نظرة على مستقبل الإبداع

آراء

هل سيحلّ الذكاء الاصطناعي مكان الإبداع البشري، أم سيرتقي به إلى آفاق جديدة؟ الإجابة تكمن في كيفية استخدامنا له

يلاحظ القراء بلا شك شغفي الحالي بدراسة تأثيرات الذكاء الاصطناعي على مستقبل العلامات التجارية والاتصالات وخدمة العملاء. في الأسبوع الماضي، قرأت مقالاً ملهماً بقلم جين فول، محرّر العلامات التجارية في شركة التسويق ذا درم، والذي سلّط الضوء على التأثير الراهن للذكاء الاصطناعي على العمل الإبداعي وطرح من خلاله السؤال التالي: “هل سيحلّ الذكاء الاصطناعي مكان العقول الإبداعية البشرية؟”

وهذا سؤال مفصلي لا يمكن لأحد الإجابة عليه، بل يمكننا إعادة صياغته كالتالي: “هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحلّ مكان العقول البشرية المبدعة؟”، وأتوقع أن الجواب سيكون نعم بطبيعة الحال (ويبقى الأمر مرهوناً بالوقت). هل سيتمكن الذكاء الاصطناعي من السيطرة على المجال الإبداعي بشكل كامل واستبدال المبدعين البشر والعمليات الإبداعية؟ أعتقد أن الجواب بيدنا في نهاية المطاف.

يشكل الانتشار الواسع لمفهوم الذكاء الاصطناعي الذي يقترن استخدامه حالياً بالعديد من التطبيقات والأنظمة والأجهزة في مجال تعلّم الآلة، أمراً مثيراً للإعجاب والخوف في الوقت ذاته. وكما هو الحال مع معظم التقنيات الحديثة الناجحة، فإنه غالباً ما يكون من الصعب جداً التمييز بين الواقع والتكنهات.

هل سيحلّ الذكاء الاصطناعي مكان العقول الإبداعية؟

إنّ الذكاء الاصطناعي غير جاهز بكافة المقاييس لاستبدال عقولنا الإبداعية، حيث يمكننا تدريب أنظمة الذكاء الاصطناعي للتعلّم من مجموعة بيانات وتحليل التوجهات وتقديم الاقتراحات، بالإضافة إلى طرح مُخرجات لمجالات مختلفة، بما في ذلك العمل الإبداعي، إلا أن الذكاء الاصطناعي لم ينجح حتى الآن في محاكاة الجوانب المعقدة للفكر والإبداع البشري، ويرى البعض أن الموضوع يعتبر مسألة وقت حتى يصبح الذكاء الاصطناعي قادراً على استيعاب هذه الجوانب. فلنتخيل نظام ذكاء اصطناعي مدرب على خبرات وأفكار وأحلام أفضل مئة خبير في مجال الإعلان على مستوى العالم، هذا أمر وارد لكن ليس في الوقت الراهن.

ويتم حالياً استخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي لإنتاج مواد إعلانية إبداعية بدرجة نجاح متوسطة إن صح القول، إلا أن قوة الذكاء الاصطناعي تكمن في استهداف وتوظيف وتحسين مقومات العملية الإعلانية. هناك أيضاً مجموعة متزايدة من الأدوات التي أصبحت متاحة لتحليل المشاريع الإبداعية وتحسينها وتسريع مسارها، ومع وصول الذكاء الاصطناعي إلى كلّ حدب وصوب، سيصبح استخدام هذه الأدوات أكثر سهولة وسلاسة، مما سيسهم بشكل أفضل في عملية التطوير الإبداعي.

وانطلاقاً من المقالة التي نُشرت على موقع ذا درم، طرحتُ بعض الأسئلة الإضافية على موقع لينكد إن الأسبوع الماضي مثل “هل سيسرع الذكاء الاصطناعي عملية تدريب المختصين في المجالات الإبداعية وتطوير مهاراتهم؟ أم أن زيادة كفاءة الذكاء الاصطناعي ستؤثر سلباً على هذه المواهب الإبداعية الجديدة التي كان من الممكن أن تتطور بالطريقة التقليدية؟”

لا يمكننا وضع إطار يحدّ العملية الإبداعية

تلقيت الكثير من الأجوبة من مجموعة متنوّعة من خبراء الإعلان والتسويق والتكنولوجيا عبر التعليقات والرسائل النصية، ويمكنكم قراءة كافة التعليقات على منشوري من الأسبوع الماضي عبر الرابط. ولا بدّ لنا الآن من تلخيص بعض النقاط الرئيسية، فعلى الرغم من إجماع الكثيرين على أن الذكاء الاصطناعي ليس جاهزاً لاستلام زمام العمل الإبداعي البشري، إلا أنني لاحظت وجود بعض الآراء المخالفة تماماً.

إذ يرى البعض أن الذكاء الاصطناعي غير قادر ولن يستبدل العقول الإبداعية البشرية، حيث وضّح شريف الغمراوي من شركة فوتو فيجن بلس قائلاً: “ستبقى بعض الأمور محتفظة بطابعها البشري الفريد ولن تتمكن أي آلة من محاكاتها بشكل فعلي”، معتبراً العاطفة والخيال نقاط اختلاف رئيسية في هذا المجال. ويشاطره الرأي راميش نايدو جاريكاموكالا من شركة باجو أناليتكس مؤكداً أن الذكاء الاصطناعي لن يستبدل عواطفنا البشرية.

