محمد فاضل العبيدلي
محمد فاضل العبيدلي
عمل محرراً في قسم الشؤون المحلية بصحيفة "أخبار الخليج" البحرينية، ثم محرراً في قسم الديسك ومحرراً للشؤون الخارجية مسؤولاً عن التغطيات الخارجية. وأصبح رئيساً لقسم الشؤون المحلية، ثم رئيساً لقسم الشؤون العربية والدولية ثم نائباً لمدير التحرير في صحيفة "الايام" البحرينية، ثم إنتقل للعمل مراسلاً لوكالة الصحافة الفرنسية (أ.ف.ب) كما عمل محرراً في لوموند ديبلوماتيك النشرة العربية.

تقبل الدعاية وتدني الإحساس بالتاريخ

آراء

في كتابه المعنون “عن طريق الخداع”، يشير عميل الموساد السابق فيكتور أوستروفسكي إلى أن الموساد هو مصدر كل الشائعات التي التصقت بالرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات. وحسب اوستروفسكي فإن هذه الشائعات أطلقتها دائرة الحرب النفسية في الموساد، لكن حتى الآن فإن الكثير من العرب – بما فيهم مثقفون- يرددون مثل هذه الشائعات كما لو أنها حقائق.

لكن القصة الطويلة لعرفات والنضال الفلسطيني ضد إسرائيل، قد تكشف عن خصائص ذهنية للفلسطينيين والعرب أهمها “تقبل الدعاية عوضاً عن الحقائق” و”فقدان القدرة على الإحساس بالتاريخ”.

إن واحدة من أكثر الإفتراءات التي أطلقها الإسرائيليون بحق عرفات هو أنه مليونير يستولي على أموال الشعب الفلسطيني. لكن عندما توفي الرجل، إكتشف الفلسطينيون أن هذا المليونير لم يكن يملك أكثر من بدلتين عسكريتين كان يرتديهما ولم يكن يملك حتى منزلاً. لعل هذا جدير بأن يذكرنا بالقاعدة الذهبية في الدعاية هي تلك التي وضعها الزعيم النازي بول جوزيف غوبلز عندما قال: “عليك بقول نصف الحقيقة لتمرير الكذبة وتكرارها تباعاً”. لقد كان نصف الحقيقة في ذلك الإفتراء هي أن عرفات كان يدير أموال المنظمة لكن الكذبة كانت أنه يملكها.

إن تلطيخ سمعة عرفات وبقية القادة الفلسطينيين كان يسير بشكل متوازٍ مع كل التطورات على الأرض في مسار النضال ضد إسرائيل، فكلما حقق الفلسطينيون مكاسب من أي نوع سياسية أو نضالية، كانت وتيرة الحرب النفسية الإسرائيلية ضدهم تتصاعد. لهذا، لم يكن مفاجئاً أن الشائعات التي أطلقها الإسرائيليون قد تصاعدت إبان الانتفاضة الأولى في عام 1987 والثانية في عام 2000. لكن مع الانتفاضة الثانية كان هناك تغيير طفيف في مضمون الشائعات لأن الهدف تغير قليلا كما أن هناك حقائق جديدة إستجدت. فعرفات في العام 2000 كان رئيس السلطة الفلسطينية وكان يناضل في أرض فلسطين نفسها وليس من المنفى، ومع تصاعد مؤشرات الانقسام الفلسطيني وقتذاك، فإن الحرب النفسية الإسرائيلية بدأت تخاطب جمهوراً مختلفاً فاكتسبت الشائعات مضموناً جديداً. هكذا، انتشرت في ذلك الحين ولاحقاً شائعات تقول أن عرفات أصله يهودي مغربي وأن السيد محمود عباس بهائي.

