عبدالله المغلوث
عبدالله المغلوث
كاتب وصحفي سعودي

مجتمع الأختام

آراء

استوقفني عند عودتي إلى منزلي قبل عدة أسابيع في مانشستر في بريطانيا شخصان يعزفان ويقومان بألعاب خفة اليد. بادرني أحدهما بتحية الإسلام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، عندما شاهدني أعبر بمحاذاته. تقدمتُ لأمنحه ما تيسر تقديرًا لتحيته لكن زميلي الذي كان يرافقني، وقتئذ، منعني قائلاً: ”اتركهما. إنهما نصابان، يصطادانك بهذه التحية”. انصرفتُ. وبعد قليل خرجت من منزلي ووجدتهما يصليان على الرصيف. يفرشان قطعة قماش طويلة كسجادة. توقفت أمام هذا المشهد طويلا طويلا، وتذكرت أن إحسان الظن، من أعظم خصال المسلم، ومتى ما تخلى عنها فقد تخلى عن أعظم شعب الإيمان.

بعد أيام من هذا الموقف اتفقت مع صديقين آخرين في مانشستر للاحتفاء بزيارة صديقنا المشترك القادم من جدة. أحدهما اعتذر عن عدم الحضور والمشاركة لظرف طارئ ألم به. لم يرق الاعتذار لصديقي الآخر. قال لي وهو يستشيط غضبًا ولم يتبق سوى أن يخرج دخانا من رأسه: ”إنه يتنصل حتى لا يشاركنا قيمة الوجبة”. ابتسمت وسألته أن يحسن الظن، فالمبلغ بسيط، وصديقنا، الذي يتهمه بالتهرب، له مواقف إيجابية كبيرة وكثيرة من الحري أن نستذكرها في هذا التوقيت.

لم يستحسن الصديق الحانق ما قلته مسترجعا فقط المواقف السلبية، التي يدخرها في رأسه، عن صديقنا الغائب: كم مرة لم يدفع الحساب عندما أكلا معا، كم مرة لم يساهم في تكلفة الوقود خلال رحلة مشتركة ذهبا إليها سويا، كم مناسبة سعيدة مرت دون أن يشتري له ولو علبة شيكولاتة. ظل يسرد المواقف الواحد تلو الآخر حتى قاطعتنا رسالة نصية إلى جوالي مفادها: ”دعواتكم فابنة الزميل ”….” ترقد في المستشفى منذ البارحة بعد أن سقطت على رأسها وهي تلعب في المنزل”.

التفت نحو صديقي الغاضب بعد أن قرأت له الرسالة، فرد وهو ينظر إلى الأسفل: ”شفاها الله”. وقبل أن يدعني استرسل زعم أنه مشغول حاليا ومضطر إلى أن يذهب مشيرا إلى أنه سيتصل عليّ بعد قليل للتنسيق للمناسبة التي نستعد للتحضير لها.

يقول الله تعالى: ”يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن. إن بعض الظن إثم”.

تتردد هذه الآية الكريمة على مسامعنا لكن لا نتأملها ونتفكر فيها. تعبر كالعديد من الآيات الكريمة دون أن نوظفها في حياتنا ونستثمرها. أصبح سوء الظن متقدما على إحسانه.

يدرك أي شخص أتيحت له فرصة العمل أو الدراسة خارج أوطاننا العربية أن الكثير من الدول الغربية تؤسس لمفهوم حسن الظن في أغلب معاملاتها في حين نتجاهله.

فلا يحتاج الطالب في أحيان عديدة إلى أن يشهر خطابا من المستشفى لإثبات غيابه. حديثه على الأرجح مصدر ثقة. في المقابل، يتطلب في مجتمعاتنا أن تبرهن صحة أقوالك بخطابات ممهورة بأختام غفيرة تعكس أزمة سوء الظن في بيئتنا.

المشكلة أن هذه الأختام لم تكن الحل المناسب. لقد أسفرت عن استشراء الخطابات المزورة ومحاولة القفز عليها بأساليب غير شرعية، متناسين أن الحل يأتي عبر تأسيس النشء وتعزيز المفاهيم الإسلامية في جوفهم بوعي وحكمة.

عندما تزدهر الأختام في أي مجتمع تأكد أنه يعاني الثقة والمصداقية، ويعلو فيه سوء الظن وامتهان الإنسان.

المصدر: الإقتصادية