جمال بنون
جمال بنون
إعلامي وكاتب اقتصادي

«سرقونا.. يا طويل العمر» !

آراء

كان هذا في يوم الاحتفال باليوم الوطني للسعودية ومرور 84 عاماً على تأسيسه على يد الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، كنت في أحد المقاهي المطلة على كورنيش جدة برفقة بعض الزملاء والأصدقاء، حيث كان أحد البرامج التلفزيونية تقدم لقاءات وأناشيد وأغنيات بهذه المناسبة السعيدة، ويصاحب هذه المشاهد واللقطات صور لخادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز وصور أخرى لولي العهد الأمير سلمان بن عبدالعزيز وولي ولي الأمير مقرن بن عبدالعزيز، ومشاهد لمشاريع وشوارع وأطفال فرحين، في الطرف الآخر كنا نسمع أصوات فرح وسيارات ترفع من صوت المذياع لأغاني وطنية وشباب يعبِّرون عن فرحتهم برقصات ولباس ملون، وأطفال يطيِّرون بالونات عليها ابتسامات وذات ألوان بيضاء وخضراء.

في المقعد المجاور لنا كانت تجلس مجموعة من الأشخاص أعمارهم متفاوتة من 30 و60، كانوا سبعة، هكذا لمحتهم حينما جلسنا بجوارهم، لم ألتفت إليهم في بادئ الأمر، فالمقهى مليء ومزدحم بالناس، وجميعهم من الذكور، تركوا عائلاتهم بالقرب من البحر وجاءوا إلى المقهى ليمضوا بعض الوقت، وسط هذا الضجيج في المقهى كان صوت المتحدثين في المقعد المجاور الأعلى والأكثر وضوحاً، أحدهم رفع صوته وهو يشاهد صورة الملك عبدالله مرافقة لأحد الأناشيد الوطنية، فقال ليُسمع أصدقاءه الجالسين معه: «سرقونا يا طويل العمر»، فقال له صديقه بجواره: «يا أخي اخفض صوتك.. خلينا نفرح بلاش نكد، تجينا الحكومة وتشيلنا».

رد عليه صديقه الذي كان يتحدث: «لا يا حبيبي، ليش أخاف؟ أنا ما قلت شيء غلط، وما شتمت الحكومة. أنا قلت الحق، وهذا ما حاصل». رجل آخر كان يجلس في الصف الأخير من المقعد أطلق قهقهة قوية، وقال للحاضرين: «اتركوكم منه.. كلامه كثير ومجنون ومتخلف»، فأخذ صديقه الموضوع بسخرية على كلمة «مجنون ومتخلف» وقال بعتاب: «أنت شكلك خواف.. وكلام الحق لا أحد يخاف منه، يا حبيبي»، ثم اعتدل في جلسته وأكمل قائلاً: «الملك عبدالله، الله يطول لنا في عمره لو ما اكتشف أن البلد بتتسرق من موظفين ومتنفذين لما أنشأ هيئة مكافحة الفساد، هل تابعت تصريحات الملك عبدالله بعد كارثة سيول جدة، واللجنة التي شكلها ومحاسبة (كائناً من كان)»، وقبل أن يرتشف فنجان الشاي، قال لصديقه: «لولا وجود سرقات، لما قال الملك في جلسة الموازنة قبل عامين مخاطباً الوزراء: «نسمع عن مشاريع بس ما أشوفها». أما هذه معك فيها حق. هكذا رد صديقه الذي كان يسخر من كلامه.

