ريم الكمالي
ريم الكمالي
كاتبة في صحيفة البيان

سريانية صير بني ياس

آراء

في الأدب الأوروبي القديم ذُكرتْ جزيرة صير بني ياس ولأول مرة عام 1590م، عن طريق تاجر بندقي جلب اللؤلؤ المميز منها ليدخله إلى أوروبا، بعد أن فَصّل في ذكرها وجمالها وحجمها، ومنذ ذاك حتى القرن السابع عشر، أكملت بريطانيا سيطرتها على هذه التجارة من قبل ضباط البحرية الإنجليزية.

الخليج العربي مليء بالجزر، لكن ما يميز صير بني ياس أنها آسرة بغطائها النباتي الكثيف، وتجري فوقها المياه، وتقفز عليها آلاف الحيوانات الوادعة والمفترسة، وتحوم فوقها النسور والصقور.. جزيرة منعزلة وحرة، تمنحك الحرية التي ترتقي إلى الزهد.

دخلت مجموعة من الرهبان الجزيرة حوالي العام 600 للميلاد، وهي في حالة تتويج من الشمس، وهمس دائم يلحنه هدير الموج وصدى الساحل، لتغري عزلتها الرهبان للسكون والسكن، وبناء دير سرياني شرقي صُمّم كالصحن، بأجنحة جانبية من هيكل ومدفن وبيت للصلاة ومذبح تحيط به مصليات.

هؤلاء الرهبان أصحاب الطبيعة المنفصلة للمسيح، تنحوا من العالم جانباً ليسكنوا في الجزيرة زاهدين مطمئنين، فاعتزلوا للعبادة ونقشوا على جدران الكنيسة صلباناً بين الزهور، وما الزهور سوى النور، والنور بمعنى البياض، أليست زهر النبت نورهُ؟.. استنار الرهبان بجمال الجزيرة، فرسموا النخل فوق صخور الكنيسة، لينسجم رسمهم مع شموخ الرهبنة لا مع الترهب.

كانت الجزيرة نقطة عبور بين الجزر الأخرى الباحثة عن اللؤلؤ، كما أنها متصلة مع المدن البعيدة كالبصرة والسند منذ الأزل.. حين سكنها الرهبان أتباع المعلم نسطور، التابع لأساقفة القسطنطينية (إسطنبول).. اختلفوا مع بابا روما حول مسائل عقائدية، ليأتوا إلى الجزيرة بلغتهم السريانية الغنية بالتراث الشرقي، المستخدمة لدى معظم الشعوب والحضارات في كتابات الدين والفنون والعلوم والآداب. مارسوا ثقافة الخلوة ليسْموا بأنفسهم دون قلق، وبعيداً عن الانقسامات الدينية، كتبوا باللغة السريانية على جدران الكنيسة، وعلقوا المصابيح الزيتية في أعالي أسقفها لإنارة العتمة، يصلون ويترنمون بتراتيل سريانية في أمسيات قديمة لصير بني ياس المعزولة..

دير سرياني منسي، أثر مسيحي وحيد في دولة الإمارات لم يكتشف سوى عام 1992م، وعن طريق بعثة أثرية بريطانية، وجدوا الجدار الشرقي للدير منهاراً بنقوشه الجصية، وقبراً ربما يكون لمؤسس الدير، وبرجاً قد أتاح للرهبان مراقبة القادمين من زوار أو قراصنة.. وبعد كل هذه القرون نجد الكؤوس والقوارير الصغيرة، والأواني والجرار بألوانها الفيروزية والمزخرفة.

يا لدهشة التاريخ، حين نعلم أن الصوامع السريانية كانت تعلو في جزيرة صير بني ياس منذ 1400عام!

لقد اكتشفنا أثراً سريانياً، وما الأثر سوى قيمة مؤثرة.. كما وجدوا في المبنى الكثير من التحف، ننتظر عرضها بفارغ الصبر في متحف من متاحف الدولة.

المصدر: البيان