محمد خميس
محمد خميس
محمد خميس روائي صدر له من أمريكا رواية لفئة المراهقين بعنوان "مملكة سكابا" ، وله باللغة العربية مسرحية أدبية بعنوان "موعد مع الشمس"

مقامة الرُقَعْ للشحاذ

آراء

حدثنا شَعَبْ بن عَرَبْ قال: بعد أن طالت مدة سجننا، وانكسر الأمل في خروجنا، وبات الذل طعامنا، والقسوة أساس يومنا، والإهانات شعار وجودنا، قررت ومعظم زملائي الهرب. سجننا لم يكن بالسجن العادي، وإن كان حارسه سادي، يتلذذ بالآلام، وينتهك الأحرام. كان السجن واسع الرقعة، إلا أنه قذر البقعة، خبيث الهواء، به أعداداً غفيرة من بشر وحيوانات كثيرة، يزاحم بعضنا بعضاً، كلٍ يتلمس طريقه ليمضي يومه، حتى إذا حل الظلام، يستسلم لنومه، عالم آخر، به السيارات تسير، والظلم هو السيد الذي يدير، ولا محاسبة لفساد الوزير، ولكن الويل كل الويل إذا سرق الفقير! سجن بلا جدران مادية، ولكن يمتليء بأعين استخباراتية، لها السلطة النهائية، والأحكام الانتهازية.

طلبت من المسجونين الاجتماع، وفتح آذانهم والاستماع، وإن أعجبهم حديثي؛ فالانصياع، ولهم الحق بأن يدلوا بدلوهم، ويقترحوا رأيهم. يقول شعب بن عرب: فتحلقوا حولي، واشرأبت الرقاب نحوي، وقبل أن أنطق، صرخ أحدهم أنهم موافقون على ما سأخططه، وعلى كل ما سأرتبه، فنهاه زعيم الدراويش، يسمى بـ أخ بن مسلم، ويكنى بالمرشد، يترأس مجموعة منظمة، كانت من ضمننا، وكأنها ليست مننا، تسيطر على البقالات، وتبيعنا الخضروات، وتعرف كيف تتحدث بلسان أهل السنة والجماعة، وتلحن القول وتظهر السماحة، تحبب الإحسان، وتخاصم النكران، تتلون حين يتطلب التلوين، وتتلوى بعذابات المسجونين، حين تعلو صرخات المظلومين، تطلق على نفسها اسم الإخوة، وتقسم بأنها: لنا يد مساندة، ولا تبتغي من هذه الدنيا سوى مصالحنا، ولا يهمها سوى إصلاحنا، وإنارة طريق هدايتنا، رفعوا شعار “ديننا هو حلنا”، فصدقناهم وتبعناهم، وأحببناهم وافتديناهم.

يضيف شعب بن عرب : وقف اخ بن مسلم، وطلب قبل أن يبايعني الناس، عليهم الإنصات ولُكْ الموضوع بتعقل، ثم استشارة الإخوة الأعزاء ففي رأيهم حكمة الحكماء، ورأي الدين والعلماء، فضحك الشحاذ، وهو رجل بيننا نحتقره، ولا مقام له لنعتبره، لا يميط عن وجهه لثامه، ولا نعلم له مُقامه، سمعناه يقول وسط قهقهته:

– مخطىء يوماً من ظن أن للثعلب ديناً.. أنتم دينكم دنياكم، ووعظكم نصب واحتيال، من يخالفكم يلقى الاغتيال، تمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، لا أمان لكم، والساذج هو من يقف في صفكم.

ألقموه حجراً، فوجل وجلاً، وانسحب وسكت، وحكت عيناه وبكت، فنهروه عن قلة الأدب مع الدراويش، فهم لا يكتبون الخرابيش، ولا يلفون العمامة على الطرابيش، تدخلت أذكرهم بالثورة، وانهاء هذه الدورة، وكسر قيد السجن، والتخلص من لبس الخشن، انصاعت الجموع تتبعني، لنخرج ونسقط الأقنعة، ونقتلع جذور الأوبئة، ومات بعض منا في القمع، لكننا صمدنا بفضل حماس الجمع، انتبهت وسط عجاج الاحتجاجات، انزواء الإخوة في ركن الزنزانات، فقلت لنفسي إنما هم دراويش، يشغلهم الدين عن السياسة، والآخرة عن الدنيا المياسة.

انتصرت بالعزيمة ثورتنا، وانتحى بعارٌ طاغيتنا، فعلقنا الزينات، وتأهبنا لسماع الخطابات، فإذا بالإخوة ينتحلون النصر، ويصرون على أنهم المحررين، وانهم أحق الجميع بالإمامة، وتاريخهم يشهد عليهم بالإشادة، وأنهم الحجام الذي حط عنا الثقل، والمطرقة التى كسرت رأس القفل. عُلُوّ صوتهم أقنعنا بأنهم لا يخوضون مع الخائضين، وأنهم سوف يطعمون الضعفاء والمساكين، وأنهم أبطالنا الذين انتظرناهم، وأنهم من سيحررنا من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، نحيّت بنفسي على جنب، واستلقيت كما غيري على كنب، وانتخبتهم تصديقاً لبطولاتهم رغم أني أعلم أكثر من غيري بأنهم كانوا من المتفرجين.

يكمل شعب بن عرب بأسى ويقول: وبعد اعتلائهم القمة، وإفساد الهمة، وإخلال القوانين، ورمي الدساتير، صادفت الشحاذ في طريقي ذات مرة، فاختبأت في مكان بحيث أراه ولا يراني، أنظر ما يصنع، فلما اطمئن أنه لوحده، مط اللثام عن وجهه، فإذا به شيخنا “وعي بن ضمير”، وسمعته ينشد ويقول:

برز الثعلب يوماً في ثياب الواعظينا
فأخذ يُرَوّج ويدعوا لإنتخاب الإخوة فينا
فصوتهم الباقي نسمعه يؤذن لصلاة الصبح فينا
والثعلب منهم واليهم اصبح فجأة خير الصالحينا
أضحى أميناً يدعو للوعظ ويَأُم العالمينا

مع الإعتذار لبديع الزمان الهمذاني ولأمير الشعراء أحمد شوقي، رحمة الله عليهما.

خاص لـ ( الهتلان بوست )