رضوان السيد
رضوان السيد
عميد الدراسات العليا بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية - أبوظبي

وجه الإرهاب… والإرهاب المُضاد

آراء

في أُسبوع واحد أنجز «الجهاد» العظيم عدة إنجازات كبرى لجهتي القتل والتخريب: قتل عشرات المسيحيين في كنيسة بباكستان، وحوالي المائة في هجوم على مجمع تجاري بكينيا، وتفجير الناس بالسيارات في العراق، والاشتباكات بين «الجهاديين» في سوريا، وقتل عشرات من رجال الأمن والجيش باليمن! وقد دفعت هذه الإنجازات الفظيعة مجلة «الإيكونومست» إلى وضع «الوجه الحاضر للإرهاب الإسلامي» على غلافها لهذا الأُسبوع، كما كانت قبل أربعة أسابيع قد وضعت الوجه الحاضر للإرهاب البوذي في المكان نفسه. وعنْونَتْ على الصفحة ذاتها قبل شهرٍ ونصف الشهر، عندما استخدم الأسد الكيماويَّ ضد شعبه مخاطبةً أوباما: اضربوه بقسوة! والحال أنه في الحالات الثلاث، ما ضرب أحدٌ أحداً عقاباً أو استتابةً، ولا يزال القتل جارياً في سائر الحالات!

الأسد، شأنه في ذلك شأن شارون والقذافي وصدّام والأسد الأب وبينوشيه.. إلخ، ما كان منتظراً منه غير ذلك. فقد قال قبل أشهُر لوزير لبنانيٍّ حليف له إنه مستعد لتسليم سوريا إلى معارضيه كما استلمها أبوه، أي سبعة ملايين من السكان، والبلاد اليوم 24 مليون أو أقلّ بالنظر لما قتل الرجل وخرّب من أجل البقاء في السلطة! وقبل عامين رفع أنصار الأسد الشعار: الأسد أو تخرب البلد! وقد نفّذوا ما هدّدوا به.

لقد تبين أنّ ما يُسمَّى الصحوة عندنا، حدث في سائر الديانات وبخاصة اليهودية والبروتستانتية ثم الهندوسية والبوذية. وجيل كيبيل الذي كان بين أوائل مَنْ حَلَّل ظواهر الأصولية والعنف باسم الإسلام، يذهب إلى أن الهاجم باسم الدين يحدوه دافعان: الخوف من الآخر، والاستقتال لأنه خائفٌ من جهة، ولأنه يريد الجنة بالشهادة من جهة ثانية. وإذا كان المتشدد اليهودي خائفاً باعتباره أقليةً في كلّ مكان، فليس للهندوسي أو المسلم أن يخاف في أي مكان لأنهما ينتميان إلى أمة أو أُمم ضخمة هي بين الأكبر في العالم! لكنّ كيبيل يقول إن الأصولي المستقتل لا يخشى الإبادة بقدر ما يخشى الاستلاب أو ضياع الهوية بالاختراق. فالمسلم يخشى الغرب والتغريب؛ والهندوسي بهذا المعنى يخشى المسلم والتغريب، لأن المغول المسلمين حكموا الهند طويلاً، وجاء بعدهم الغرب لحوالي القرن ونصف القرن. وهكذا فإن الإحساس بمحاولات الإلغاء حقاً أو باطلاً يستميت في الدفاع عن نفسِه. أولاً بالانكماش والتحصن في المسائل المادية والشعائرية والرمزية. فيزداد حفاظه على شعائر دينه وعلى أشكال اللباس والتصرف. وقد ينتمي إلى جماعة أو مجموعة تمتلك الإحساس نفسه، وتجد لنفسها قائداً أو مرشداً لممارسة تحصُّنها من جهة، ولترتيب مسائل الانفصال عن الآخرين. وهذه الفترة لا تطول عادة، فإمّا أن يبدأ الاصطدام بالجماعة القريبة أو البعيدة التي تُعتبر أصل الداء. وهكذا حصل مع «القاعدة». فقد اصطدموا بالولايات المتحدة قبل أن يعودوا أدراجهم للاصطدام بالمحيط القريب.

بيد أنّ الدارسين للحالات الاستشهادية أو الانتحارية يختلفون حول النتائج وليس حول الدوافع. فالدافع هو الإحساس بالخطر الداهم، ومحاولة التخلص من ذلك الخطر بالإقدام على القتل، وفي اعتقاده أنه يقوم بذلك ليتجنّب هو نفسه القتل أو الإلغاء بأيّ سبيل. بيد أنّ طرائق الهجوم تختلف باختلاف الأهداف. فالذي يريد الخلاص من الاستعمار مَثَلاً يختلف سلوكه رغم تشابُه الدوافع، بمعنى أنه يحشد أكثر، ويجمع أكثر، وقد لا يتقدم للموت بالسرعة التي يتقدمُ بها طالب الشهادة بالمعنى الديني. لكن الإحساس واحد والدافع إلى حد ما واحد. وإنما تختلف النتائج لأن الأهداف تختلف. فطالبُ الخلاص من الاستعمار يملك هدفاً واضحاً هو تحرير وطنه، وإقامة دولة حرة مَثَلاً. وهو مستعد للموت لبلوغ هذا الهدف. وهذا ما لا يملكه طالبُ الشهادة بالمعنى الديني، إلا إذا صار الاستشهاد ذاته هو المعنى أو الهدف. بيد أن طلال أسد يذهب إلى أنه حتى في هذه الحالة؛ فإنه إلى جانب الاستشهاد بحد ذاته، يظلَّ هناك الإضرار بالعدوّ عبر الهجوم المباشر أو بالواسطة.

