عمرو مجدي
عمرو مجدي
باحث علوم سياسية في جامعة لوند بالسويد

يوم اختفى الإخوان من شوارع مصر

آراء

سيذكر التاريخ أن الإخوان المسلمين عاشوا ثمانين عاماً ونيفًا يحلمون بالوصول للسلطة كبوابة محلية لـ«أستاذية العالم» والانتشار في الكون والمجرات، لكنهم في عام واحد من وصولهم إليها كانوا بالكاد يتحسسون موطئ قدم لهم في شوارع مصر، متاورين في ميدان واحد، بعد أن فاضت بالغاضبين المتوعدين.

(1)

عن 30 يونيو ومظاهراته المتوقعة – والمُفاجئة في ذات الوقت – أتحدث، في هذا اليوم فضلت الابتعاد عن المسيرات الضخمة والسير في الشوارع لمراقبة أحوال الناس، وعلى الأقدام في شارع الهرم صادفت العديد من المسيرات العفوية التي لم أشاهد مثلها منذ 28 يناير 2011 وحتى ميدان الجيزة، أغلب هؤلاء كانوا بسطاء الناس الذين لم ألحظ عليهم أي مظاهر «تسييس»، مسيراتهم كانت صغيرة وعفوية، حتى هتافاتهم كانت بسيطة ومختصرة دون أي قيادة أو تنظيم.
مظاهر الاحتشاد الأخرى ضد الإخوان كانت متعددة، سائقو السيارات والميكروباصات، وفي محطة مترو الدقي كان الناس إما متجهاً للمظاهرات حول الاتحادية أو عائداً منها. لم أشهد طوال الرحلة شخصاً أو لافتة واحدة تؤيد الإخوان. كان العثور على ذلك ضرباً من المستحيل. وفي ظني أن أي مؤيد للإخوان في تلك الظروف كان في حال من ثلاثة: إما متوارياً في رابعة العدوية أو في بيته، أو مؤثراً الصمت خوفاً على سلامته الشخصية (وهو ملمح غير صحيّ بالمناسبة).

من محطة سراي القبة وحتى قصر الاتحادية انصهرت وسط أعداد لا تحصى من البشر، كانت تلك المظاهرات في تقديري هي الأكثر تعبيراً عن المصريين والأكبر حجماً والأكثر تنوعاً طبقياً واجتماعيا وسياسيًا منذ جمعة الغضب 28 يناير إن لم تفقها عدداً.

(2)

كلما اقتربت من القصر، أثلج قلبي بأعلام مينا دانيال وجيكا وخالد سعيد والهتافات المشبهة لمرسي بمبارك.. أمّا المظاهرات التي انطلق فيها البسطاء في عموم الشوارع والحواري احتوت بعض الأحيان على هتافات تهليل وترحيب بالجيش والشرطة. لم ينخرط كل الناس في تلك النوعية من الهتافات لكن الإنصاف يقتضي القول إنها كانت سمة من سمات اليوم.

الهتاف للجيش مفهوم بعد أن فقد الناس ثقتهم في الإخوان كنظام وفي المعارضة التي فشلت في تقديم بديل يُحترم.. أما الهتاف للشرطة فتفسيره منوط بظروف معقدة أحدها بالتأكيد هو النكاية في الإخوان.. لهذا الدرجة وصلت كراهية أحفاد البنا في قلوب المصريين. أما أخذ تلك الهتافات لبناء استنتاجات من نوعية أن الملايين التي احتشدت في ذلك اليوم هي محض فلول النظام السابق، أو أن المصريين يشتاقون لدولة مبارك فهي استنتاجات هزلية وسخيفة لا تستحق الرد. وهي في كل الأحوال مشاعر ليست جديدة في كتاب الثورات الذي يعج بالفاشيين الفاشلين الذين يُنسّون الناس بفشلهم ما فعله بهم الأولون.

