شيء عفن يحدث في سوريا

آراء

عنوان المقال مأخوذ من عبارة شهيرة لـ«هاملت» أحد أشهر شخصيات «شكسبير»، غير أن الحديث هنا عن واقع هو أغرب من خيالات الروائيين والمسرحيين والأدباء، حيث يقوم نظام في القرن الحادي والعشرين بقتل شعبه بكافة الأسلحة أمام عالم لا يكاد أحد يحرك ساكنا.

خلال عامين ظل دخان المأساة في سوريا يتكاثف ويكبر، وتنمو تحته طحالب الضغائن والأحقاد التي تتحول أشجارا، وإحن الطائفية ودماؤها تسيل وتفيض أنهارا وبحارا، وقد ضمن بشار الأسد عبر سياسيات واعية اتخذها من أول يوم أن يخلق في سوريا فتنة طائفية يصعب كثيرا على من يأتي بعده – أيا كان – أن يخمدها.

سياسيا، لم يكن لهذه المأساة الإنسانية أن تستمر في سوريا إلا لأنها أصبحت بحكم التطورات الدولية والإقليمية مركزا للصراع الدولي والإقليمي في لحظة مضطربة من التاريخ أقدمت فيها دول الغرب بقيادة الولايات المتحدة على خيارات، ظهر لاحقا أنها لم تكن محسوبة بالدقة المفترضة حسب تصريحات مسؤوليها تجاه ما كان يعرف بالربيع العربي، وأصرت فيها بما يشبه العناد، الصين، وروسيا الاتحادية الجديدة التي تخلت عن كل أثقال الاتحاد السوفياتي وأعبائه وهي تنعم باقتصاد متنام، على عدم ترك آخر معاقلها في المنطقة دون ضمان مصالحها.

وإقليميا، كان للسعودية ودول الخليج موقف سياسي متقدم تجاه الأوضاع في سوريا، ولم يزل ذلك الموقف يتصاعد ويحشد الدعم والتأييد الدولي في كل المؤتمرات الدولية التي عقدت لدراسة الشأن السوري، وكانت رأس حربة في مؤتمرات أصدقاء سوريا وفي غيرها من المحافل الدولية والإقليمية والعربية.

وفي خضم التدافع الدولي الذي لم يصل لمرفأ بعد قامت على الأرض مآس إنسانية يشيب لها الولدان، وعذابات بشرية تدمي العقول قبل القلوب، فأكملت دول الخليج مشروعها السياسي تجاه سوريا بمشروع إنساني.

انعقد في دولة الكويت يوم الأربعاء 30 يناير (كانون الثاني) تحت رعاية الأمم المتحدة، مؤتمر دولي للدول المانحة لسوريا، وكانت دول الخليج هي الدول الأقوى حضورا والأكبر دعما للشعب السوري، فقدمت الكويت الدولة المضيفة والسعودية والإمارات، ما يقارب المليار دولار بواقع ثلاثمائة مليون دولار لكل دولة، وهو دعم يغطي الأشهر الخمسة المقبلة، كما صرح بذلك وزير الخارجية الكويتي.

إنه دون شك عمل إنساني مهم يأتي مكملا للدور السياسي وداعما له، وها هي وسائل الإعلام تنقل أخبارا قد تحمل شيئا من التحول في المواقف الدولية، فتصريحات رئيس الوزراء الروسي ميدفيديف، ومن بعده وزير الخارجية لافروف، خلال الأسبوع الماضي، تمنح إيحاء بتغير ما يحدث في الموقف الروسي المتعنت سابقا، وبخاصة طبيعة اللوم الذي قد يصل حد التقريع من قبل ميدفيديف للأسد.

والرئيس الأميركي المنتخب لولاية جديدة باراك أوباما، قال بأنه سيدرس «جدوى» التحرك تجاه سوريا، ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون صرحت قبل تركها لحقيبتها، بحديث مماثل، وإسرائيل بحذرها الأمني المزمن بدأت تضرب عسكريا أي تنقلات للأسلحة النوعية لنظام الأسد قد يكون لها تأثير عليها مستقبلا.

وقفت إيران ونظام الأسد وحزب الله مكتوفي الأيدي تجاه تلك الضربة العسكرية الإسرائيلية؛ فمعركتهم ليست مع إسرائيل بل مع الشعب السوري، فالنظام الإيراني كان يقود معركته مع إسرائيل بالشعارات دائما، ونظام الأسد كان أفضل حام لإسرائيل لما يزيد على أربعين عاما، أما حزب الله فقد تعلم الدرس جيدا في مغامراته السابقة.

