جمال الشحي
جمال الشحي
كاتب و ناشر من دولة الإمارات

قبر في قاع البحر

آراء

(“نحن عدنا ننشد الهولو على ظهر السفينة.. نحن عدنا يا بلادي لشواطئنا الحنينة”)،

في صغري سألت جدي: كيف توفي صديقك؟

نظر إليَّ بجسده المتعب، ومسح بكلتا يديه، تجعدات جبينه تريد أن تقول شيئاً، طال صمته، كنت أعلم أنه يتذكر الأعماق، ذلك القاع المظلم، وقبور من ماء، لرجال كانوا في صراع مع الطبيعة في سبيل الرزق، يتصارعون مع أسماك متوحشة، وأمراض غير متوقعة، فقط سكين في يده، يحمى بها نفسه، وكيس في خصره يجمع بها غنيمته.

كان يعلم مسبقاً أن كل اللآلئ التي سيجمعها لن تكون له، إنه العيش على الفتات أو الموت جوعاً، صراع بقاء في الماء، ما أصعبها من حياة.

طال صمته، كان عليَّ الحذر، كنت أعبث بذاكرة تتذكر! ما أقسى الذكريات على الرجال عندما تأتي على غير موعدها!

بهدوئه المعتاد أجاب، وأخذ يسرد القصة.. قبل المغرب بقليل في القاع، كأنما انفجرت أذنه! رفع إلى المركب نازف الأذنين، غسل وكفن وتمت الصلاة عليه، ربط بعدها بحجر ثقيل، وألقي ثانية في البحر، لم يكمل الثلاثين بعد، كأني أسمع الآن صوت ارتطام جثته بالأعماق، وبكاء زوجته عندما أعطيتها صندوقه، ونحيب الفقد.

لم يكمل قصته، رجع لوحدته، وأخذ يحرك في مسبحته.

-ما الفرق عند الموت وقبرك حفرة في التراب أو قبرك في قاع البحر؟ سألته ثانية، كنت صغيراً جداً لم أفهم حينها سر غضبه عندما أجاب لماذا يغدر بنا البحر؟

كانت الحياة قاسية جداً، وإذا كنت تعتقد أنك تعاني في حياتك الآن عليك أن تجرب صعوبة حياة أجدادنا، ولن أتطرق هنا للمقارنة ما بين زمنين مختلفين، لكنها خواطر جالت بخاطري، أفكار مبعثرة أود ترتيبها علها ترتبني!

علاقتهم الحذرة بالبحر، كيفية صمودهم، تعبهم وفقرهم الشديد، معاناتهم اليومية، أن تبقى ليوم آخر، وأن تعيش لترى أحفادك!

-كم جثة أُلقيت في البحر؟ سألته للمرة الثالثة

وما بين جوابه وصمته عمراً كاملاً، كنت أنتظر بشغف طفل، ولم يكن هناك جواب لسؤال الموت! كنت أتحدث عن أرقام لم يكن يعرفونها، عن شهادات لم يكن يحملونها، حين ينساك الزمن سوى من بعض الذكريات المتفرقة هنا وهناك.

من يستطيع أن يوثق المعاناة وقسوة الحياة، إذا أردت شهادة على العصر أنظر إليهم، تأمل في تقاطيعهم، أنصت لصمتهم، كانوا يريدون أن يقولوا لنا شيئاً عندما غفل العالم عنهم وعاملهم كفقراء، والآن ينتبه لهم من أغمض بالأمس عينه عنهم.

سر بقائهم كان حبهم لهذه الأرض، عشقهم لقيادتهم، قوتهم في صبرهم على معاناتهم.

قال بصمته في هذه الأرض الجميلة ما يستحق العيش ما يستحق الموت.

انتهى الصيف، في رحلة العودة، يأمر النوخذة فيطلق المدفع طلقة مدوية، ويعرف حينها كل من في المدينة باقترابهم، ينتظرونهم بلهفة الأمواج، ويستقبلونهم بحنين الشواطئ.

كان جدي معهم يحمل أجزاءً من كفن صديقه، ودراهم قليلة تكفي لحياة مقبولة، وسعال لن ينتهي، فترة راحة قصيرة، يستعد بعدها لرحلة موت ثانية.

المصدر: جريدة الاتحاد