السعوديون ذاكرتهم قوية، ولاسيما في ما يتعلق بتصريحات المسؤولين وحديثهم عن التنمية، فمثلاً قبل 35 عاماً كان مسؤولو الصرف الصحي يتحدثون بمبالغة شديدة عن اعتمادات مالية لمشروع الصرف الصحي وتصريف مياه الأمطار، واكتشفوا بعد هذه العقود أن التصريحات كانت وهمية، وأن المبالغ ذهبت في جيوب المسؤولين والمقاولين، وبقيت الأغطية في الشوارع، كلام المواطن الذي كان يشاهد التلفزيون ويوجه كلامه إلى الملك عبدالله بن عبدالعزيز، أن المسؤولين سرقونا، هو كلام صحيح وليس اتهاماً. هناك اعتمادات مالية خرجت تحت بند مشاريع، إلا أنها اختفت بشكل لا يمكن التحدث فيها بتفاصيل، في رمضان الماضي ألغت محكمة الاستئناف بالرياض صكوك أراض بمساحات تجاوزت نصف بليون مترمربع بقيمة 400 بليون ريال بحسب المؤشر الإحصائي بوزارة العدل، تورط فيها كُتاب عدل ومتنفذون، وفي حادثة أخرى وتعد الأكبر في مجال النصب والاحتيال على المواطنين، حينما ضاعت أموال المساهمين في إحدى الشركات المساهمة التي ادعت نجاحها وتفوقها، وفجأة أصبحت شركة هزيلة وضعيفة لتصبح قيمتها 4 بلايين ريال خلال فترة وجيزة، وبعد الاكتتاب وشراء المواطنين للأسهم بأسعار عالية وبعلاوة إصدار مبالغ فيها، وعند تحقيق الشركة للأرباح وصرف مكافآت بملايين الريالات تم بيع الشركة التي تجاوزت خسائرها المتعمدة رأس المال بـ300 مليون ريال، وأصبحت مهددة بالإيقاف والشطب النهائي ولا تساوي أسهمها التي يتملكها المواطنون شيئاً.

حالات الرشوة والسرقات وصلت في كل تعاملات المواطنين مع الأجهزة والمؤسسات الحكومية، وحجم المشاريع المتعثرة تزيد على تريليون ريال خلال السنوات الأربع الماضية بحسب تصريحات رئيس مجلس إدارة الجمعية السعودية للهندسة المدنية الدكتور عبدالله الغامدي، وهذا الأمر -بحسب كلامه- ينذر بظهور آثار سلبية على المستويين الاجتماعي والاقتصادي، تؤثر كثيراً في التنمية وتقديم الخدمات للمواطنين.

حينما يقول مواطن موجهاً كلامه إلى أعلى سلطة في البلاد، إنه يتعرض للسرقة، فهذا نداءُ استغاثة، والحالات متشابهة، سواء أكانوا رجالاً أم نساء أم أطفالاً. هناك من يسرق حلم الشباب بوظائف وهمية ومرتبات متدنية لا تتساوى مع الخبرات والشهادات المهنية والعلمية، في شباط (فبراير) الماضي كشفت مصادر لصحيفة «عكاظ» تورط 56 شركة بإعلانها عن وظائف وهمية لسوق العمل، من دون توظيف الشبان والشابات في تلك الوظائف المعلنة، وأكدت فشل ما نسبته 50 في المئة من معارض التوظيف التي تعقد في المناطق كافة، بعد أن أثبتت دراسات أن شركة أعلنت وظائف وهمية لسوق العمل.

وليست الحال في السرقات من المال العام، بل وصل الأمر إلى التحايل، فإذا ما نفذ مشروع حكومي كان عملاً رديئاً ورخيصاً ولا ويرتقي إلى مستوى تطلعات القيادة في هذه البلاد. الكثير من المرافق الحكومية خدماتها للمواطنين دون المستوى. أغرقوا البلد بعمالة مهنية رخيصة، وأصبحت السوق مليئة بعمالة زائدة، إنما لعبة التأشيرات والمكاسب التي تتحقق لشركات الاستقدام وبائعي التأشيرات. الغلاء يتفشى بشكل كبير في كل مكونات الحياة: إيجارات شقق، السلع الغذائية، رسوم دراسة، وأصحاب الأراضي يسيطرون على السوق، والمستشفيات الحكومية حتى تحصل على موعد يكون أجلهم قد أتى، والمستشفيات والمستوصفات الأهلية محل جزارة واستنزاف جيوب. أتفق مع الرجل الذي كان يقف أمام التلفزيون ويقول: «سرقونا يا طويل العمر».

المصدر: الحياة

http://alhayat.com/Opinion/Jamal-Bnoon/4908074