كما يتّفق إبراهيم لحود من شركة براند لاونج مع هذا الرأي، حيث يرى أنه يمكن للذكاء الاصطناعي أن يسرّع عملية تدريب وتطوير المبدعين، إنما ينوّه هنا إلى نقطة فارقة موضحاً: “يمكن للذكاء الاصطناعي أن يساعد في تصميم الشعار إلا أن المبدعين البشر هم من يقومون بإنشاء العلامة التجارية، حيث يمكن للذكاء الاصطناعي تحليل الأشكال والألوان، في حين أن البشر وحدهم قادرون على استقراء المشاعر والأحساسيس”.

ومن جهته، وضّح جاد هندي من شركة إم أر إم // ماك كان (عبر الرسائل النصية) أنّه لا يمكن تأطير العملية الإبداعية ضمن معايير محددة، قائلاً: “لا يمكن للذكاء الاصطناعي أن يسيطر على عملية صناعة الأفكار، إنما سيساعد في خلق الأدوات لذلك”.

يعتقد بعض خبراء استشراف المستقبل أنه يمكن للذكاء الاصطناعي استبدال العملية الإبداعية البشرية في مرحلة ما من المستقبل. فعلى الرغم من رأي ستيفن جاري من شركة إي إل بلوك تشين سيرفيس بأن “تعريف الذكاء الاصطناعي في هذا السياق لا يزيد عن كونه مجرد تكهنات في الوقت الراهن”،

يرى معظم الخبراء أن تقنيات الذكاء الاصطناعي تعد بتمكين وتغيير العملية الإبداعية على حد سواء، بما يشمل تطوير المهن. ويقول لحود: “الذكاء الاضطناعي لن يستبدل المبدعين إنما سيكون أداة مساعدة قوية للارتقاء بآفاق قدراتهم على الإبداع”. ويشاركه الرأي قاسم ناصر من الجامعة الأمريكية في بيروت قائلاً:” تحمل تقنيات الذكاء الاصطناعي تحديات وفرص جديدة لعقولنا البشرية إلا أنها غير قادرة على استبدالها”.

بينما يرى روبرت مكجوفرن من هوريزنتال ديجيتال أنه يمكن لأدوات الذكاء الاصطناعي الجديدة أن تلعب دوراً في عمليات العصف الذهني وتوليد الأفكار وربط مفاهيم مختلفة مع بعضها، بالإضافة إلى تسريع وتيرة أعمال البحث.

يمكننا أن نعتبر الذكاء الاصطناعي هيكلاً خارجياً داعماً للعقل البشري

أعتقد أن كيفية تأقلم المهن والقطاعات الإبداعية مع انتشار الذكاء الاصطناعي وغيره من التقنيات الجديدة سيلعب الدور الحاسم في تحديد ما إذا كانت هذه التقنيات ستمكننا من ابتكار وتطوير نتائج أفضل أم نقبل بما سيقدمه الذكاء الاصطناعي لنا. هذا ما وضّحه جوري سيلكا من شركة فولانتسيس أنالتيكس:”إن اكتساب مهارات جديدة وتوظيف أحدث التقنيات نقطة بالغة الأهمية بالنسبة للبشر من مختلف القطاعات والخلفيات”.

ولا شك أن العدّ التنازلي قد بدأ، حيث يشهد الذكاء الاصطناعي والتقنيات المشابهة تطوراً متسارعاً بوتيرة غير مسبوقة، ويبقى التغيير هو الثابت الوحيد الذي يمكننا توقعه. وكما يقول يورن كريستيان هوكي من شركة سيليكت وورلد: “علينا أن نعيد النظر في المعطيات الجديدة الآن”. وأوضح أنه يجب على روّاد المجال الإبداعي التعرّف على ملامح العملية الإبداعية في المستقبل، ناصحاً إيّاهم:

باعتبار “الذكاء الاصطناعي هيكلاً خارجياً داعماً للعقل البشري” وبرأيي قد وصل لما أريد الوصول إليه تماماً.

وفي ظلّ استمرار نمو إمكانيات الذكاء الاصطناعي، ستتغير ملامح العملية الإبداعية تدريجياً عمّا سبق، ويبقى السؤال حول سيطرة العقول البشرية على هذه العملية مرهوناً بالطريقة التي سنؤطر بها أدوار الذكاء الاصطناعي في المستقبل. وإذا كان الذكاء الاصطناعي قادراً على الارتقاء بآفاق الإبداع البشري إلى مستويات غير مسبوقة، فالمسؤولية تقع على عاتق العاملين في المجال الإبداعي لاستلام زمام الأمور والحفاظ على موقعهم الريادي في قلب العملية الإبداعية، فقد حان الوقت للاستفادة من هذه التقنية الجديدة على الوجه الأمثل.

** كارينغتون مالين هو رائد أعمال، وخبير تسويق وكاتب لديه اهتمام خاص بالتقنيات الناشئة.