وفي الداخل السوري فقد أصبح واجبا ملحا على الطائفة العلوية بسوريا أن تجد لنفسها ملتجأ يبتعد بها عن بشار الأسد ورهاناته السياسية الخاسرة التي تدفع بها لمزيد من المعاناة في قابل الأيام.

ليس شيء أكثر مقتا من الحديث عن الطائفية، وليس شيء أكثر تأثيرا لدى السياسي من توظيفها، ولكنها معطى واقعي لم تزل هذه المنطقة من العالم تكتنزه وتمتلئ به، فالطائفية تمثل غريزة مكبوتة يفيض بها التاريخ، وتنضح بها المجتمعات، وتختصم على تمثيلها أو استغلالها التيارات والأحزاب والجماعات والتنظيمات.

ليس بدعا من التاريخ، ولكن جناية على الواقع اختارت الجمهورية الإسلامية في إيران استغلال الطائفية كورقة سياسية بالغة التأثير، وقوية المفعول في كثير من صراعاتها منذ نشأتها، وزادت في السنوات الأخيرة، وقد كان العلويون النصيريون في سوريا في قلب تلك السياسية الإيرانية.

العلويون أو النصيريون في سوريا لحقهم ظلم تاريخي ومجافاة دينية تصل إلى حد الاضطهاد، أعقبها استغلال سياسي أضر بهم كثيرا، أما الظلم التاريخي فيكمن في اللعب برواية تاريخهم الذي ظل غامضا على الدوام، ومستعصيا على الباحثين المستقلين من مستشرقين وعرب، وقد دفع به كل بالاتجاه الذي يناسبه، وأما المجافاة الدينية فقد كانت من الشيعة والسنة على السواء؛ فقد نبذهم الشيعة الذين ينتمون وإياهم لذات المرجعية الدينية، وقد مارس بعض السنة تجاههم مجافاة أخرى تتعلق بطبيعة توصيفهم والعلاقة معهم، أما الاستغلال السياسي، فقد حاول الصفويون استخدامهم ضد العثمانيين، وسعى الفرنسيون لجعلهم شوكة في استقرار الشام، ثم جاء الاستغلال الأقسى من قبل حافظ الأسد في الدولة السورية الحديثة، ومن ثم من الجمهورية الإسلامية في إيران، وأخيرا الأسد الابن.

معلوم أن العلويين قد تعرضوا لاضطهاد تاريخي كغيرهم من الأقليات، ولكن أيا من تلك الأقليات لم تتخذ مواقف انتقامية ضد الأكثرية، ولم تحملها أعباء التاريخ بقوة السلطة والنظام، هذا مع التأكيد على أن استحضار بعض حقائق التاريخ بما تشمله من عقائد وطوائف، مفيدة لقراءة المشهد المعاصر.

أيا ما كانت المصائر التي تدفع لها أحداث اليوم فإن الطائفة العلوية يجب ألا تدفع ثمن جرائم الأسدين، فأخذ الناس جملة بسبب انتماءاتهم الطائفية أو القبلية أمر مناقض للعقل والحضارة والعدل.

قدم كثير من المستشرقين الكثير من الدراسات والأبحاث المهمة في رصد وقراءة وتحليل بعض المعطيات المهمة في الواقع العربي والشرقي بعموم، كالطائفية والقبلية والعرقية ونحوها، وبغض النظر عن أهدافهم أو إمكانية توظيفهم لأهداف سياسية ما، فإن إنتاجهم يظل ثريا ومفيدا في تلك الجوانب تجدر مراجعته والاستشهاد به في أي محاولة جادة لقراءة جوانب هامة من تاريخنا الحديث أو المعاصر، في وقت استنكف فيه كثير من الباحثين العرب رصد تلك المعطيات وتحليلها وقراءة تأثيراتها تحت شعارات كانت تبدو أكثر بريقا وتأثيرا، كالقومية العربية أو الشيوعية أو البعثية.

سيظل «هاملت» الواقع السوري يتنقل كثيرا بين إحن التاريخ وتناقضات الواقع وآمال المستقبل، وكل الأمل أن يجد طريقه للخلاص.

المصدر: صحيفة الشرق الأوسط