف أنها ليست دعوات دينية خالصة، وبالتالي من الصعوبة بمكان أن ينجر خلفها تحت وعود الجنة والنار كما تفعل الدعوات الدينية الأخرى في الشعوب المتأدلجة.

رابعاً: السنة في العراق لا يبحثون عن الثورة والحرب من أجل المعتقد. هم يثورون الآن ويختلطون بقصد وبغير قصد بـ «داعش»، للحصول على حقوقهم المسلوبة تحت نظام لم يخجل من أن يعلن عن طائفيته في أكثر من مناسبة.

الحرب الدينية لن تحصل في العراق، وإنما سيدعي هذا الطرف (الداعشيون) أو ذاك الطرف (السيستانيون والمالكيون) حصولها، ليكسبوا من وراء النفخ في نارها!

سنسمع خلال الأسابيع المقبلة مصطلحات جديدة تشبه مصطلحات الحروب الكاثوليكية – البروتستانتية في أوروبا، وسترتفع أسهم رجال الدين في كلا الطرفين، وسيذهب بعض العوام الموهومين لربط ما يحصل في العراق بسخط الرب ورضاه، لكن ذلك لن ينطلي على الجماهير العريضة، ولن يقنع المتحاربين على الأرض أن ما يقومون به حرب مقدسة!

ما يحصل في العراق الآن غزو خارجي لتنظيم إجرامي خارج على القانون، وجد في الفراغ الأمني في شمال وغرب العراق وشرق سورية بيئة مناسبة للتمدد والنمو، كما هي طبيعة كل التنظيمات غير الشرعية، وترافق ذلك مع غضبة سنية في بعض أقاليم العراق على الحكومة الاتحادية التي وضعت علمانيتها على الرف ولبست العمة الشيعية، فاختلطت الغايات والأهداف غير المعلنة «للمجرم الداعشي» الذي هو على باطل مع الغايات والأهداف المعلنة للسني العراقي الذي هو على حق، وبدا هذا «التزاوج الموقت» لبعض المراقبين والراصدين – كما أشرت في بداية هذه المقالة – حرباً سنية موجهة ضد المكون الشيعي العراقي.

الحرب الدينية لن تحصل في العراق، لكن الوجود «الداعشي» المدعوم ببعض الجيوب السنية سيستمر ما لم تتحقق اللاءات الثلاث التالية:

واحد: لا لوجود المالكي في الحكم، ونعم لحكومة توافقية تجمع أطياف الشعب كافة. هذه «اللا» ستبعد السنة العراقيين عن «داعش» وتتركه وحيداً في مواجهة آلة الدولة.

اثنان: لا للتدخل الإيراني في العراق بأي شكل من الأشكال، هذه «اللا» ستطمئن السعودية وتركيا، وستجعلهما ينئيان بثقلهما عن التدخل لفرض رؤية سياسية مقابلة لما سيفرضه التدخل الإيراني.

ثلاثة: لا للتدخل الأميركي، ونعم لدعم الجيش العراقي لمواجهة «ألف» رجل فقط من «داعش»! هذا «اللا» الأخيرة ستجنب العراق احتلالاً أميركياً جديداً ينتهي بعد ١٠ أعوام بتسليمه إلى إيران، كما تجري العادة الأميركية الطارئة خلال الأعوام الأخيرة.

المصدر: الحياة