لقد كان كلُّ ذلك الاستطراد محاولةً لفهم الاستشهادي، أو الانتحاري، أو القاتل بدوافع دينية. وما أظن الأمر صار واضحاً أكثر. لأنه وبصراحة فإن دارسين كثيرين يجدون فوارق في القدرة على استخدام الدين في تبرير العنف، سواء أكان ذلك العنف محقاً أم لا. فبعض الأديان اليوم مثل بعض المذاهب المسيحية لا تُبيح استخدام العنف حتى في حالة الدفاع عن النفس. وقد احتاج الأمر في حرب فيتنام والحرب على «القاعدة» بعد 2001 إلى إثارة مسألة «الحرب العادلة» بحسب أوغسطين وكهنة العصور الوسطى، من أجل تجنب المسألة الأخرى الخطيرة المتعلقة بمفهوم الحرب الدفاعية أو متى تكون الحرب دفاعية. لكنْ كما استُخدمت المسيحية في ظروف كثيرة لتبرير العنف رغم طبيعتها المسالِمة، جرى أيضاً استخدامُ البوذية أخيراً، رغم عدم مشاركتها في العنف طوال قرون وقرون. فهل تتغير طبائع الدين في الأزمات الأمنية والسياسية، فيُقْدِمُ المرءُ على ما يخالف طبيعته هو وليس طبيعة دينه فقط، ويبرر ذلك دينياً؟! الدالاي لاما الزعيم البوذي المعروف ذكر شيئاً من ذلك عام 1999 عندما هدم الطالبانيون تمثالي بوذا في أفغانستان بالمدفعية. فقال: إن هذا العمل ليس أول عمل بربري يقوم به المسلمون أو المسيحيون ضدّ البوذيين المسالمين. فقد استعمر المسلمون بلادنا قديماً واضطهدونا، واستعمر المسيحيون بلادنا حديثاً واضطهدونا: “وهذه فظائع تُخرجُ الإنسان عن طوره وطبيعته، كما أخرجتنا الحكومة الصينية عن طورنا بما فعلته وتفعله في التبت». فأزمنة الأزمات الشديدة، أزمنةٌ أستثنائيةٌ للعنف والعنف المضادّ، إنما عندما تنتهي الأزمةُ أو تخفُّ، هل يتمكن أهل الانتحار والعنف باسم المقدَّس من العودة إلى طبيعتهم؟ هذا هو الذي يشكُّ فيه كثيرون، وبخاصةٍ إذا كان الذين مارسوا العنف باسم الدين قد نجحوا في تحقيق بعض الأهداف، أو أنهم ما وجدوا مقاومةً قويةً لنزوعاتهم العنيفة. لقد نجحت السياسات العنيفة والمذهبية لإيران في عدد من المناطق العربية، فهل بمقدور شيعة الفتوى والإمامة أن ينسحبوا من هجمات الضراوة والانقسام، رغم النجاح الذي تحقّق بحسب ما تمليه مصالح إيران القومية والاستراتيجية؟ هل يستطيع التشيع أو الدين الإسلامي مقاومة النزوعات الإمبراطورية لدى الإيرانيين ولدى الأتراك ولدى العرب إذا صلحت أمورهم؟!

ليس هذا هو الموضوع الوحيد الذي يُطرح بالنسبة للإسلام الشيعي والسني، واللذين مارس شبابهما عنفاً عنيفاً ولا يزالون. هناك الموضوع الآخر الميتافزيقي عن طبيعة الإسلام، وهل هي طبيعة عنيفة في النص والتجربة التاريخية؟ ولكيلا نغوص في الميتافيزيقا واستنطاق النصوص، نقول إنّ تجربة العرب والمسلمين في استخدام العنف ما كانت تابعةً لمضامين النص الديني، بل ظلت متعلقةً بقوة الدولة. فالدولة التي تدفع الأعداء، وتضبط الداخل، هي المَعْلَم الذي ينبغي تتبّعُ مساره من أجل فهم تجربة الإسلام التاريخية، أما التجربة المعاصرة فلها قوانين أُخرى.

يمارس المتشددون عنفاً وإرهاباً باسم الدين، ويزعمون دائماً أنه إرهاب مُضاد لأسباب كثيرة. والذي أراه أنّ العنف باسم الدين هو نزوع نفسي وعاطفي، يتحول مع الوقت إلى طبيعة ثانية أو مرض لا يمكن ضبطه أو النجاة من عنفه على القريب والبعيد. إنه ليس ردة فعل، وإلا لما استقتل ووضع الجنة هدفاً!

المصدر: صحيفة الحياة