إذا كانت حرب بمثل هذه القذارة متوقعة من الإسرائيليين، فإن المشكلة كانت أن الفلسطينيين والعرب يتلقفون شائعات كهذه دون فحص أو تمحيص ودون وضعها في أي سياق، فبمجرد أن تظهر في مواقع الكترونية يديرها الموساد، تقوم مواقع الكترونية عربية بنشرها مثل النار في الهشيم وسوف تتحول بفعل التكرار فحسب إلى ما يشبه الحقائق التي يجادل بها البعض وكأنهم إكتشفوا لتوهم حقائق جديدة.

إن الإنقسام الفلسطيني ليس وليد الحرب النفسية الإسرائيلية فحسب، لكن هذه الحرب استفادت من كل أنواع الأخطاء التي وقع فيها الفرقاء الفلسطينيون سواء “فتح” أو “حماس”، لكن أخطر وأهم ما في هذه الحرب هي أنها تتعامل مع خصائص نفسية لدى الفلسطينيين والعرب تجعلهم على الدوام يتقبلون الدعاية على حساب الحقائق. لقد أسهمت هذه الحرب النفسية في دفع الفلسطينيين نحو حالة الاحتراب الأهلي ومن الواضح أن الإسرائيليين نجحوا في تحقيق هدف استراتيجي في أجندتهم.

لا يتعلق الأمر بتأثير الشائعات على العرب واستعدادهم الذهني المسبق لتقبلها فحسب، بل أيضاً في كيفية قراءتهم وفهمهم للأهداف والنوايا الإسرائيلية. هنا سنكون أمام خاصية ذهنية أخرى لدى العرب هي تلك المتعلقة بتدني قدرتهم على الإحساس بالتاريخ.

لقد نشأت السلطة الفلسطينية عام 1994، ومنذ ذلك الحين وحتى العام 2002، كان رد الفعل العسكري الإسرائيلي مركزاً دوماً على السلطة الفلسطينية. ففيما كانت حماس تقوم بعملياتها الإنتحارية كانت إسرائيل تقوم بالرد عبر ضرب قوات الشرطة الفلسطينية ضعيفة التجهيز وضرب البنى التحتية للسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية. لقد كان الهدف الإسرائيلي وراء هذا هو ضرب أي إمكانيات لنمو وبناء دولة فلسطينية مستقلة. لكن العرب وجزء لا يستهان به من الفلسطينيين وقعوا مجددا في فخ الدعاية وقصر النظر عندما إختزلوا ذلك الهدف الإسرائيلي الإستراتيجي في فهم قاصر وغير عقلاني يعكسه ذلك الفهم الذي راج وقتها وهو أن “حماس تقاتل والسلطة (فتح) إستسلمت”.

إستنفذت هذه الإستراتيجية الإسرائيلية مداها مع إجتياح جنين عام 2002 ومحاصرة الراحل عرفات في مقره في رام الله حتى تسميمه ووفاته عام 2004. وبعد هذا بقليل، إستداروا نحو حماس وبدأ الجيش الإسرائيلي يركز منذ ذلك الحين على ضرب حماس وقطاع غزة فقط حتى اليوم.

إن تغييراً مثل هذا في الإستراتيجية والتكتيكات الإسرائيلية لم يستوقف كل أولئك الذين مازالوا يرددون نفس ذلك الفهم المختزل والقاصر للأهداف الإسرائيلية: “حماس تقاتل والسلطة إستسملت”. إنه تاريخ قريب لكن غالبية الفلسطينيين والعرب لم يتوقفوا أبداً لكي يسألوا أنفسهم عن سبب تغير الإستراتيجية الإسرائيلية من إستهداف السلطة الفلسطينية لثماني سنوات متصلة ثم الاستدارة نحو حماس منذ 2005 وحتى اليوم؟ أبعد من هذا، فإن أولئك المطالبين أكثر من غيرهم بالتعامل مع هذا السؤال لم يملكوا حتى اليوم الشجاعة لكي يعيدوا النظر في مواقفهم وحساباتهم والإعتراف بأي خطأ يمكن أن يدركوه بناء على مراجعة موضوعية لهذا التاريخ القريب.

مترجماً عن ” Gulf News – غلف نيوز” 13 مارس 2013