(3)

لماذا وكيف اختفى الإخوان من الشارع المصري في ذلك اليوم؟ كيف آل الحال في عام واحد من وصولهم للسلطة لتلك الدرجة من لفظِ الناس لهم بعد أن كانوا دائما الفصيل السياسي الذي يتمتع بأوسع حاضنة شعبية؟

مارس الإخوان والإسلاميون منذ قيام ثورة يناير أبشع درجات الموالسة والنفاق لكل من جهاز الداخلية والمجلس العسكري، دافعوا عنهم ووصموا الثوار بالبلطجية والمأجورين ومعطلي المرحلة الانتقالية، وتساءلوا في خبث وضيع: «إيه اللي ودّاها هناك؟!» وفي المقابل، وبعد وصولهم للسلطة، مارس الإخوان أبشع درجات العناد والمكابرة والتكبر والاستعلاء على القوى الثورية والمعارضة، والشباب؛ الصانع الحقيقي للثورة، وظنوا أن لن يقدر عليهم أحد، وظنوا أن البلد بلدهم وأن أستاذية العالم على بعد أنملة وهم طرشان عميان لا يحبون الناصحين ممن أخلصوا لهم النصح دون أجر أو رغبة في مصلحة.. وأداروا ظهرهم لوعودٍ أبرموها مع القوى التي ساندتهم ضد شفيق ورموز مبارك.

واستمروا في ذات الوقت في الموالسة والنفاق لدولة مبارك أملاً في ضمان ولائها، ووصف رئيسهم الشرطة بأنها «صاحبة العبور الثالث» لضمان ولائها بدلاً من الاستناد لظهير ثوري شعبي لتطهيرها، ثم دستروا عسكرة مصر واقتصادها في دستورهم «الإسلامي» واحتكروا كتابته.. ورفعوا رواتب وأجور تلك الهياكل الأمنية كما لم يفعل مبارك ونظامه.

خشي الإخوان مواجهة أركان الفساد بقوة، فكانت معركتهم انتقائية فقط، تستخدم الخطاب الثوري لتمرير أجندة الجماعة، لضمان ولاء أجهزة الدولة لا لتطهيرها. فتراجعوا عن الحق، وبدلوا المواقف.. وتلونوا كالحرباء..
شاهد الثوار والشعب كل هذا التلوّن، مضافاً إليه توالي الكوارث والفشل الساحق في إنجاز أي تقدم اقتصادي أو سياسي، عجزت عن تحقيقه حكومة فاشلة ضعيفة لم ترق إلى التعبير حتى عن أشواق البسطاء.

وعلى عكس ما يدعي الإخوان إن فشل رئيسهم يعود إلى الحرب الإعلامية ومؤامرات الفلول، فإنهم ملكوا الإعلام الرسمي والفضائيات الدينية، ثم يتناسون أن ثورة يناير أسقطت مبارك رغم كل جبروته الإعلامي ورغم أنها واجهت أبشع حملة تشويه، فلا يوجد نظام ينجح أو يسقط فقط نتيجة لما يبثه الإعلام. أما مؤامرات الفلول فهي أيضاً لا تنجح أبداً في إسقاط نظام إذا تمتع بحب الناس ودعمهم. ومؤامرات الفلول كلها لا تعدو سوى محاولة لركوب الموجة الثورية، ومن غير المؤكد أنهم سينجحون في ذلك.

(4)

عاش الإخوان المسلمون ثمانين عاماً ونيفا مقاومين لمحاولات الاستئصال والاضطهاد السلطوي، محافظين بدرجات متفاوتة على حاضنة شعبية معقولة الحجم، وفي أسوأ الأحوال حافظوا على احترام قطاعات معتبرة من المثقفين والشعب لهم، لكنهم في عامٍ واحد من وصولهم للسلطة فقدوا جُل ذلك، وتربعوا على عرش الوجوه الملفوظة شعبياً بعد فلول مبارك، بعد أن قدموا أسوأ نموذج في الفشل والسلطوية والانفراد بالحكم وتسلط الأغلبية.

وبغض النظر عما تحمله الأيام القادمة، لقد كانت مظاهرات 30 يونيو أكبر وأقوى «لا» سياسية واجتماعية للإسلاميين تشهدها منطقة الشرق الأوسط منذ نشأة جماعة الإخوان. وسيكون لها ما بعدها، في المنطقة ككل.
والمؤكد حالياً أن مرسي سقط وانتهى، وأن الإخوان لن يحوزوا الرئاسة أبداً ثانية في المستقبل القريب، وأن عناد الإخوان لن يؤثر على مصير مرسي الراحل لا محالة، بل على مصير ومستقبل الجماعة السياسي والدعوي في مصر.

****

مازال مشوار الحق طويلا مع الفلول والعسكر، لكن كما قال أمل دنقل:

ربما ننفق كل العمر كي نثقب ثغرة..

ليمر النور للأجيال مرة.

المصدر: المصري اليوم